30/11/2024

د. عمر الجيوسي

أرواح الطوفان: نماذج فذّة من البطولة والثبات في طوفان الأقصى

 إعداد: د. أسامة جمعة الأشقر

الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ـ بيروت ـ 2024

– عدد الصفحات: 143 صفحة

——————-

أن يلتقي قلم الدكتور الموسوعي أسامة الأشقر مع مركز الزيتونة لتوثيق (أرواح الطوفان)، رغم صعوبة الوصول لقصص وكتابات الذين حلّقت أرواحهم وحكاياتهم أو حوصرت تحت ركام القصف الإسرائيلي المسعور، فهذا جهد صعب لم تستطع معه حتى كبرى القنوات أن تبث مراسليها أو أن تحصل على مقابلة أو أرشيف في أُوار هذه الحرب الجنونية.

لكن، كان لا بد من جهد يليق بهذه النماذج من الأبطال والثابتين؛ فكان هذا الكتاب التوثيقي الدراميّ، الذي يضعك في مهرجان مشاعر وأنت تعايش ما فيه؛ فتبكي وتسخط وتفخر وتكبّر وتتوقف وتحلق مع (أرواح الطوفان).

يقول الكاتب: “الجانب الأعسر في هذا الكتاب، هو توفير المعطيات الموثوقة بسبب تشرد واستشهاد أكثر من أعرفهم من أهل العلم والثقافة، وذهاب المكتبات العائلية، والمراجع الشفوية. وما جهلناه منها أكثر مما عرفناه ووثقناه”.

الدكتور أسامة يشبه الصندوق الأسود الذي يحوي أسرار ووثائق لا يمحوها قصف ولا عابث، معروف بقدرته على الوصول للوثائق النادرة للأشخاص وللمراكز البحثية ـ وقد عايشت معه بعضا من ذلك ـ، فهو يمتلك أرشيفا خاصا به، جمعه على مدار ثلاثين عاما.

ورغم أن منصات التواصل، وصفحات أهالي أصحاب هذه القصص العالمية المؤبدة، والاتصال بعدد كبير من معارفهم وأقاربهم قد ساعد في رواية هذه القصص في هذا الكتاب، إلا أن العجيب أن بعض أصحاب هذه الحكايا أوعائلاتهم في غزة  قد أرسلوا للمؤلف شيئا من سيَرِهم وصورهم وصور أطفالهم ووثائقهم الشخصية وذكرياتهم التي يحبونها، فجعلوها عنده قبل رحيلهم، رغم أنه لم يلتقيهم يوما.

وكان القرار.. لا بدّ من توثيق يليق بهم.

الدكتور أسامة استثنى قصص الشخصيات الكبيرة والقيادية، وحلّق بأرواح حلّقت بالطوفان لآفاق عالمية، اعتنى كثيرا بأصحاب لقطة الوداع الأخيرة، بأيقونات الثبات، بمن تركوا بعد رحيلهم  قصصا ترويها الأجيال والأمم، وأصبحت صورهم وعباراتهم (تريند) في قارات أصبحت غير مستقرة بطوفان هؤلاء و بتوحش جلاديهم.

في هذا الطوفان لحظات سُمُـوّ الروح كثيرة وآسرة ومُترعة بالكبرياء

ـ طبيب جراح في قلب الجبهة الطبية لم يرَر زوجَه وطفله، ناضل بقميصه الأبيض وأُسرَ فيه وعُذب واستشهد فيه. هو صوت الملاءات البيضاء التي لا زالت تنادي عليه، وهي كفنه برتبة مدير مستشفى شهيد.

ـ رجل أصمّ أسمع المتعالجين عنده نبض الحياة. قرّر وحده أن في غزة (فاقد الشيء يعطيه)، درّب الصُمّ على معرفة حصول القصف والانفجار من الاهتزازات لا من الصوت. استشهد، وصمتت أصابعه الناطقة بلغة الإشارة.

ـ مدارس تحولت من مراكز تعليم إلى مراكز إيواء ثم تحولت إلى مقابر.

ـ شعراء غنوا قصائد تحريضية عنيدة، منصوبة على منصة موقع هجومي. وأدباء صاغوا من قاموس مشاعرهم نصوصا أدبية على شكل سبيكة ذهبية، يتهادونها حبّا وشوقا ووداعا.

ـ لقطة صادمة لطفل يأكل جوعه وسط الركام. أمة كانت تشاهد وليمة الموت الضخمة على الهواء مباشرة. وأم صامدة تضورت جوعا وماتت بسبب أمة تتضور كرامة.

ـ حاضنة شعبية تحتضن المقاومة وتحمي سلاحها وتجوع لتطعم المقاتلين.

ـ قائمة أصدقاء تنكمش، تتحول إلى توابيت، يتطايرون بعد الصواريخ، ومن سمع منهم صوت الصاروخ يعني شيئا واحدا، أنه لا زال حيّا.

ـ شجرة العائلة تهوي وتحذف كلها من السجل المدني؛ فكانوا معا ورحلوا معا.

ـ غزة لآخرها نعوش لا أحد ليحملها.. لكن هناك غزةَ أخرى تتشكّل في الجنة بلا حصار ولا أوجاع.

ـ في غزة الشهيد والمشفى والقبر نفس المكان.. وحكاية الموت فيها لم تبدأ يوم استشهادهم فقط.

ـ صراخ مكظوم.. وتكبيرات عيد اختلطت بزغاريد الشهيد.. وبين عواء الصواريخ صوت يصرخ: يا غزة.. كم نحتاج من الشهداء والدماء؟ كم نحتاج من أشلاء الأطفال ودموع الأمهات؟

ـ أطفال لم يستخدموا أسماءهم بعد.. وأطفال أنابيب أنجبتهم أمهاتهم بعد عشرين سنة من زوجها الشهيد.. وأطفال خداج قتلوا بالمجاعة أو قصفوا بحاضناتهم وبرضّاعاتهم.

ـ غزة: لا يُدميها صوت جلادها بقدر ما يدميها صمت إخوتها. فلطالما كانت غزة كيوسف في إخوته، ذنبه الوحيد أنه كان جميلا.

في أرواح الطوفان شموخ وبطولة

ـ لقطة الرجل الأنيق.. كأنه بطل خُرافيّ ينبعث كالطوفان من عيون الأرض.. يكبّر تكبيرات داوية.. يأخذ بثأر أبيه الذي قضى قبل ثلاثين سنة. الأنيق، رصدته عيون المسيّرات بعد شهر.. تسعة أيام وسبابته مرفوعة بالشهادة ودمه ينزف، وكأنه استشهد للتوّ.. وصل إليه رفاقه تحت أحزمة القصف .. واروه الثرى، وأدوا له تحية تليق بفخامته.

ـ سجّلٌ بأسماء الذين نصروا غزة.. وأسماء الذين خذلوها وتآمروا عليها… وسبّورة صَفّ مكتوب عليها:  الخذلان أكثر إيلاما من الرصاص.

ـ رجال الله: في لحظة فجر، انطلقت مآذن صواريخهم وهي ترتل (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون).. رجال الله أشرقت أرضهم بنور ربهم، واجتازوا تقنيات الرصد واقتحموا الحدود وهم يرددون (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون).

لقطات ومشاهد تملأ غزة، لم يتم توثيق معظمها، وهذا الكتاب (أرواح الطوفان) هو لمسة وفاء وتثمين، التقط تردداتها الدكتور أسامة الأشقر، وهي ليست صفحات كالصفحات، وليست قصصا كالقصص، فمن يقرأ واحدة منها يحتاج أن يعتكف بعيدا وحيدا، ويراجع نفسه ويراجع سيرته ومسيرته من جديد.ـ وصلت إليه عبارة من صديق أجنبي: غزة حررتنا جميعا، وكلما اعوجّ مسار العالم تصححه غزة.

ـ قصة الشهيد الساجد.. صوّرته طائرة وهو يُقصف ويتلوّى من الألم.. حاول استعمال سلاحة مرة أخرى.. وضع جبهته على الأرض.. ظن الأعداء أنها حركة خضوع وذُل؛ ففرحوا بها، وثقّوا اللقطة، ولا يدرون أنهم منحوا العالم فرصة ليروا كيف يودّع أبطال غزة ويسجدون ليقتربوا من منزلة الشهادة.. يقف العالم إجلالا لمثل هذا الشهيد الساجد.

ـ أهل غزة: يدركون الحكمة الإلهية؛ فلم يهلعوا ولم يخافوا، وصاروا يصافحون خسائرهم بطمأنينة المنتصر.. يؤمنون أن الفلسطيني يموت إلى حدٍّ ما!

لقطات ومشاهد تملأ غزة، لم يتم توثيق معظمها، وهذا الكتاب (أرواح الطوفان) هو لمسة وفاء وتثمين، التقط تردداتها الدكتور أسامة الأشقر، وهي ليست صفحات كالصفحات، وليست قصصا كالقصص، فمن يقرأ واحدة منها يحتاج أن يعتكف بعيدا وحيدا، ويراجع نفسه ويراجع سيرته ومسيرته من جديد.

وهنا، أشعر برجاء من المؤلف ودار النشر أن يستكملوا هذا العمل في سلسلة إصدارات؛ فأمواج الطوفان الهادر لربما تصل إلى وجهتها، وربما تنفد قبل أن تنفد قصص وحكايا غزة، وليعذرنا القُراء؛ ففي حضرة هذه الأيقونات جاءت على استحياء أسماؤنا لضرورات النشر، وربما في حضرة هذه النماذج الأيقونية، تجاوزنا قليلا بعض التقليدية في الطرق المتبعة للتعريف بالكتب.

باسمي وباسم المؤلف، شكر متواصل لمركز الزيتونة، هذه الزيتونة المغتربة جذورها تمتد من أرض الشتات إلى كل فلسطين.. زيتها مداد أقلام تواطن من بعيد.. هذه الزيتونة تظلّل كتّابها وتحتضن أهم ما كتبوا.. عينها على كل فلسطين.. وعامها هذا وقفٌ لطوفان الأقصى.. وهنا يأخذنا مركز الزيتونة لنقرأ مع الدكتور أسامة الأشقر (أرواح الطوفان) ونشاهد نماذج فذّة من البطولة والثبات في طوفان الأقصى.

نقلاً عن موقع عربي21