د. عمر حماد  عضو هيئة علماء فلسطين

عن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) رواه البخاري في باب (لا يقول فلان شهيد)

وعنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ، بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَن يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» رواه البخاري

الشرح والتعليق

1-         هذا الحديث يدل على أن الإخلاص شَرطُ قَبولِ العملِ، وقد يكونُ العملُ وَبالًا على صاحبِه إذا لم يُخلِصِ النِّيَّةَ للهِ سُبحانه وتعالَى، كما أنَّه يكونُ فَوزًا ونَعيمًا إذا أخْلَصَ النِّيَّةَ.

2-         وقد اختلفت الآراء خلال الأيام الماضية فيمن قتل على يد الصهاينة في لبنان بين من يترحم عليهم ويذكر محاسنهم ووقفتهم مع أهل غزة، وبين من يكفرهم لاعتقاداتهم المعروفة أو يذكر مساوئهم مع أهل سوريا.

3-             قوله (الله أعلم بمن يجاهد في سبيله) أي: إنَّ اللهَ تعالَى أعلَمُ بالنِّيَّاتِ، وأعلَمُ بِمَن خَرَج لتَكونَ كَلمةُ اللهِ هي العُلْيا ممَّن خَرَج ليُحصِّلَ مَتاعَ الدُّنيا، والشُّهرةَ والبُطولةَ؛ فمَن خرَجَ مُخلِصًا للهِ تعالَى فإنَّ أجْرَه مِثلُ أجْرِ الصَّائمِ الذي يَصومُ الفَريضةَ بالنَّهارِ، وهو مع صَومِه نَهارًا قائمٌ يُصلِّي لَيْلَه بخُضوعٍ وإخلاصٍ للهِ تعالَى، فجَمَعَ بذلك بيْن أجْرِ العِبادتينِ بفَضْلِ اللهِ، ومَثَّلَه بالصَّائمِ؛ لأنَّ الصَّائمَ مُمسِكٌ لنفْسِه عن الأكْلِ والشُّربِ واللَّذَّاتِ، وكذلك المجاهدُ مُمسِكٌ لنفْسِه على مُحارَبةِ العدوِّ وحابسٌ نفْسَه على مَن يُقاتِلُه، وكما أنَّ الصَّائمَ القائمَ الَّذي لا يَفتُرُ ساعةً مِن العبادةِ، كذلك المجاهدُ لا يُضيِّعُ ساعةً مِن ساعاتِه بغَيرِ أجْرٍ.

4-         قوله (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) يعني: ليس كل من خرج يصير مجاهداً، فقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياء، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فالذي يقاتل حمية لقبيلة على قبيلة، أو يقاتل عصبية لدولة على دولة، أو لفئة على فئة، ولا يقاتل هؤلاء لأنهم كفار، وإنما يقاتلهم ليتغلب عليهم، أو ليستولي على بلادهم، أو يقاتلهم لأجل المغنم الذي يحصل عليه من جراء هذا القتال ومن آثاره، أو يقاتلهم ليُرى مكانه أو نحو ذلك؛ فهذا ليس من المجاهدين في سبيل الله، إنما الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي قصده نصر الإسلام، ونصر دين الله تعالى، ويستحضر قوله تعالى(إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) وقوله(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) فالنصر نصر لله ولرسوله ولدينه، فهذا هو الذي يجاهد في سبيل الله، لذلك قال(والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)

5-         قوله (أَن يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) تَكفَّل ووَعَد مَن خَرَج مُجاهِدًا بإحدى الحُسنيَيْنِ؛ إمَّا أنْ يَتوفَّاه شَهيدًا فيُدخِلَه الجنَّةَ، أو يُرجِعَه سالِمًا مَأجورًا بجِهادِه أعداءَ اللهِ، سَواءٌ رَجَع بلا غَنيمةٍ، فيكونُ له الأجرُ وحْدَه، أو رجَعَ بالغنيمةِ، فيكونُ له الأجرُ مع الغَنيمةِ.

6-         الجهاد هو قتال الكفار،  يستدعي غالباً خروجاً من البلاد، وسفراً طويلاً أو قصيراً، ويستدعي كذلك تزوداً بالمال، ثم يستدعي مقابلة الكفار، والتصدي لهم، ويستدعي الاستعداد للموت وللقتل؛ حيث إن المقاتل ينصب نفسه أمام العدو فإما أن يَقتُل، وإما أن يُقتَل، فهو قادم على ذلك، وكأنه قد فدى نفسه، وكأنه قد عزم على أن يخوض هذه المعركة ليحصل ما حصل، وأغلى شيء عنده نفسه وقد بذلها لله تعالى، فلا جرم أنّ أجره عظيم، كما قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً) فلذلك حاز المجاهد في سبيل الله على هذا الفضل.

7-         وفيما يلي أقوال بعض أهل العلم في شرح الحديث وبيان المراد منه:

أولا: قال السندي في حاشيته على صحيح البخاري: “(باب لا يقول فلان شهيد) أي: بالنظر إلى أحوال الآخرة، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا؛ فلا بأس، وإلا يشكلُ إجراءُ أحكام الدنيا، والله تعالى أعلم” اهـ.

ثانيا: قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور: “هذا تبويبٌ غريبٌ، فإنّ إطلاقَ اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد الإسلامي ثابتٌ شرعاً، ومطروقٌ على ألسنة السلف فمَن بعدَهم، وقد ورد في حديث (الموطأ) وفي (الصحيحين) أن الشهداء خمسة غير الشهيد في سبيل الله، والوصف بمثل هذه الأعمال يَعتمدُ النظرَ إلى الظاهر الذي لم يتأكّد غيرُه، وليس فيما أخرجه البخاريُّ هنا إسناداً وتعليقاً؛ ما يقتضي منعَ القول بأن فلاناً شهيدٌ، ولا النهي عن ذلك.

فالظاهر أن مراد البخاريّ بذلك؛ أنْ لا يجزمَ أحدٌ بكون أحدٍ قد نالَ عند الله ثوابَ الشهادة؛ إذ لا يدري ما نواهُ من جهاده، وليس ذلك للمنع من أن يُقال لأحد: إنه شهيد، وأن تجريَ عليه أحكام الشهداء إذا توفّرت فيه، فكان وجهُ التبويب أن يكون: باب لا يُجزَمُ بأنّ فلاناً شهيدٌ إلا بإخبارٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم” اهـ.

ثالثا: أما الإمام ابن حجر رحمه الله؛ فتأول عبارة الإمام البخاري بقوله في “فتح الباري” (6/90): “(باب لا يقول فلان شهيد) أي على سبيل القطع بذلك إلا إنْ كان بالوحي”.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء

والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين

مع تحيات د. عمر حماد

الجمعة 11/10/2024م

الموافق 7/ربيع الثاني/1446هـ