خاص هيئة علماء فلسطين

         

د. عمر حماد  عضو هيئة علماء فلسطين

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» رواه البخاري.

الشرح والتعليق

1-         في هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأنّ من نوى غَزْوًا، أو غيره من الطاعات فعَرَضَ له عذر منعه من الفعل حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر التأسف على فوات ذلك، أو تمنى كونه من الغزاة ونحوهم كان أكثر ثوابا كما قال الإمام النووي.

2-         قوله (إن أقوامًا بالمدينة خَلْفَنَا) بسكون اللام أي وراءنا.

3-         قوله (ما سلكنا شِعْبًا) بكسر الشين وسكون العين، والشِّعْب الطريق في الجبل

4-         قوله (إلاّ وهم معنا فيه) أي معنا في الثواب، وفي رواية عند ابن حبان وأبي عوانة من حديث جابر: (إلاّ شركوكم في الأجر) بدل قوله (إلا وهم معنا فيه).

5-         وفي رواية عند أبي داود: (لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلاّ وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر).

6-         قوله (حبسهم العذر) العذر هو أعم من المرض فيشمل عدم القدرة على السفر وغيره، وفي رواية عند مسلم من حديث جابر: (حبسهم المرض) وهو محمول على الغالب، وفي حُكمِهم الفقراءُ والضُّعفاءُ الَّذين لم يَقدِروا على الغَزوِ لضَعفِهم، أو لعَدمِ وُجودِ زادٍ لهم أو دابَّةٍ يَركَبونَها.

7-         كل من تأخر عن العبادة بعذر، فلا يخلو من حالين،

(الأولى) أن يكون من عادته أن يعملها، ثم يطرأ عليه ما يحول بينه وبينها، فهذا له أجر فعلها كاملة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيما.

(الثانية) ألا يكون من عادته أن يعملها، ولكن يتمناها ويود أن يكون قادراً عليها فهذا القسم لا يخلو من حالات:

(أولا) أن يهم بالطاعة ثم يتركها كسلاً وتهاوناً؛ فهذا يثاب على الهم الأول، ولكن لا يثاب على الفعل؛ لأنه لم يفعله بدون عذر.والدليل على ذلك: حديث ابن عباس – رضي الله عنهما –، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه – عز وجل – قال: قال: ” عن الله – عز وجل كتب الحسنات والسيئات؛ ثم بيَّن ذلك: فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملة، فإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة … “.

       (ثانيا) أن يهم بالطاعة، ويعزم عليها، ولكن يتركها لحسنةٍ أفضل منها؛ فهذا يثاب ثواب الحسنة العليا التي هي أكمل، ويثاب على همه الأول للحسنة الدنيا. والدليل على ذلك: حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أنَّ رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله! إني نذرت إنْ فَتَحَ الله عليك مكة أنْ أُصلي في بيت المقدس ركعتين. قال: ” صلِّ هاهنا “، ثم أعاد عليه، فقال: ” صلِّ هاهنا “، ثم أعاد عليه، فقال: ” شأنك إذاً “.

وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أرشد من نَذَرَ الصلاة في بيت المقدس – وهو أدنى من المسجد الحرام – بالصلاة في المسجد الحرام، لأن ثوابها أكثر، فيحصِّل صلاةً مضاعفة في المسجد الحرام أكثر من بيت المقدس، وهو مع ذلك مأجور على نيته بالصلاة في بيت المقدس بالنصوص الأخرى.

(ثالثا) أن يقترن بالنية قولٌ أو سعيٌ بأسبابها، ولكن لم يدرك هذا العمل؛ فهذا وقع فيه نزاع بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه يكتب له الأجر كاملاً مع المضاعفة، وهو اختيار القرطبي في أحكام القرآن، والقرطبي في المفهم.

القول الثاني: أنَّ له أجر النية فقط، وهو اختيار السبكي الكبير – فيما نقله ابن حجر في الفتح ولم يتعقبه، فلعله يرى رأيه، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في شرح رياض الصالحين.

القول الثالث: أنه يكتب له أجر النية مع العمل دون المضاعفة، وهو اختيار ابن رجب – رحمه الله – في جامع العلوم والحكم.

8-         من الأمور المستفادة من الحديث:

(أ) عظم شأن النية، وأنها تبلغ صاحبها مبلغ العاملين إذا عجز عن العمل ولم يستطع العمل النية لها شأن كبير؛ ولهذا سبق قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فالأعمال تجعل القاعد مع العاملين بنيته الطيبة عند عجزه وتجعل عمله نافعًا ومفيدًا أينما كان.

(ب‌)       من أخلاق النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه كان يَحفَظُ لأصحابِه فَضْلَ بعضِهم على بَعضٍ، ويُظهِرُ فيهم مَناقِبَهم، ويَعذِرُ مَريضَهم، ويُعِينُ ضَعيفَهم.

(ت‌)       التحذير من التشبه بأفعال المنافِقين الَّذين يَتخلَّفون عن الجهاد والغَزواتِ بأعذارٍ غَيرِ حَقيقيَّةٍ خَوفًا مِن الجهادِ والقتالِ، واستِثْقالًا لِمَشقَّةِ وعَناءِ السَّفرِ، أو بُخلًا بمالهم كراهة الإنفاق.

9-         وأختم كلامي هنا بأن الناس في نصرة أهلنا في غزة على أصناف فمنهم من ساند وأيد ونصر وساعد بالمال والنفس، وأمدهم بالطعام والشراب والدواء بمختلف الطرق فهذا مأجور، ومنهم من تمنى أن يكون معهم ولكن العذر منعه لفقره او مرضه أو غيره فهذا مأجور أيضا، ومنهم من سكت عما يجري معهم فلم ينصرهم ولم يساعدهم ولم يتمنَّ أن يكون معهم فهذا من المقصرين، ومنهم من قصر معهم فلم يساعدهم أو ينصرهم، بل خذلهم ووقف مع عدوهم وشارك في حصارهم فهذا آثم موزور، أراحنا الله منهم.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء

والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين

مع تحيات د. عمر حماد

الجمعة 8/3/2024م

الموافق 26/شعبان/1445هـ