1/3/2025
د. محمود سعيد الشجراوي / قسم القدس في هيئة علماء فلسطين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الصادق الوعد الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال تعالى : ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)). سورة الإسراء الآية (1).
نعم، إنه بيتُ المَقْدِسِ، إنهُ البيتُ المُقَدْسُ؛ بوّابة الأرض إلى السماء، كما أنها بوّابة السماء إلى الأرض. لقد حظيت هذه المدينة المباركة المقدسة بالحظ الأوفى والأوفر في معجزة الإسراء والمعراج: إليها كان الإسراء، ومنها كان المعراج؛ فالقدس هي المحور. وعليه فمن حقنا أن نتساءل: ما الحكمة الربّانية أن كان الإسراء إلى القدس، وكان المعراج منها؟ ولماذا لم يكن المعراج من مكة المكرمة إلى السماوات العلا مباشرة؟
ويمكننا تلخيص الجواب بالنقاط التالية:
- إعلانٌ من رب السماوات والأرض عن إسلامية هذه الديار، حيث فتحت روحيًا وإيمانيًا بمعجزة الإسراء والمعراج، لأن المعجزات تمثل جزءً من العقيدة الإسلامية.
- ربط المسجد الأقصى المبارك بالمسجد الحرام وربط القدس بمكة المكرمة رباطًا عقديًا وتعبديًا:
فهذه المدينة المباركة حظيت بالحظ الأوفى والأوفر في معجزة الإسراء والمعراج: إليها كان الإسراء، ومنها كان المعراج؛ فالقدس هي المحور
والرباط العقدي يتمثّل أولًا بذكر الله لهما بالقرآن الكريم فقد جمعتهما آية الإسراء، والرباط التعبدي لكون القدس القبلة الأولى للمسلمين فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أربعة عشر عامًا وقبلته المسجد الأقصى المبارك، وأن مكة المكرمة قبلة المسلمين الثانية ، وإن كان المسجد الحرام هو القبلة الأولى لكل الموحدين فهو القبلة الثانية للمسلمين، وأنّ شد الرحال بقصد التعبّد يكون إلى المساجد الثلاثة: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”. متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
- ربط المسجد الأقصى المبارك وربطت بيت المقدس بالسماوات العلا من خلال المعراج، والله سبحانه وتعالى يقول: ((والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علّمه شديد القُوى، ذو مرّةٍ فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسيْن أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلةً أُخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنّةُ المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى)). سورة النجم الآيات 1-18.
- ربط السماء بالقدس من خلال أمريْن مهميْن، هما:
الأمر الأول: صلاة الرسول محمد بالأنبياء عليهم السلام إماماً: فقد صلّى رسولنا الأكرم محمد (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) في ساحة المسجد الأقصى المبارك، إمامًا بالأنبياء فهو إمامهم وخيرهم صلى الله عليه وسلم ، وإن في صلاته بهم إمامًا معانٍ كثيرةٍ لا يكاد يحصيها الباحثُ المجدُّ، لعل أهمها تبعهم له ومبايعتهم له وتقديمهم له صلوات ربي وسلامه عليهم جميعًا.
الأمر الثاني: مشروعية الصلاة: لقد فُرضت الصلاة على المسلمين في سماء بيت المقدس في المعراج، والمعلوم أن الصلاة هي ركن من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وعماده.
ونظراً لأهمية الصلاة فإن الله عز وجل خاطب نبيه ومصطفاه مباشرة وبلّغه فرضيتها، في حين أن سائر الأركان والتكاليف الشرعية الأخرى شُرعت بواسطة جبريل (عليه السلام).
نزول الأنبياء من السماوات العلا معجزة من المعجزات للدلالة على أن معجزة الإسراء والمعراج لا تمثّل معجزة واحدة بل تضمنت عدة معجزات
وأرى أن فرض الصلاة في سماء بيت المقدس، أثناء المعراج، تكريمٌ كبير لهذه المدينة التي حباها الله بالبركات وبالقداسة. وقد روى الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله نحو بيت المقدس 16 شهراً ثم حرفنا نحو الكعبة”. أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وهذا الحديث النبوي الشريف صريح بأن المسجد الأقصى هو أولى القبلتين للمسلمين وفيه ذكرٌ لفترة صلاة رسول الله باتجاه بيت المقدس بعد الهجرة .
وقد روت الصحابية الجليلة ميمونة بنت سعد رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس. قال: “أرض المحشر والمنشر، إئتوه فصلّوا فيه، فإن صلاةً فيه كألف صلاة في غيره.” قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمّل إليه؟ قال: فتهدي له زيتاً يسرج في قناديله، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه”. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي بإسناد صحيح. وهذا الحديث النبوي الشريف صريح بارتباط مدينة القدس بالعقيدة الإسلامية، لأن المحشر والمنشر جزء من يوم القيامة. ومعنى “أتحمل إليه” أتمكن من الوصول إليه، “فتهدي له زيتا ” كناية عن إعماره والتبرع له. وفي لفظ “يسرج فيه” بدلاً من لفظ ” يسرج في قناديله”.
وقال رسول الله “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرّهم مَنْ خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ورجاله ثقات. وهذه بشارة من الرسول محمد عليه السلام للأمة الإسلامية بأنّ الفئة المنصورة هي التي ترابط في بيت المقدس رباطاً مباشرًا بأجسادهم أو أولئك الذين يرابطون على الثغر المعرفي لبيت المقدس داخل وخارج فلسطين ينتظرون يومًا يأذن الله تعالى فيه بالزحف لتحرير بوابة السماء القدس والمسجد الأقصى المبارك.
وليس أدلَّ من فضلها ما ورد في فضل الدفن في الأرض المقدسة: فقد ورد في قصة وفاة سيدنا موسى عليه السلام حيث قال حين أتاه ملك الموت “ربِّ أمتني في الأرض المقدسة رمية بحجر”. رواه البخاري ومسلم والنسائي عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه منزلة القدس في الإسلام، إنها بوابة الأرض إلى السماء، وكذلك هي بوابة السماء إلى الأرض، وأن الله رب العالمين قد حباها بعدة مميزات وبركات ومنحها للمسلمين، جميع المسلمين، في أرجاء المعمورة منذ بعث الله الأنبياء حتى قيام الساعة ويخطئ الباحثون الذين يجعلون لمدينة بيت المقدس تاريخًا قبل الإسلام فأنا أزعُمُ أن تاريخ هذه المدينة إسلامي مذ نشأت حول المسجد الأقصى المبارك نشأة دينية كما نشأت مكة المكرمة حول المسجد الحرام نشأة دينية وبما أن كل الأنبياء جاءوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فتاريخ هذه المدينة إسلاميٌ مذ نشأت وبنتها الملائكة في رواية أو وضع أبونا آدم أساسات المسجد الحرام والمسجد الأقصى المبارك في رواية أخرى وزاد في إسلامية هذه المدينة المقدسة والمباركة حادثة الإسراء والمعراج وتشرفت وتزينت حين زارها أشرف وفد شمل كل الأنبياء والرسل الذين جمعهم الله تعالى ليكونوا في استقبال الوفد الأشرف والأكرم محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام على البراق وما زالت القداسة والبركة فيها حتى قيام الساعة.
فهلّا تنبّه المسلمون في هذه الأيام لهذه المدينة المباركة المقدسة؟! وهلّا أعطوها العناية اللائقة بها؟! وهلاّ تذكّروها وهي في الأسر؟! وهي تحت وطأة الاحتلال؟! أم هم عنها لاهون غافلون؟!
إننا نخاطب العالم الإسلامي، في كل يوم، لنقول لهم: إن الله تعالى سائلكم عن بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك يوم القيامة فأعدوا لهذا السؤال جوابًا صوابًا.
“إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”. سورة ق -الآية 37.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.