خاص هيئة علماء فلسطين

         

خطَّة صلاح الدين العسكرية لفتح بيت المقدس

11/7/2024

بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي   (الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مثلت الخطوات التي سبقت فتح القدس العبقرية الفذة والمهارة القيادية الفريدة للسلطان صلاح الدين رحمه الله، والتي قد  تجلت في عدة جوانب ومنها:

  1. البُعد العسكري: تجلَّت مقدرة صلاح الدين الحربية تلك الخطَّة العسكرية التي اتَّبعها في جهاده ضدَّ الصليبيين لاسترداد بيت المقدس، وقامت تلك الخطَّة على تكوين جبهة إسلامية موحَّدةٍ تضمُّ مصر وبلاد الشام، وأجزاء من العراق، ثمَّ منازلة الصَّليبيين في عقر دارهم، وإنزال ضربةٍ قويةٍ بهم، كما حدث في معركة حطِّين. وتلا ذلك مسيره إلى مدن السَّاحل الشامي لإضعاف الصليبيين مادياً ومعنوياً. ولو اتَّجه صلاح الدين عقب انتصاره في حطِّين إلى بيت المقدس؛ لتمكَّن من دخوله بدون عناء، إلا أنَّ استيلاءه على بيت المقدس قبل السيطرة على مدن السَّاحل لن يضمن له الاستقرار التام في بيت المقدس؛ إذ كان من المتوقع قيام الغرب الأوروبي بإرسال الجيوش الصليبية إلى موانىء الشام، ومجيء فرسانه زرافاتٍ ووحدانا، والدُّخول مع صلاح الدين في معارك حامية لاسترداد بيت المقدس؛ الذي فيه كنيسة القيامة؛ لاعتقادهم الباطل كما يقول العماد الأصفهاني: أنَّ فيها صلب المسيح وقُرِّب الذبيح، وتجسَّد اللاهوت وتألَّه الناسوت، وقام الصليب (حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ياسين سويد،  ص96).

وبفضل الله، ثم بتلك الخطة العسكرية؛ التي نفَّذها صلاح الدِّين بسيطرته على الشريط السَّاحلي عزل بيت المقدس، ومنع وصول الإمدادات إليه، وقطع كلَّ أملٍ للصليبيين، سواء في الغرب الأوروبي أو في بلاد الشام في الوصول إلى بيت المقدس، وإنقاذه من جيوش المسلمين. ولما استردَّ صلاح الدين من الصَّليبيين عسقلان وغيرها من البلاد المحيطة ببيت المقدس، وضمن بذلك إحكام العزلة على مملكة بيت المقدس؛ شمَّر عن ساق الجدِّ والاجتهاد، وعزم على قصد بيت المقدس فأصدر أوامره، واجتمعت عليه جميع العساكر الإسلاميَّة التي كانت متفرقةً في الساحل (النوادر السلطانية، بهاء بن شداد، ص81).

2 ـ البُعد الإعلامي: كانت تلك الحشود العسكرية الإسلاميَّة قد شاركت صلاح الدِّين في معركة حطين، واستغلَّ صلاح الدين تواجدها في الشام قبل عودتها إلى إقطاعاتها في السَّيطرة على مدن وموانىء السَّاحل، وحرص صلاح الدين على أن يسبق مسيره إلى بيت المقدس حملةٌ إعلاميةٌ إلى كافَّة أطراف العالم الإسلامي بقصد استنفار المسلمين للجهاد، الأمر الذي ثارت معه عزائم المسلمين بالعزم على الجهاد، والاشتراك في تطهير تلك البقعة المقدَّسة أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم. ذكر أبو شامة وابن كثير: أنَّ المسلمين ما إن بلغهم ما منَّ الله به على صلاح الدين من فتوح السَّاحل الشامي، ومن ثم قصده المسير إلى بيت المقدس؛ حتى توافدوا عليه من كلِّ مكان، يتقدَّمهم العلماء والفقهاء؛ الذين قدِموا للتطوُّع في الجهاد لتصفية الوجود الصَّليبي من بلاد الشام (البداية والنهاية، ابن كثير، ص209).

3 ـ اِستدعاء القوات المصرية: ومن ناحيةٍ أخرى فقد استدعى صلاح الدين القوات المصرية أثناء قيامه بالاستيلاء على السَّاحل لمساعدته في الاستيلاء على المدن والقلاع الجنوبية، واجتمع بابنه الملك العزيز عثمان في عسقلان، فقرَّت به عينه، واعتضد بعضده. ويبدو: أنَّ صلاح الدين على الرغم من سيطرته التامة على مدن وموانىء السَّاحل الشامي، كان يتخوَّف من هجوم صليبي من الغرب أثناء تقدُّمه إلى بيت المقدس، لذلك أمر الأساطيل المنصورة بالمسير للمشاركة في الجهاد، فسارت إليه من مصر يتقدَّمها الحاجب لؤلؤ، وأخذت تجوب البحر وتقطع الطريق على سفن الصَّليبيين ومراكبهم، في الوقت الذي كانت فيه الإمدادات تصل من مصر إلى الشَّام براً وبحراً بكلِّ سهولة، وعندما علم صلاح الدين بأن مدينة بيت المقدس قد أخذت قسطاً وافراً من التَّحصين؛ لما تتمتع به مِنْ مكانه عظيمة في نفوس الصليبيين؛ حرص على إحضار أدوات الحصار الكافية لاقتحام أسوارها ذات الأبراج العالية، فأحضر معه المنجنيقات والعرَّادات، والنَّفاطات والقطاعات، وعُدَدَ النقوب، وغيرها من الأدوات اللازمة لدك الأسوار ونقبها، ثم حشو تلك النقوب بالحطب والنفط، وإشعال النيران فيها لفتح ثغرات في الأسوار يمكن من خلالها اقتحام الأسوار، ودخول المدينة (صلاح الدين والصليبيون، عبدالله الغامدي، ص210).

4 ـ الحصار والقتال: كان الصليبيون قد بدأوا القتال قبل تمركز جيش المسلمين حول أسوار المدينة، أي: قبل 20 أيلول، وذلك عندما تقدَّمت مفرزةٌ من طليعة الجيش الإسلامي نحو الأسوار بقيادة الأمير جمال الدين شروين بن حسن الرازي، فخرجت إليها مفرزةٌ من حامية المدينة، فقاتلتها وهزمتها وقتلت أميرها، وقد حدث هذا قبل أن يتمركز صلاح الدين بجيشه في الجانب الغربي من السُّور. ومهما يكن من أمر؛ فقد بدأ صلاح الدين قتاله الفعلي ضدَّ العدو المتحصِّن داخل أسوار المدينة في صباح 26 أيلول سبتمبر 1187 م، 21 رجب 583 هـ، فتقدَّم بجيشه نحو الأسوار بغطاءٍ كثيف من المدفعية التي كانت سائدةً في ذلك العصر «وهي المجانيق»، وكان عددها 12 منجنيقاً كبيراً ترمي الحجارة الكبيرة، وتقدَّم تحت هذا الغطاء أيضاً النقَّابون الذين بدأوا ينقبون في السُّور، ودار القتال عنيفاً بين الفريقين: حامية المدينة تحاول أن تنال من المسلمين، وتوقف تقدُّمهم بسهامها ونبالها ومجانيقها مِنْ الأسوار ومن التَّحصينات، وهي تقاتل بعنفٍ وضراروةٍ لا مثيل لهما، بينما كان فرسانها يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون؛ إلا أنَّ ذلك لم يكن ليثني المسلمين عن تقدُّمهم ونقبهم للأسوار وتدميرها، وتدمير التحصينات بمجانيقهم.

وقد قتل في هذه المعركة من الفريقين الكثير، وممَّن قتل الأمير عز الدين عيسى بن مالك، وكان والده صاحب قعلة جعبر، واستمرَّ القتال عنيفاً بعد ذلك، ويصف «غروسيه» المعركة التي دارت عند أسوار المدينة بأنَّها كانت من الضراوة ما لم يُسمع بمثله، كما كانت عطشاً حقيقياً للشَّهادة. وهو يستطرد: لقد كانت: المعارك الأكثر ضراوةً، كما لم يشهده إنسان، فكلُّ رجل من الجيشين كان ينظر إلى الصِّراع كفعلٍ دينيٍّ والتزامٍ حتميٍّ. وقد كان تفوُّق صلاح الدين في المدفعية إلى درجة: أنَّ سقوط المدينة كان حتمياً، وأنَّ النقابين العاملين تحت غطاءٍ من حجارة المجانيق نجحوا في فتح ثغرة في جدار السُّور، وقرَّر الفرسان والنبلاء الصَّليبيون القيام بهجومٍ انتحاريٍّ على المسلمين خارج الأسوار؛ إلا أنَّ بِطْريقهم «هرقل» ردعهم عن ذلك بعد أن أقنعهم أنَّ «عملهم البطولي» هذا لن يكون سوى التخلي عن النساء والأطفال للعدوِّ بلا دفاع (صلاح الدين، على الصلابي، ص436).

5 ـ الهجوم الحاسم: بعد هذا القتال العنيف قرَّر صلاح الدين أن يشنَّ هجوماً حاسماً على المدينة، وكثَّف رمايات المجانيق مغطياً تقدُّم المهاجمين بحجارتها وسيل من السِّهام والنبال يطلقها الرُّماة نحو المدافعين عن السُّور والحصون؛ لكي تشلَّ مقاومتهم ممَّا جعل أولئك المدافعين يتراجعون عن مراكزهم، بينما تقدَّم المسلمون، واجتازوا الخندق الخارجي المحفور حول السُّور، ثم التصقوا به وعملوا به نقباً وتهديماً، واشتد قصف المجانيق وتوالى رمى السِّهام والنبال من الرُّماة المتقدِّمين خلف المهاجمين يحمونهم، ونجح المهاجمون في فتح ثغرات عديدة في السُّور؛ الذي أوشك أن يصبح ملكاً للمهاجمين، وفي وقت ما من تاريخ 29 أيلول/سبتمبر (1187) استطاع المهاجمون فتح «ثغرةٍ كبيرة» في السُّور نفذ منها المسلمون، ورفعوا راياتهم عليه، إلا أنَّ المدافعين ما لبثوا أن احتشدوا، وردوا المسلمين عن السُّور، ورغم ذلك فقد أيقن المدافعون أن لا جدوى من دفاعهم، وأنَّهم مشرفون على الهلاك، بل إنَّهم هالكون حتماً؛ إن هم استمروا في عنادهم، وتزاحم الناس في الكنائس للصَّلاة والاعتراف بذنوبهم، وأخذوا يضربون أنفسهم بالحجارة ويرجون المدد والرَّحمة من الله، وقطعت النِّساء شعور بناتهنَّ على أمل استثارة الرِّجال لحمايتهنَّ من سبي المسلمين لهنَّ (حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، سويد، ص101).

6 ـ المفاوضات، وتسليم القدس إلى صلاح الدين: اتَّفق الصَّليبيون على إرسال الرُّسل بطلب الأمان مقابل تسليم المدينة لصلاح الدين، وامتنع صلاح الدين عن إجابتهم إلى ذلك، وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمئة من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها. فلما أعاد صلاح الدين رسل الصَّليبيين خائبين محرومين؛ اجتمع الصَّليبيون مرةً أخرى داخل بيت المقدس، وحاولوا القيام بهجمات مفاجئة ضدَّ المسلمين، ولكن البطريرك هرقل اعترض على ذلك، وأوضح لهم أنَّهم لو فعلوا ذلك؛ فإنهم سيسوقون نساءهم وأطفالهم إلى العبودية، وحرَّضهم على طلب الأمان من صلاح الدين، فأرسل باليان دي ابلين إلى صلاح الدين طالباً الأمان لنفسه، ليحضر عنده للتفاوض، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحضر باليان عنده، وسأله الأمان للصَّليبيين، فأصر صلاح الدين على فتح المدينة بالسَّيف.

فلما يئس باليان من ذلك؛ أراد ـ أن يستثير عطف صلاح الدين بالتَّهديد بقتل النساء والأطفال وأسرى المسلمين، حيث قال له: أيها السلطان اعلم أنَّنا في هذه المدينة خلقٌ كثير، لا يعلمه إلا الله، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظناً منهم أنَّك تجيبهم إليه، كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا لابدَّ منه؛ فوالله لنقتلنَّ أبناءنا ونساءنا، ولنحرقن أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منها ديناراً واحداً ولا درهماً، ولا تسبون وتأسرون رجلاً ولا امرأة. وإذا فرغنا من ذلك؛ أخرجنا الصخَّرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل مَنْ عندنا من أسارى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك الرَّجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء ونظفر كراماً (صلاح الدين والصليبيون، الغامدي، ص214).

واستشار صلاح الدين أصحابه، فأوضحوا له أنه يكفي للبرِّ بقسمه أن يستولي على بيت المقدس بحدِّ السيف، وأن تستسلم المدينة بشروط كأنَّها سقطت بالقتال، وفي هذه الحالة يعتبر سكان المدينة أسرى حرب. فأجابهم صلاح الدين إلى الأمان مقابل تسليم بيت المقدس، ووافق على مغادرة الصَّليبين المدينة مقابل فداء يدفعونه، فجعل على الرَّجل عشرة دنانير، يستوي في ذلك الغني والفقير، وعلى المرأة خمسة دنانير.

ويضيف كلٌّ من سبط ابن الجوزي والعماد الحنبلي: أنَّ صلاح الدين جعل على الصبي أربعة دنانير. أما بالنسبة للطفل فقد اختلف فيما فرض عليه، فذهب البعض إلى أنَّ فديته دينارٌ واحد، في حين يرى البعض الآخر: أنَّ فديته ديناران، ويبدو: أن الرأي الأول أرجح بدليل إجماع المراجع الصليبية على ذلك. أما الفقراء والمعدمون؛ فقد وافق صلاح الدين على أن يدفع «باليان» مقابل إطلاق سراحهم مبلغاً إجمالياً قدره ثلاثون ألف دينار، وحدَّد صلاح الدين لباليان مدة أربعين يوماً، فمن أدَّى فديته خلالها أُطلق سراحه، ومن بقي بعدها صار مملوكاً. وسلمت المدينة يوم الجمعة 27 رجب 583/12 أكتوبر 1187 م (صلاح الدين، الصلابي، ص438).

وذكر أبو شامة نقلاً عن العماد في البرق الشامي: أنَّ الصليبيين عقب توقيع اتفاقية التسليم شرعوا في إخلاء البيوت، وبيع ما ادَّخروا من الأثاث، والأقوات بأرخص الأثمان، وكان شبيهاً بالمجان لا سيما ما تعذَّر نقله، وصعب حمله، وكانوا كما قال الله تعالى: ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰت وَعُيُون (٢٥) وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم (٢٦) وَنَعۡمَة كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ (٢٧) كَذَٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ (28)﴾ [الدخان: 25-28].

المراجع:

  1. البداية والنهاية للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، دار هجر، الطبعة الأولى 1419 هـ 1998 م.
  2. حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، اللواء الركن د. ياسين سويد، دار الملتقى للطباعة والنشر، طبعة عام 1997 م بيروت، لبنان.
  3. صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبد الله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405 هـ 1985م.
  4. صلاح الدين، على محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.
  5. النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد، تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سوريا، الطبعة الأولى 2003 م.