المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة
بقلم: د. محمود شلتوت
قال الله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[1]. وقال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [2]. وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[3]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ?[4]. وقال تعالى: ? كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ?[5]. وقال تعالى: ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا[6].
هذا هو القرآن، نـزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليرشد الناس به إلى ما يجب أن يأخذوا به أنفسهم، وينظموا به حياتهم، ويكوّنوا به مجتمعهم على الوجه الذي يسعدهم في الدنيا؛ بالعزة والسلطان، والتمكين والهيمنة على الحق، وفي الآخرة، بالرحمة الدائمة، وبالنعيم المقيم، فتكمل للإنسان سعادته في الأولى والآخرة.
جاء القرآن الكريم؛ وفي العالم مجتمعات مختلفة الأسس والغايات؛ استمدت حياتها من أوضاع بشرية، وأفكار إنسانية بحتة؛ فاتخذ بعضها العصبية الجنسية أساسًا للحياة، واتخذ البعض الآخر أساس حياته، العصبية الإقليمية.
والعصبية الجنسية والعصبية الإقليمية، كلتاهما وليدة نـزعات خاصة لا تمت إلى القلب الإنساني، ولا إلى الصالح العام البشري وفيما بينهما يذوب الضمير العالمي، والروح الإنساني، ويقضي على الرحم العام، التي يقضي بالتعاون العام، وبالسلام العام، وبالحدب على المصالح العامة، ويصيّر أفراد الإنسان ومجتمعاته، كالحيوانات المفترسة؛ يفتك قويها بضعيفها، ويأكل كبيرها صغيرها.
وليس من ريب في أن حكمة الحكيم، الرءوف الرحيم، تأبى أن يخلق بشرًا ويسويه ويعدله بالعقل، ويفضله على كثير من خلقه، ويجعله خليفة في أرضه؛ يظهر رحمته وجوده. ثم يتركه على هذا الوضع، يأكل بعضه بعضًا.
فكان من رحمته أن أنـزل الكتاب؛ إرشادًا وهداية لما يجب أن يسلكه في تنظيم حياته، ويتخذه أساسًا لمجتمعه فنحى الجنسية العصبية، والإقليمية، ونحوهما، من الأسس البشرية عن مكانة الأساس الأول للجماعة الإنسانية، وسما بالإنسانية عن أن يكون اجتماعها وترابطها راجعين إلى اعتبارات، كثيرًا ما تدفع بأصحابها إلى التفرق والخصام، وتغري بينهم العداوة والبغضاء، فتفصم عرى الإنسانية الفاضلة، وتقضي على روح التعاون والتراحم، وتطمس معالم السعادة والهناءة؛ وجعل الأساس في بناء المجتمعات الاعتصام[7] بمبدأ الخير العام والرحمة الواسعة، والعدل المطلق ? وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[8].
وبذلك تكون الإنسانية مهما اختلفت جنسياتها، وتباعدت أقاليمها، وتعددت مذاهبها وآراؤها، تدور كلها حول مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول، ويعتريه نقص ولا أُفول؛ فتشعر بالوحدة، وتنشط في رفعة شأنها والقيام بواجبها: يأخذ قويها بيد ضعيفها، ويواسي غنيها فقيرها، وبذلك تنمو الحياة ويسعد الناس ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ?[9].
بنى القرآن تنظيمه للحياة على هذا الأساس، وجاءت كل شرائعه وأحكامه تعمل عملها في تقويته وتشييد صرحه؛ فعلى من أراد أن يكون مجتمعًا فاضلًا، يعرف مكانته في الحياة، ونصيبه في الخلافة الأرضية التي جعلت هدفًا لخلق الإنسان عليه أن ينظر، أي طريق يصل به إلى تكوين المجتمع على هذا الأساس، وفي سبيل ذلك سيجد من معلوماته الأولية التي لا يختلف فيها عقلي، يستمد أساس الاجتماع من فكرته الفلسفية، وديني، يستمد من هداية الله ووحي السماء. يجد من هذه المعلومات أن للإنسان في هذه الحياة شخصيتين، شخصية مستقلة، يسأل بها عن نفسه؛ في جسمه وعقله وروحه، ثم في عمله وماله وشخصية أخرى يكوّن بها لبنة في بناء المجتمع يسأل بها عما يقدمه لمجتمعه أو يقدمه المجتمع له، وبقدر ما يكون للإنسان من إدراك الحقائق، ومتانة الخلق، وقوة العزيمة والإرادة، وسمو الروح، ونبل الغاية، يكون لمجتمعه من ذلك كله. وبقدر ما يصاب به الإنسان من تسلط الأوهام والخرافات عليه، وانحلال الخلق، وضعف العزيمة والإرادة، وانحطاط الروح، ودناءة الغاية، يكون لمجتمعه من كل ذلك.
وما المجتمع في واقعه إلا الأفراد التي هي لبناته، ومنها يتكون، وما الأفراد في واقعها إلا المجتمع الذي منها تكون؛ فسعادته من سعادتها، وصلاحه من صلاحها، وشقاؤه من شقائها، وفساده من فسادها. وإذن فالبحث عن الأساس الذي عليه يبنى المجتمع، هو بحث عن اللبنات التي منها يتكون.
فإذا ما صيغت اللبنات على الوجه الذي به تقوى وتتماسك في خاصة نفسها، والذي به تتبوأ مكانها في بناء المجتمع، وجد المجتمع المثالي الفاضل، فيما بينه وبين نفسه، بالتراحم والتعاون وتبادل الخير والمنفعة؛ فلا نرى مريضًا وبجانبه طبيب لا ينظر إليه، ولا فقيرًا، وبجانبه غني يتمتع بفضل الله عليه، ولا يمد يده إليه، ولا مكروبًا، وبجانبه قادر على تفريج كربته ثم لا يفرج عنه كربته، ولا جاهلًا، وبجانبه عالم يستطيع أن يعلمه ثم لا يعلمه، ولا ضالًا، وبجانبه مرشد يستطيع رده عن ظلاله ثم لا يهديه السبيل، وجد المجتمع هكذا فيما بينه وبين نفسه، ووجد كذلك فيما بينه وبين غيره من سائر المجتمعات، قائمًا بنفسه، عزيزًا في وطنه، غنيًا بعلمه وماله، وبجميع وسائل الحياة، لا يذل لغيره من ضعف، ولا يساوم بعزته لحاجة، ولا يمد يده إلى غيره إلا كما يمد غيره يده إليه، فيعيش المجتمع فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين غيره، قائمًا بالواجبات، حاصلًا على الحقوق، في جو من العزة والكرامة، لا يفكر أحد في خديعته، ولا في سلب حريته، ولا يشكو أحد من أبنائه فقرًا ولا حاجة. وبذلك تكمل له السعادة، ويحصل على مجد الحياة.
غير أن صمام هذا الترابط بين الأفراد والمجتمع لابد لكي يثمر ثمرته، ويحقق غايته، ويستمر ناميًا لا يتناقص، بعيدًا عن الأهواء والشهوات سليمًا من اختلاف الآراء والنـزعات، متمكنًا من قلوب الأفراد والمجتمعات؛ لابد أن تهيمن عليه في قلب الإنسان وروحه، قوة ينبع احترامها من قلبه، فيكون للتعاليم التي يتلقاها عن تلك القوة، ويسوس بها نفسه في فرده ومجتمعه، نفس الاحترام الذي ينبع من قلبه لتلك القوة وليس ذلك إلا التعاليم الإلهية، الواصلة إليه من الله رب العالمين، والتي تضمنها وأرشد إليها كتابه الكريم ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ?[10].
[1] البقرة: 2.
[2] الأنعام: 92.
[3] الأنعام: 153.
[4] يونس: 57، 58.
[5] هود: 1.
[6] الإسراء: 9.
[7] وفي سبيل الاحتفاظ بهذا المبدأ الذي يوحد بين البشرية في العقيدة والوجهة طلب القرآن التضحية بالنفس والمال والأهل والولد والجنسية وجعل إيثار شيء من ذلك محادة لله ولرسالاته التي بعث لتبليغها كل رسله وأنزل ببيانها كل كتبه ولتقرأ ذلك في آيات التضحية الواردة في القرآن الكريم.
وفي سبيله أيضاً ألغى أخوة النسب إذا لم تشد أزرها أخوة الإيمان ومنع التوارث بين المؤمن وغير المؤمن وفرق بينهما في كثير من الأحكام التي كانت سبباً للقرابة الطبيعية.
[8] آل عمران: 101.
[9] الحجرات: 13.
[10] الإسراء: 9.
نقلاً عن موقع الألوكة