المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة
بقلم: أبو يزيد بن صفية المدني
إنّ من آكد الواجبات الشرعية والحقوق المرعية بين المؤمنين هو المسارعة للذب عن حرماتهم المنتهكة، ودمائهم المهراقة
وهذا من تمام الولاية المعقودة بين المؤمنين إلى يوم الدين، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة 71).
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال 72).
وفي ظلّ هذه الأحداث المؤلمة المدلهمة، التي ألقت بظلالها القاتمة على ربوع أرض العزّة؛ “غزّة” نجد المسلمين قد انقسموا تجاه قضية النصرة إلى طوائف شتى، وطرائق قدداً، أكثرهم قد جانب الصواب في فعاله، وإن حسن قصده، وليس ذلك بشافع له.
وإنّ الناظر بعين الناقد البصيرة، يجدّ هذه الطوائف ترجع في الغالب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المرجفون والمثبّطون والمتقاعسون.
فهؤلاء الفئة من المخالفين والمتخلفين، والمثبطين والمتقاعسين عن نصرة إخوانهم المسلمين – الذين يصطلون بجحيم الهمجية اليهودية الصهيونية الحاقدة -، وهم في سباتهم يغطّون، كما قال القائل:
في كلّ يوم تستباح ديارنا …… ونساق نحو الذبح كالقطعان.
شعب يباد وأمّة مقهورة ……. والناس بين مذبذب وجبان.
هم مسبّة الأزمان، ومذلّة الأوطان، قد أشربت قلوب أكثرهم بالنفاق، وأدنفت صدورهم بالأمراض والعاهات، قال تعالى في وصفهم: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب 60).
وليتهم إذ تخلفوا سكتوا، ولكنهم أرجفوا وثبطوا همم المنتصرين، فليحملن أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم كاملة يوم الدين.
أترى تلك الآهات وتلك الصرخات، وتلك الدماء النازفة، والأشلاء المتناثرة لم تحرّك فيهم ساكناً، أمّ أنّ الهوان قد جثم على قلوبهم، فتبلّدت أحاسيسهم، ومسخت طباعهم.
ولم يجد هؤلاء المثبّطون حيلة يدفعون بها نظرات المقت، وعبارات السخرية عنهم، غير حجج واهية، وشبه متهالكة، يلوّحون بها تارة، ويجلبون بها تارة أخرى.
فتسمع قائلهم يقول: ألم نحذركم من قبل، أن لا تَدَعُوا للجهاد راية، ولا للأبطال الأفذاذ وطناً ولا ولاية.
ويقول آخرون: دعونا نلجأ للحوار مع الآخر – وتالله صار أعداء الملّة يخاطبون بلفظ الغير والآخر تعمية للأبصار-
وينادي آخرون بضرورة الالتجاء والانكسار بين يدي الأمم الملحدة، فهي المعين الناصر، ولا منصف لنا غيرها.
بينما يترقى أقوام آخرون في سلم الخذلان، فيقصرون النصرة على المآكل والمشارب والمفارش، وكأن وسائل النصرة ضاقت في هذا الزمن الحائن، فغدت مقصورة على الكرش والفرش.
فأين هؤلاء من صرير السيوف المهنّدة، والعاديات الضابحة، والموريات القادحة، والقنابل المروّعة، وصنوف الأسلحة المنكّلة بالأعداء.
فلا يفلّ الحديد إلا الحديد، ولا يقطع دابر العدوان، ويحمي حمى الأوطان غير التضحية، والشجاعة، والقوة، لا الخور والهوان.
ومظاهر الخذلان متنوّعة متباينة، والذي يحزّ في النفس، ويملأ القلوب كمداً أن يأتي التخذيل ممن تعقد عليهم الآمال في صنع أمجاد هذه الأمة، من المستقيمين، وبعض الدعاة، وأفراد من العلماء.
والقسم الثاني: هم الغلاة في كلّ حين.
الذين فهموا النصرة على أنها تفجير وتدمير في كل مكان وأوان، ليشمل المعاهدين وأهل الذمة وغيرهم، من الآمنين في الأوطان.
قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة 8).
نعم إن قلوبنا تلعن الكفر والكفار على اختلاف مللهم ونحلهم، ولكن لا يحملنا ذلك البغض والشنآن على تعدّي حكم الله فيهم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة 8).
ويلجأ آخرون في ثورة الغضب إلى وسائل بدعية ما أنزل الله بها من سلطان – والبدعة غلو في الشريعة، ومجازة للحدّ-، لا تحقق نصراً، ولا تنصر مظلوماً، بل هي غوغائية المسلك، غربية المصدر، كالمظاهرات وغيرها.
وكان الأولى بهؤلاء الثائرين -وهم محمودون على حرقتهم على هذا الدين، وصدق نصرتهم وغيرتهم- أن يلجأوا إلى الوسائل المشروعة، التي تحقق الغاية والمقصود.
إذ أنّ الحماس إذا لم ينضبط بميزان الشرع، كان ضرره أعظم من نفعه، وربما كان وبالاً وشراً، وأحداث التاريخ خير شاهد على ذلك.
أما القسم الثالث: فهم أهل الحق في كلّ عصر ومصر.
لم يحملهم الحماس على تعدّي شرع الله، ولم تشغلهم الدنيا عن نصرة إخوانهم.
وزنوا أفعالهم بميزان الشرع، فانضبطت وسائل نصرتهم، فلا شطط ولا وكس، والحقّ أبلج والباطل لجلج.
سبيلهم في ذلك ردّ ما عنّ لهم في عقولهم، وعرضه على الكتاب والسنة، إذ لا سبيل لمعرفة وسائل نصرة المؤمنين إلاّ بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فهما الفيصل في كلّ نازلة، والمخرج عند كلّ ضائقة.
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} (النساء 83).
والنصرة ليست مقصورة على الحكومات، أو الهيئات والمؤسسات، بل تتعدّاها بكثير، وليست مقصورة على الوسائل المادية فقط، بل هي وسائل وجدانية في المقام الأوّل.
فمنطلق هذه الوسائل من إصلاح الأنفس وتطهير القلوب، من أدران الشبهات وأوحال الشهوات، لأنه ما ألمّ بهذه الأمة بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.
قال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران 165).
فطريق النصرة يبدأ بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11).
ألسنا حال الجدب نستنـزل القطر بالدعاء والتوبة وصدق الالتجاء، كذلك النصر.
قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر 51).
وتعمّ النصرة أيضاً كافة طبقات المجتمع من:
– الفرد المسلم.
– والدعاة والأئمة والعلماء.
– الإعلاميين والمفكرين.
– الأغنياء والموسورين.
– المؤسسات الخيرية والدعوية.
– الأسرة والمجتمع.
– قطاع التربية والتعليم.
– الحكومات المسلمة.
ولست بصدد تعداد وسائل النصرة الشرعية، لأنّ ذلك متعذّر في هذا المقام، لذا آثرت وضع القواعد الكليّة، والضوابط الشرعية، حتى تكون ميزانا توزن به كلّ وسائل النصرة، فما كان موافقاً لهذه الضوابط فهو المحمود شرعاً وعقلاً، وما سواه فهو المبتدع الباطل، وإن حسنت مقاصد فاعليه.
فلوسائل النصرة ضوابط تصونها عن الاضطراب، وشروط تحفظها عن الخلل والفساد.
وهذه الضوابط لا بد من مراعاتها، حفاظاً على الاعتدال، وسداً لباب التوسع غير المحمود، ومن هذه الضوابط ما يلي:
أولاً: أن تكون هذه الوسائل نابعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة الصالح رحمهم الله.
فإن كانت الوسيلة مخالفة لنصوص الشرع وقواعده العامة، فلا يشرع التوسل بها إلى المقاصد والغايات.
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: “لا يتقرب إلى الله إلاّ بأنواع المصالح والخيور، ولا يتقرّب إليه بشيء من أنواع المفاسد والشرور”[1].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ليس كلّ سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً ولا مباحاً، وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته، مما أذن فيه الشرع” [2].
ثانياً: أن يكون المقصود من الوسيلة مشروعاً، فإن كان ممنوعاً شرعاً فلا يتوسَّل إليه بأي وسيلة، لأنّ النهي عن المقصد نهي عن جميع وسائله المؤدية إليه([3].
ثالثاً: أن تؤدي الوسيلة إلى المقصد المشروع، إما على سبيل القطع أو الظن أو الاحتمال المساوي [4].
وأداء الوسيلة إلى مقصودها له حالات:
أن يكون الأداء إلى المقصود ثابتاً قطعاً، فلا إشكال في مشروعية الوسيلة، وذلك لتحقق المقصود منها وحصوله قطعاً، كالنصرة بالمال والأنفس.
أن يكون الأداء إلى المقصود منتفياً قطعاً، فيسقط اعتبار الوسيلة، لأن الوسائل إنما شرعت لتحصيل مقاصدها، فإذا انتفى المقصود كان تحصيل الوسيلة عبثاً.
أن يكون الأداء إلى المقصود مظنوناً حصوله أو مظنوناً انتفاؤه، فهذه من مواضع الاجتهاد، والخلاف فيها سائغ، وإن كان الأظهر كما قال الشاطبي أن أداء الوسيلة إلى المقصود إن كان مظنوناً حصوله فالوسيلة باقية على أصل المشروعية [5].
رابعاً: ألا يترتب على الأخذ بتلك الوسيلة مفسدة أكبر من المصلحة المقصودة منها.
فإن كانت تؤدي إلى مفسدة أكبر فلا يشرع التوسل بها، لأنّ درء المفسدة الراجحة أولى من جلب المصلحة المرجوحة.
خامساً: ألاّ يَعْلَق بالوسيلة وصف ممنوع شرعاً.
فالوسيلة قد لا تكون في ذاتها مخالفة للشرع، ولكن يعلق بها وصف خارجي ممنوع شرعاً، مثل كونها شعاراً للكفار، فتمنع مباشرتها لأجل ذلك الوصف [6]
هذا ما تيسّر جمعه، في هذه العجالة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
________________________________________
[1] “قواعد الأحكام” 1/112.
[2] “مجموع الفتاوى” 27/177.
[3] انظر: “مجموع الفتاوى” 11/620.
[4] “الموافقات” للشاطبي 1/250.
([5] “الموافقات” للشاطبي 1/250.
[6] انظر: المدخل للبيانوني، ص 297.
نقلا عن موقع منار الجزائر باختصار يسير