15/4/2025
د. إبراهيم مهنا عضو المكتب التنفيذي لهيئة علماء فلسطين

مع استمرار الصمت العربي والدولي على جرائم الاحتلال الصهيوني، واستمرار الدعم الغربي وخاصة الأمريكي غير المحدود للكيان، تتزايد جرائم الاحتلال بشاعة ويستمر جيشه في جريمة الإبادة الجماعية التي يمارسها في قطاع غزة، التي تجاوزت كل الحدود والقوانين والأعراف؛ ما دفع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى التصريح بأجندة الاحتلال الجديدة، حيث أعلن عن جريمة حرب جديدة وهي تهجير سكان قطاع غزة، فبعد أن كان ذلك يدور في الغرف المغلقة منذ تأسيس دولة الكيان المحتل، ونستحضر هنا تصريحاً لثيودور هرتزل، مؤسس منظمة الصهيونية العالمية وأول رئيس لها: «يجب طرد الفلسطينيين والتخلص منهم بحذر بالغ».
وقال يوسف ويتز، الإداري المسؤول عن الاستيطان في عام 1940م: «يجب أن يكون واضحاً في أذهاننا أنه ليس هناك مجال لأن يعيش الشعبان معاً في هذا البلد؛ لذا فإن الحل يكمن في أن تكون فلسطين خالية من العرب، وليس هناك من طريقة لتنفيذ هذا المخطط سوى طردهم جميعاً إلى الدول المجاورة»، وكتب ديفيد بن جوريون في يومياته عام 1948م: «يجب أن نفعل أي شيء من أجل ضمان أنهم لن يعودوا مرة أخرى».
تهجير معلن
فموضوع التهجير قديم جديد، لكنه الآن أصبح أجندة معلنة للكيان، ومن أجل ذلك قام نتنياهو بإنشاء لجنة «إدارة الهجرة من غزة» لتنفيذ التهجير، مستقوياً بتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في شأن تهجير الغزيين من أرضهم.
ولتحقيق هذا المخطط، رفض نتنياهو الانتقال إلى المرحلة الثانية من صفقة تبادل الأسرى، فنقض الهدنة وقام بدك ما تبقى من منازل ومن بنية تحتية تمكّن الغزيين من العودة إلى الحياة بشكل طبيعي، ومن ثم إجبارهم على الهجرة طوعاً أو كرهاً.
وإذا نظرنا إلى موقف دول الطوق من موضوع التهجير، نجد أن الأردن ومصر كان موقفهما حاسماً وواضحاً في رفض التهجير لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي للبلدين، بيد أنهما لما يقوما بخطوات عملية لتثبيت الغزيين على أرضهم ولكسر الحصار المطبق على القطاع، ولو فعلا لعزز ذلك موقفهما المعلن برفض التهجير، ولحازا على تأييد محلي وعربي كبير.
صمود متجذر
أما كيف ينظر الغزيون إلى التهجير؟ فإنهم على الرغم من تحويل حياتهم إلى جحيم -كما وعد ترمب، ونفذ نتنياهو- لم ولن يتنازلوا عن حقهم في أرضهم، وقد أذهل صمودهم العالم، وإن هذا الصمود الأسطوري يستمده الغزيون من إيمانهم العميق بحقهم الثابت في أرضهم.
فقد تربوا على ذلك منذ النكبة عام 1948م، فقرروا أنهم لن يعيشوا نكبة أخرى ولو كان الثمن فادحاً كما هو حاصل الآن، فتجذرت فيهم ثقافة المقاومة والصمود، واستمدوا من عقيدتهم ما يثبتهم على ذلك، إذ إن حب الوطن مقترن بحب النفس -كما تعلموا من القرآن الكريم- فكلاهما متأصل في نفس الإنسان عزيز عليه، وقد جعل الله الإخراج من الديار مساوياً للقتل؛ قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) (النساء: 66)، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) (البقرة: 84)، وتعلموا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الخروج من الوطن لا يكون خياراً حراً للإنسان إذ لا يفعله إلا مجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما اضطر للخروج من مكة: «ما أطيبك من بلد، وما أحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» (رواه الترمذي).
وحب الوطن مقترن أيضاً بالتمسك بالدين، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8)، فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه، أو يخرجه من بلده، وفيه دليل على مكانتها في الدين وفي نفس الإنسان.
إن أكثر من 70% من سكان قطاع غزة قد نزحوا إليها بعد نكبة عام 1948م، وقد تعلموا الدرس وأخذوا العبرة فقرروا أنهم لن يعيدوا تجربة أجدادهم، وأنهم لن يخرجوا من غزة وسيصمدون فيها إن شاء الله، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فهم يتطلعون للعودة إلى مدنهم وقراهم التي احتلت عام 1948م.
إن الإرادة الراسخة المستمدة من الإيمان العميق هي سلاحهم الأهم والأنجع لمواصلة الصمود والثبات، بل ولتحرير كل فلسطين وتحقيق حق العودة الذي كفلته القوانين الدولية والشرائع السماوية، وإلا لتكن الشهادة في سبيل ذلك الحسنى الثانية.
**********
نقلاً عن مجلة المجتمع: