خاص هيئة علماء فلسطين
21/11/2024
الأستاذ الدكتور/ كامل صبحي صلاح
أستاذ الفقه وأصوله
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
قال الله تعالى: ﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ (١) وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا (٢) فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا (٣)﴾ [النصر: ١-٣].
سورة النصر من السور المدنية، وسُميّت سورة النصر بهذا الاسم؛ لافتتاحها بذكر نصر الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين في فتح مكة المكرمة.
– تفسير السورة:
قال الله تعالى:﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ [النصر: ١]، أي: إذا تمَّ لك -أيها الرسول- النصر على كفار قريش وأعدائك من المشركين، وتمّ لك فتح مكة المكرمة، وجاءك نصر الله عزّ وجل لدينك، وإعزازه له، ورفعته، وعلوّ مكانته ومنزلته.
وقوله تعالى: ﴿وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا﴾ [النصر: ٢]، أي: ورأيت الكثير من الناس يدخلون في
دين الله تعالى زُمَرًا، فوجًا فوجًا، ويدخلون في دين الإسلام جماعات جماعات، ويكون كثير منهم من أهله وأتباعه وأنصاره، بعد أن كانوا من أعدائه، وقد وقع هذا، والواقع يشهد بذلك.
وقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا﴾ [النصر: ٣]، أي: فإذا وقع النصر وحصل الفتح فاشكر له سبحانه على نعمة النصر والفتح ودخول الناس في دينك وانتهاء دين المشركين الباطل، وتهيأ للقاء ربّك سبحانه وتعالى بالإكثار من التسبيح بحمده واستغفاره، والقيام بشكره وذكره سبحانه وتعالى، فهو تبارك وتعالى كثير التوبة على المسبّحين والمستغّفرين، فيتوب عليهم ويغفر ذنوبهم ويرحمهم ويقبل توبتهم.
وهذه الآيات المباركات نزلت في آواخر أيّام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي تحمل علامة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قرب ودنوّ أجله.
ومفهوم ﴿وٱسْتَغْفِرْهُ﴾ أي: أُطلب منه المغفرة توبة منك إليه، واطلب منه المغفرة لما فرط منك مما هو ذنب في حقك لقربك وكمال علمك، وأما غيرك فليس هو بالذنب الذي يُسْتَغْفَرْ منه ويَنابُ إلى الله تعالى منه.
ولقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُكثر من قول: (سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ أسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ)، ففي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت:«كانَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ مِن قَوْلِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ أسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ قالَتْ: فَقُلتُ يا رَسولَ اللهِ، أراكَ تُكْثِرُ مِن قَوْلِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ أسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ؟ فَقالَ: خَبَّرَنِي رَبِّي أنِّي سَأَرى عَلامَةً في أُمَّتِي، فَإِذا رَأَيْتُها أكْثَرْتُ مِن قَوْلِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ أسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ، فقَدْ رَأَيْتُها ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والْفَتْحُ﴾ [النصر:١]، فَتْحُ مَكَّةَ، ﴿وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أفْواجًا، فَسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّه كانَ تَوّابًا﴾ [النصر:٢-٣]» «أخرجه مسلم (٤٨٤)».
والإخبار بذلك كلّه قبل وقوعه إخباره بغيب، فهو من أعلام نبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي هذه السورة دلالة واشارة إلى أمرين مهمين عظيمين:
الأول: استمرارية النصر لهذا الدين الإسلامي العظيم، ويعظم هذا النصر ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله تعالى وشكره واستغفاره، لكون هذا من الشكر للخالق تبارك وتعالى، والله تعالى يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
والثاني: إشارة إلى قرب ودنوّ أجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجه ذلك أنّ عمره عمرٌ فاضلٌ أقسم اللهُ جلّ وعلا به. وقد عهد وعرف أنّ الأمور الفاضلة تُختم بالاستغفار، كالصلاة والحجّ، وغيرها من أنواع العبادات والطاعات والقربات.
قال السعدي في تفسيره: فإنّ في ذلك إشارتين: إشارة لأن يستمر النصر لهذا الدين، ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله تعالى واستغفاره من رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من الشكر، والله تعالى يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه الأمة لم يزل نصر الله تعالى مستمرًا، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان، ودخل فيه، ما لم يدخل في غيره، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث، فابتلاهم الله بتفرق الكلمة، وتشتت الأمر، فحصل ما حصل.[ومع هذا] فلهذه الأمة، وهذا الدين، من رحمة الله ولطفه، ما لا يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
وأما الإشارة الثانية، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله ﷺ قد قرب ودنا، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم الله به. وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك. فأمر الله تعالى لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه. فكان ﷺ يتأول القرآن، ويقول ذلك في صلاته، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي».
– وقيل إنّ آخر سورة نزلت من القرآن الكريم هي سورة النصر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. ففي الحديث عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: «تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، قَالَ: صَدَقْتَ» «أخرجه مسلم، (3024)».
ويؤيد هذا القول ما ورد عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنّ هذه السورة أشارت إلى أجل النبي صلى الله عليه وسلم ونعت إليه نفسه. ففي الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلا لِيُرِيَهُمْ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَقَالَ لِي أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لا قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَذَلِكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَقَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلا مَا تَقُولُ» «أخرجه البخاري، (4970)».
وعنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما، قال: لَمّا نَزلَت: ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ﴾ دَعا رَسولُ اللهِ ﷺ فاطِمَةَ، قال: نُعِيَت إليَّ نَفسي، فبَكَت، قال: لا تَبْكي؛ فإنَّك أوَّلُ أَهلي لاحِقٌ بي، فضَحِكَت، فرَآها بَعضُ أَزواجِ النَّبيِّ ﷺ، فقُلنَ: يا فاطمَةُ، رَأيناكِ بَكيْتِ ثُمَّ ضَحِكتِ! قالتْ: إنَّه أَخبرَني أنَّه قَد نُعِيَت إليهِ نَفسُه، فبَكيْتُ، فَقال لي: لا تَبْكي؛ فإنَّك أوَّلُ أهْلي لاحِقٌ بي، فضَحِكتُ، و﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ﴾، وَجاء أَهلُ اليَمنِ: هُم أَرَقُّ أَفْئِدةً، والإيمانُ يَمانٍ، والحِكمةُ يَمانيَةٌ»
«أخرجه أحمد (١٨٧٣) مختصراً بنحوه، والدارمي (٧٩)، والطبراني (١١/٣٣٠) (١١٩٠٧) باختلاف يسير، الألباني، هداية الرواة (٥٩١٥)، إسناده حسن».
وعن ابنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما قال لما نَزلتْ ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْحُ﴾ دعا رسول الله ﷺ فاطمةَ فقال لها إنهُ قد نُعيَتْ إليّ نفسِي فبكتْ فقال لها اصبرِي فإنكِ أولُ أهلِي لُحُوقًا بِي».
«ابن حجر العسقلاني، الكافي الشاف (٣٢٨)، له شاهد في الصحيحين، أخرجه الدارمي (٧٩)، والطبراني (١١/٣٣٠) (١١٩٠٧)، والبيهقي في (دلائل النبوة) (٧/١٦٧) مطولاً باختلاف يسير. ونعي نفس النبي صلى الله عليه وسلم إليه أصله في صحيح البخاري (٤٢٩٤)».
وإنّ من المقاصد العظيمة لهذه السورة:
– البشارة من الله تبارك وتعالى لنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والوعد بنصرٍ عظيمٍ، وهو فتح مكة المكرمة.
– والبشارةُ بدخول خلائق كثيرةٍ في دين الإسلام.
– وأمرُ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بشكر هذه النعمة بتنزيه الله تعالى والإكثار من استغفاره وشكره.
– والإشارةُ إلى اكتمال هذا الدين الإسلامي العظيم.
– والاشارة إلى قرب أجل النبي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وانتقاله إلى الدّار الآخرة.
– وبيان عاقبة الإسلام بالنصر والفتح، وما يُشْرع عند حصول ذلك.
– ومشروعية نعي الميت إلى أهله ولكن بدون إعلان وصوت عال.
– وجوب الشكر عند تحقق النعمة ومن ذلك سجدة الشكر.
– ومشروعية قول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) في الركوع.
هذا ما تيسر ايراده من تفسيرٍ لهذه السورة العظمية، نسأل الله العليّ الأعلى أن ينفع بما كُتب، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله سبحانه النصر والعزّة. التمكين لدينه، والثبات على وشريعته، وأن يصرّف قلوبنا إلى ذكره وشكره وطاعته، ووالدينا أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.
الأستاذ الدكتور/ كامل صبحي صلاح
أستاذ الفقه وأصوله
٢١\٤\ ١٤٤٦ه – ٢٤\ ١٠\ ٢٠٢٤م
——————————————————–
المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم.
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، للإمام محمد بن جرير الطبري.
3- الجامع لأحكام القرآن، (تفسير القرطبي)، للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي.
4- تفسير القرآن العظيم، (تفسير ابن كثير)، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير.
5- معالم التنزيل(تفسير البغوي)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي.
6- التسهيل لعلوم التنزيل، لأبي القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي.
7- فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني اليمني.
8- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبدالرحمن السعدي.
9-أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، الشيخ جابر بن موسى بن عبد القادر المعروف بأبي بكر الجزائري.
10- المختصر في التفسير، مركز تفسير.
11- التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
12- التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي.
13- صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري
14- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري
15- مسند الإمام أحمد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني.
16- الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
17- سنن الدَّارِمِي، الحافظ شيخ الإسلام بسمرقند أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي السمرقندي.
18- المعجم الكبير للطبراني، الإمام أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني.
19- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخراساني.
20- هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.