د. عمر حماد عضو هيئة علماء فلسطين
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ قَالَ: «وَاللَّهِ لاَ تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا» رواه البخاري.
وفي رواية عند البيهقي في دلائل النبوة من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَاللهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ فَأَمَّا ظَاهِرًا مِنْكَ فَكَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، قَالَ مَا إِخَالُ ذَاكَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ لِبَنِيَّ: الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَعَبْدِ اللَّه بْنِ الْعَبَّاسِ وَقُثَمِ بْنِ الْعَبَّاسِ! فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ: واللَّه يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، إِنَّ هَذَا شَيْءٌ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، وَغَيْرَ أُمِّ الْفَضْلِ، فَاحْسُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَصَبْتُمْ مِنِّي عِشْرِينَ أُوقِيَّةً مِنْ مَالٍ كَانَ مَعِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْكَ». فَفَدَى نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ وَحَلِيفَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] ، فَأَعْطَانِي اللهُ مَكَانَ الْعِشْرِينَ الْأُوقِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ عِشْرِينَ عَبْدًا، كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ، مَعَ مَا أَرْجُو مِنْ مَغْفِرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ “. إسناده حسن وصرح ابن إسحاق فيه السماع.
الشرح والتعليق
- في هذا الحديث دليل على جواز اخذ الفداء من الأسرى مقابل الإفراج عنهم، وقد ورد ذلك في قوله تعالى (فإمّا منًّا بعدُ وإمّا فداءً).
- العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: هو عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجَدَّةُ العباس (أم عبد المطلب) من بني النجار من يثرب، ولذلك طلب الأنصار أن يمنّ النبي صلى الله عليه وسلم على عمه دون مقابل فقالوا: (فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ).
- يظهر أدب الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم لرسول الله: (ابن أختنا) لتكون المنة عليهم في إطلاقه، بخلاف لو قالوا: (عمك) لكانت المنة عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من قوة الذكاء وحسن الأدب في الخطاب، ولا شك أن العمّ أقرب بكثير من حفيد الأخت، ومع ذلك لم يقولوا: عمك.
- امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابة شفاعة الأنصار في عمه لئلا يكون في الدين نوع محاباة، وهنا يتعلم الأسرى والمسلمون أيضا درسًا بليغًا في عدم محاباة ذوي القربى، بل كان الأمر على خلاف ذلك، فقد أغلا رسول الله الفداء على عمه العباس.
- وتفصيل القصة باختصار أنه عندما وقع العباس في الأسر كان معه من المال عشرون أوقية، وطلب العباس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب هذا المبلغ من الفداء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رفض طلبه، لأن المال الذي كان معه عند الأسر يعدُّ من الغنائم، وطلب من العباس أن يقوم بفداء نفسه واثنين من أبناء إخوته (لأنهم فقراء)، وحليفٍ لهم، فاعتذر العباس بأنه لا يملك مالا، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع بينه وبين زوجه أم الفضل، وهي دليل على النبوة، إذ لم يكن معها أحد عند حدوثها.
- ذكر العباس للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مسلما يكتم إيمانه، وأنه اضطر للخروج مع المشركين في بدر، ورفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل اعتذاره وقال: (الله أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَاللهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ، فَأَمَّا ظَاهِرًا مِنْكَ فَكَانَ عَلَيْنَا). فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر، والظاهر أن العباس خرج مقاتلا ضد المسلمين.
هذا الموقف تحديدا يعلمنا كيف نتعامل مع من يكون جنديا في جيش الاحتلال من عرب أو مسلمين، أو دروز أو غيرهم، فالحكم للظاهر، والظاهر أنه يقاتل معهم فهو منهم كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عمه العباس.
- وهكذا يرينا الرسول عليه الصلاة والسلام كيفية تطبيق القانون على كل الناس، يطبق هذا القانون حتى وإن كان على العباس بن عبد المطلب، وقد تعجب الصحابة رضوان لله عليهم من هذا الموقف، وكان الأنصار رضي الله عنه وأرضاهم في قلوبهم رقة عجيبة، لما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأخذ الفداء من عمه، وعمُّه يحبه، خاصة أن العباس رضي الله عنه وأرضاه كان واقفاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية، فمعنى هذا: أنه قريب جداً من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو كـأبي لهب.
- قال العباس تعليقاً على هذه الآية بعد ذلك: (فأعطاني الله عز وجل مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل)، لأن الله قال (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
- قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا مُوسِرًا فَفَادَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وتعقبه الإمام ابن كثير فقال: وَهَذِهِ الْمِائَةُ كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلٍ وَنَوْفَلٍ، وَعَنْ حَلِيفِهِ عُتْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، كَمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
مع تحيات د. عمر حماد
الجمعة 26/4/2024م
الموافق 17/شوال/1445هـ