خاص هيئة علماء فلسطين
فتحي عبد القادر
بات التَّطْبيع اليوْم في (سُوق السّياسة) هو (البضَاعة السياسيّة) الأكْثر روَاجاً وتسويقاً، للأسف الشَّديد، في ساحتِنا العربيّة والإسلاميّة، دون الوُقوف على مخاطِره ومآلاتِه على قضايانا الاسْتراتيجيّة وعلى وجُودنا من حيْث أنّنا أمّة مسْلمة وعلى (القضيّة الفلسطينيّة)، وهو ما يعْكس حقيقة ما وصلت إليْه المنْظومة السياسيّة العربيّة والإسلاميّة من ضعْفٍ وهوانٍ وترهّلٍ ودورانٍ لا واعي وغيْر مُبرّر في فلك الرُّؤْية (الإسْرائيليّة) والأمريكية، وسأتناول (قضيّة تطْبيع العلاَقة مع العدوّ “الإسْرائيليّ” المحتل) في النّقاط الآتية:
(1) إنَّ التَّطْبيع منْ حيْث هو مُحاولة من العدوّ لاخْتراق الحالة العربيّة والإسلاميّة وبناء علاقات معهَا بشكْل طبيعيّ وغير مغضوب عليه من الشُّعوب ومن الأنظمة، إنَّما هو ظاهرة قديمة لها تاريخ مُمْتد تعود إلى اللَّحظة التَّاريخية الأولى التي شهدت ميلاد هذا الكيان المسْخ، وهي عنْدما تمّ فيها احْتلال فلسطين ومحاولات العدوّ المُسْتمِية من أجل البقاء على قيْد الحياة، وظلّت لهذه الظاهرة موْجات تعْلو وتنْخفض حسب مستوى تأْثيرات الوَضْع السِّياسيّ للمنْظومة العربيّة الرّسْمية، وربّما سياق المشهد العربي بعد (النَّجاح المحدود) في المرْحلة الأخيرة لما يسمى بـ(الثَّوْرة المضادَّة) دفع بالأنظمة العربيّة إلى المسارعة المسْعورة لتقْديم القرابين السياسيّة إرضاءً للرَّاعي الأمريكيّ التَّراْمبي وللكيان الصِّهيوني المحْتل، ومنْ ثمَّ يُمْكن تفْسير، ولو جزئياً، حالة تنامي وتسارع انتشار (ظَاهرة التَّطْبيع مع العدوّ) في الآونة الأخيرة.
(2) من المهمّ أن نُميّز هنا بين (التَّطْبيع) على المستوى الرَّسْمي و(التَّطْبيع) على المستوى الشَّعْبي، فالشعوب العربيّة والإسلاميّة لا تزال ترفض رفضاً قاطعا وبشدّة لا مواربة فيها تطْبيع العلاقة مع (العدوّ الصِّهْيوني) على خلاف الطَّبقة السّياسيّة التي ترى أنَّ وجودها وحياتها واسْتقْرارها السِّياسيّ وبقاءها على كرسي الحكم إنَّما هو مرتبط بحجم التَّنازلات التي يجب أن تقدّم كقرابين من أجل إرضاء (العدوّ الصهيوني) والرَّاعي الأمريكيّ له، بعيداً عن مصْلحة الوطن ورضا الشُّعوب، وهذا يدلّ على الهوّة الواسعة جدا بين الطبقة السياسيّة الحاكمة والتي (تعْتاش) على الفساد، وبيْن الشُّعوب ومستوى تقدّم وعيها وفشل العدوّ في اختراقها وتطْبيع العلاقة معها، ولذلك لابدّ من الرِّهان على الشّعوب ووعيها المتنامي باعتباره الأصل الذي يعود إليه كلّ شيءٍ في إدارة شؤون الحكم وتنظيم العلاقة مع مختلف الأطراف الخارجيّة وطبيعة العلاقة التي يجب أن تكون مع (العدوّ الصّهيونيّ).
(3) حالة التّسارع لتطْبيع العلاقة مع العدوّ تؤشّر على مدى (قلق العدوّ) من الرّفض العربيّ والإسلاميّ له، باعتباره كيانًا غريبًا لا ينْسجم مع طبيعة المنطقة وثقافتها بأيّ حالٍ من الأحْوال، وهو يدرك جيّدًا أنّه يمرّ بمرحلة عابرة من تاريخ المنطقة وليس له الرّصيد الكافي الذي يمكن أن يساعده على البقاء، ولا توجد له أيّ فُرْصة للتجذّر في أرض المنطقة وتربتها أو الاستقرار فيها، وهو بذلك – أي بالمبالغة في الإعلان عن المسارعة في تطبيع البعض الشَّاذّ – يريد أن يحقِّق نصراً وإنجازًا وهميين إعلاميًا وسياسياً، يستفيد منهما في حملاته الانتخابيّة، وهو يجافي الحقيقة الواضحة والمستقرّة لدى وعي الشّعوب، التي يسعى لطمسها بكلّ ما أوتي من وسائل الكذب والتّزْوير وقلْب الحقائق.
(4) بناء على ما تقدّم هل يفهم من كلامي هذا أن (التَّطْبيع) مرض عارض لا يمثل خطرًا حقيقيًّا على المنطقة؟
بلا شك، لا يمكن أن نكرّس هذه الحالة أو نتهاون في مواجهتها، وإنّما أردت أن أسلّط الضّوء على أجزاء من المشهد العام المتعلق بالتَّطْبيع حتى تكون الصّورة أكثر وضوحًا والتي من شأْنها أنْ تُساعد على رسْم مسارات المواجهة والتَّصدّي له، ذلك أنّ غضّ الطّرف عن محاولات العدوّ (التَّطْبيع) وتساهل بعض الأنظمة في ذلك، واعتبار الكيان المحتلّ حقيقة ماثلة يجب التّعامل معها بشكل طبيعيّ دون عُقَد ولا رفْض لا يرفع واجب التّصدي للشعوب ومناهضة كل أشكال التَّطْبيع وأنواعه مهما صغُر حجمه وقلَّت قيمته، وإنّما يجب أن تكون (قرون الاسْتشعار) في حالة تيقُّظ واستنفارٍ دائمٍ وقابلة للاستفزاز من أي جهْد يُبذل من أي طرفٍ كان، مشدّدين على خطر (التَّطْبيع) وضرره على كل المستويات، وبخاصة الشّقّ المتعلق بـ(التَّطْبيع الثّقافيّ)، وهو الأكثر خطرًا والأشدُّ عمْقًا وأدْوم أثرًا.
(5) ومن ثمّ فإن (التَّطْبيع) ظاهرة خطيرة تُهيّئ الأرضيّة الخصْبة لتمدد (العدوّ الصهيونيّ) في المنطقة وتسلّله لها في غفلة من أهلها بغرض تحقيق مشاريعه ومخططاتهّ المتعلقة بالهيمنة الشّاملة والسَّيْطرة على مصادر الطاقة ومقدّرات المنطقة، والأخْطر من ذلك هو القضاء على الدَّين الإسلاميّ وتشويهه واقْصائه من الهيْمنة على الشُّؤون العامّة للحياة وتحويله إلى طُقوس لا طعْم فيها ولا رائحة ولا لوْن، وترويض الشُّعوب على الخضوع والاسْتسلام المهين، والقضاء على (المناعة الفطْريّة) الموجودة عنْدها تجاه الظُّلْم والظالمين، تحقيقًا لما سبق وأنْ قاله (كارل ماركس): من أنّ الدّين (أفْيون الشُّعوب)، وهو ما يناقض طبيعة الدِّين الإسلاميّ الذي ينزع إلى رفض الظلّم والقبول به والرّكون للظالمين، بل ومواجهته وبَذْل كل مستويات وأنواع التَّضْحية؛ بما فيها الاسْتشهاد من أجل دفاع المسلم عن أرْضه وعرْضه ودينْه وشرَف أمَّته، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (منْ قُتل دُون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دُون عرْضه فهو شهيد، ومن قُتِل دُون دينه فهو شهيد)، ولا يخفى على المتابعين للشأن الصِّهيوني ما يحمله (المشروع الصِّهْيوني) من مخاطر خطيرة وكبيرة على منْطقتنا العربيّة والإسلاميّة يستهدف دينها وثقافتها ومقدَّراتها وسيادتها وكلّ مقوِّمات وجودها، وهو أمر مُعْلن تسرَّب على ألسنة الكثير من القادة السياسيين والمؤسسين لهذا المشروع وبشَّروا به في أكثر من موطن ومحطّة منذ نشأته وحتَّى يوم النَّاس هذا.
(6) يُحتِّم علينا هذا الأمر أنَّ نُواجه هذه الظاهرة الخطيرة مواجهة جادة ومؤسّسيّة، وعدم الرُّكون لردَّات الفعل التي كثيرًا ما تتبخَّر فوْر خُفُوت الظَّاهرة، ولوْ جُزْئيا، وهو ما يعوِّلُ عليه الكيان الصّهيوني المحتل، فغياب (العمل المؤسَّسيّ) كظاهرة سلبيّة مُلفتة للانْتباه في عالمنا العربّي شَّكلت ولا تزال مدْخلا مناسباً وأرضية صالحة ليبْني عليها العدوّ مخططاته واستراتيجياته، ولذلك لابدّ منْ دعم أي فكرة أو مبادرة أو مشروع تعمل على (مأْسسة المناهضة للتطبيع) ومواجهة مخاطره، وأن تكون الأمّة على مُستوى التّحدّي الذي يقف عثرة في سبيل نهضتها وعودتها للريادة والقيادة والتوجيه، بالذات في هذه المرحلة العصيبة من عمر الأمة الإسلاميّة، ولا يفوتني في هذا الصَّدد أن أنوِّه بالمبادرة التي تمّ إطْلاقها في إسطنبول منذ سنة تقريبًا، والتي جاءت بعنوان: (تنْسيقيّة مُناهضة التَّطْبيع)؛ لمراكمة الجهد وتطويره وتفعيله وتوسيع نطاقه وتعميق أثره وتحويله إلى (مؤسَّسة) قائمة بذاتها، قادرة على الصُّمود والمواجهة وابْتكار المشاريع والمبادرات القادرة على افْشال (مشروع التَّطْبيع)، والعمل على تسريع مراحل (التَّحْرير) الذي بات قريبًا بإذن الله تعالى، (إنَّهُم يرَوْنَه بَعيدًا ونَرَاهُ قَريبًا).