د. علي محمد الصلابي

‏16 رمضان 1444هـ/ 08 إبريل 2023م ‏

تعرضت قِبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسول الله (ﷺ)، ومهوى أفئدة الأنبياء ‏‏(عليهم السلام) في هذه الأيام المباركة من رمضان، وفي ليلة الأربعاء الموافق لـ 14 ‏رمضان 1444ه/ 05 إبريل 2023م، لاعتداء عبثي سافر من قوات الاحتلال ‏الإسرائيلي، والتي استباحت باحات المسجد المبارك أثناء صلاة التراويح؛ اعتدت على ‏المصلين والمعتكفين، ثم قامت بملاحقتهم حتى اقتحمت حرم المسجد، واعتدت على ‏من بداخله، وانهالت على العُزل بأنواع من الضرب والإهانة، ثم باعتقال مئات ‏المعتكفين، إتماماً لخطتها الجائرة بإخلاء المسجد الأقصى من المعتكفين، وإثبات ‏الهيمنة على المسجد والتحكم فيه. ‏
إن ما حدث في المسجد الأقصى لهو دلالة واضحة من عشرات الأدلّة على ‏عدوان اليهود (الصهاينة)، وبطشهم وتوحشهم وإجرامهم، وبغيهم على مقدسات ‏المسلمين من أبناء فلسطين، وحقوقهم في العبادة والتنسّك في هذا الشهر الفضيل، فهم ‏قوم لا عهد لهم ولا ميثاق ولا يحترمون مقدسات ولا أعراف ولا قوانين، ويدوسون في ‏كل مناسبة على الحق الديني والتاريخي والحضاري الثابت للعرب المسلمين في المسجد ‏الأقصى المبارك. ‏
ومع ذلك، فإن الاعتداء على المسجد الأقصى ليس اعتداءً مستغرباً أو سابقة لم ‏تحدث من قبل، وإنما هو اعتداء من ضمن سلسلة الاعتداءات التاريخية التي تعرض ‏لها هذا الحرم الإسلامي العظيم، إذ تعرض للاعتداءات الصليبية مع الغزو الصليبي ‏لبلاد الشام، ودنَّسه الصليبيون زمناً طويلاً (مئتي سنة)، ومن ثم مع الاحتلال ‏الإنجليزي لفلسطين، ومن بداية تأسيس الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين ‏الإسلامية حتى وقتنا الحاضر، فالأقصى محور الصراع بين الخير والشر والحق ‏والباطل، وصاحب الأرض والمعتدي الدخيل الطارئ. ‏
أولاً: فضائل فلسطين والمسجد الأقصى ومكانتهما عند المسلمين ‏
لهذه الأرض الطيبة مكانة خاصة في ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وصراعنا مع قوى الشر ‏قديماً وحديثاً، وليست مجرد أرض كأيّ أرض، وليست هي بقعة كبقع الأرض ‏الأخرى، إنها بقعة ارتبطت بديننا، وارتبطت بعقيدتنا ارتباطاً وثيقاً، كيف لا وفيها ‏المسجد الأقصى، وما أدراك ما المسجد الأقصى الذي لربما كثير من المسلمين ‏يجهلون رمزيته ومكانته التاريخية العظيمة‎.‎
وإن من أسمى فضائل هذا المسجد العظيم أن الله أسرى بنبيه من المسجد الحرام إليه، ‏وأنه صلى بالأنبياء إمامًا، فقوله تعالى‎: ‎‏﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ ‏الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ‏الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]. فهو مسجد مبارك وما حوله مبارك، ولو لم تكن فيه فضيلة ‏إلا هذه الآية لكانت كافية؛ لأنه إذا بُورك حوله، فالبركة فيه مضاعفة. (من فضائل ‏المسجد الأقصى، أمين الشقاوي، 2018). ‏
ومن فضائله:‏‎ ‎أنه مقدس، قال تعالى‎: ‎‏﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ ‏لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ (المائدة: 21). ‏
ومنه: أنه مهاجر الأنبياء ومقرهم، قال تعالى‎: ‎‏﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي ‏بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71]، وقال تعالى‏‎: ‎‏﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي ‏بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 81]، وقال ‏تعالى‎: ‎‏﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا ‏فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ (سبأ: 18). ‏
ومن فضائله في السُّنة، أنه قبلة المسلمين الأولى، فروى الإمام أحمد في مسنده من ‏حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ‏بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا، ‏ثم صُرف إلى الكعبة» (مسند أحمد، 2991). ‏
ومنه: أنه ثاني مسجد وُضع في الأرض، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من ‏حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي ‏الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الأَقْصَى»، ‏قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ ‏الفَضْلَ فِيه» (صحيح البخاري، رقم 3366، ومسلم، رقم 520). ‏
ومنها: أنه ثالث المساجد التي تشد الرحال إليها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما ‏من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُشَدُّ ‏الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، ‏وَمَسْجِدِ الأَقْصَى. (صحيح البخاري، رقم 1189، وصحيح مسلم، رقم 1397). ‏
ومنها: أنه مهوى أفئدة الأنبياء، وبوب البخاري في صحيحه: باب من أحب الدفن في ‏الأرض المقدسة أو نحوها، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ‏رضي الله عنه قال: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ ‏‏(ضربه) فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ – قَالَ: – ‏فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ ‏يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَي رَبِّ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ ‏يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَلَوْ ‏كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (البخاري، 11/220). ‏
ومنها‎: ‎أن زيارته بنية الصلاة مغفرة للذنوب، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ‏عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم يقول: «إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عليه السلام سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا، فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ ‏نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ؛ فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا ‏يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ ‏فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ ﮎ قَدْ ‏أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» (مسند أحمد، رقم 6644). ‏
ومنها‎: ‎أن الصلاة فيه مضاعفة، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي ذر رضي ‏الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أيهما أفضل: ‏مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، ‏وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الأَرْضِ، حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ‏خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا» – أو قال: «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (الحاكم في ‏المستدرك، رقم 8600، 5/712) وفي (صحيح الترغيب، 1179). ‏
ومنها‎: ‎أن الدجال لا يدخله، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جنادة بن أمية ‏الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله ‏عليه وسلم، فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في ‏الدجال، ولا تحدثنا عن غيره وإن كان مصدقًا، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم ‏فقال: «أَنْذَرْتُكُمُ الدَّجَّالَ- ثَلَاثًا -، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ أُمَّتَهُ، وَإِنَّهُ فِيكُمْ ‏أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، وَإِنَّهُ جَعْدٌ آدَمُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، ‏وَمَعَهُ جَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، وَإِنَّهُ يُمْطِرُ الْمَطَرَ وَلَا يُنْبِتُ الشَّجَرَ، وَإِنَّهُ يُسَلَّطُ ‏عَلَى نَفْسٍ فَيَقْتُلُهَا وَلَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّهُ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَبْلُغُ ‏فِيهَا كُلَّ مَنْهَلٍ، وَلَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدَ ‏الطُّورِ، وَمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَمَا يُشَبَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (مسند الإمام ‏أحمد، 39/ 89 – 90). ومنها:‏‎ ‎أن هلاك يأجوج ومأجوج فيه. ‏
ثانياً: الغزو الصليبي والمقاومة الإسلامية ‏
لعل الحملات الصليبية على بيت المقدس هي من الأكبر المحن التي واجهتها ‏أرض بيت المقدس وفلسطين في تاريخها؛ حيث نجح الصليبيون في احتلال أرض ‏بيت المقدس وإقامة المستوطنات فيها، وذلك نتيجة لجملة من الأسباب؛ كانقسام ‏الصف الإسلامي وفقد القيادة الموحدة وضعف الأمة بشكل عام، وتناحرها مذهبياً. ‏وعلى الرغم من كل ذلك فإن حركات المقاومة الشعبية لم تتوقف مذ دخل أول جندي ‏صليبي إلى أرض بيت المقدس. وذكرت المصادر التاريخية صوراً من المقاومة ‏والجهاد، فإن أعدادا كبيرة من المجاهدين دافعوا عن بيت المقدس من أهله ومن سكان ‏الريف المجاور له الذين لجأوا إليه لصد هجوم الصليبيين. وقد قاد حركة الجهاد هذه ‏قاضي المدينة أبو القاسم مكي بن عبد السلام، الذي أقام على تحريض الناس على ‏الجهاد والمقاومة إلى أن أسر وقتل. وعملت المقاومة على إفساد وطمر ما يقع حول ‏مدينة القدس ” من الينابيع والعيون ” للتضييق على الصليبيين ونشر المرض في ‏معسكراتهم، بالإضافة إلى تدمير صهاريج وأحواض مياه الأمطار.‏
دفعت هذه المقاومة الشعبية والإسلامية بأساليبها المتنوعة بأعداد كبيرة من ‏الصليبيين إلى مغادرة الأرض المقدسة إلى الغرب الأوروبي؛ إذ لم تترك لهم المقاومة ‏الشعبية مجالاً للشعور بالهدوء أو الإحساس بالأمن والاستقرار فيها. وهذا ما عبر عنه ‏ويليام الصوري واصفًا الوضع الأمني المتدهور في القدس بقوله: فنادراً ما كان هناك ‏مكان يستطيع المرء أن يرتاح فيه بأمان حتى داخل أسوار المدينة، وفي المنازل ‏ذاتها… كما أن حالة الأسوار المخربة تركت المدينة معرّضة للعدو، فقد اقتحموا المدن ‏وبطشوا بالكثيرين في عقر منازلهم. (الاستيطان الصليبي لبيت المقدس وتهجير ‏المقدسيين، مصطفى قداد، مجلة دراسات بيت المقدس، العدد عشرين، 2020، ص ‏‏379). ‏
وبعد عقود من الاحتلال وفي عام 583 انتصر السلطان صلاح الدين الأيوبي ‏في معركة حطين، وفتح بجيوشه المدن المقدسية ثم وصل إلى مدينة بيت المقدس في ‏منتصف شهر رجب وما إن بدأ بمهاجمة الصليبيين فيها حتى استسلموا وطلبوا الأمان. ‏ودخل المسلمون بيت المقدس في يوم الجمعة الموافق للسابع والعشرين من شهر رجب ‏سنة 583ه. أما سكان المستوطنات الأخرى من الصليبيين فقد هربوا بعد سماعهم ‏بانتصارات صلاح الدين وكان مصير مستوطناتهم الزوال. (الاستيطان الصليبي لبيت ‏المقدس وتهجير المقدسيين، مصطفى قداد، مجلة دراسات بيت المقدس، العدد ‏عشرين، 2020، ص 379). ‏
نؤمن أنّ الأيام دول، وأن التاريخ يُعيد نفسه، وأن الله تعالى سيطهر بيت المقدس ‏من دنس هؤلاء الأشرار المغتصبين، وأن الله تعالى كما طهر بيت المقدس من دنس ‏الصليبيين المعتدين سيطهر بيت المقدس والمسجد الأقصى من عدوان اليهود ‏والصهاينة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ‏الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ ‏مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ ‏الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‏وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. (عبد الله شاكر، فضائل المسجد الأقصى المبارك، ‏‏2017). ‏
ثالثاً: على خطى الملك العادل نور الدين محمود الزنكي في توحيد كلمة المسلمين ‏
إنّ ما نعاني منه اليوم من تشرذم وتفرق في صفوف الأمة الإسلامية، يجعل من ‏الضروريّ أن نبحث عن حلول التوحد والالتحام من جديد حتى نحقق وعد الله الذي ‏قضى أن ينصرنا على عدونا ولا يجعل المهانة فينا، وإن من خير النماذج التي كان ‏لها الأثر البليغ في توحيد صفوف الأمة، المجاهد الكبير والملك العادل نور الدين ‏محمود الزنكي؛ حيث كان يؤمن بضرورة التحام القوى الإسلامية وتوحيد الصفوف ‏المفككة، حتى تكون سدًا منيعًا أمام أطماع الصليبيين؛ لكن حُكّام ووزراء دمشق الذين ‏ربطتهم علاقات ودية مع الصليبين حالوا دون تبلور مشروع الوحدة المنشود، وقد عمل ‏نور الدين جاهدًا على توحيد دمشق، وهو ما حدث فعلا سنة 1154م وذلك بعد وفاة ‏وزيرها الداهية “معين الدين أنر” الذي عرفت البلاد في عهده مرحلة من الذل والمهانة ‏أمام الصليبين، وقد استقبل سكان دمشق نور الدين زنكي بالترحيب البالغ، وتوحدت ‏في عهده بلاد الشام، وتوسعت الدولة النورية وأصبحت تحيط بالقوات الصليبية من ‏الشمال والشرق والجنوب‎!‎‏ (هكذا مهد نور الدين الزنكي لتحرير القدس، وداد زراعي، ‏مقالات الجزيرة)‏
وبذلك لم يبقَ للصليبيين مكانٌ للتوسع سوى مصر التي مثلت ثرواتها حافزاً لهم ‏على ضمها لملكهم، خاصة في ظل الخلاف والضعف الذي عرفه البلاط الفاطميّ في ‏مصر آنذاك. وبالفعل قام الإفرنج باجتياح مصر ولم تعقهم أي مقاومة تذكر! فبعث ‏نور الدين جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي لطرد ‏الصليبيين منها، وكان ذلك عام 1169م، وقد حققوا نصرًا مبينًا كسروا به شوكة ‏الصليبيين وألحقوا بهم هزيمة نكراء، فتولى شيركوه منصب الوزارة؛ لكنه توفي بعد ‏شهرين من ذلك، فجعل نور الدين مكانه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، وامتدت ‏بعدها الدولة النورية من الموصل إلى مصر فصارت قطعةً واحدة، وفُصِلَ بيت ‏المقدس عن بقية الإمارات الصليبية وأصبح معزولا واضح المصير. أدرك الصليبيون ‏أنهم أمام رجل من نفسِ طينة أبيه، قائد عظيم لا يقهر، عمل على توحيد صفوف ‏الأمة الإسلامية، فأعدَّها إيمانيًا وفكريًا واجتماعيًا وجهاديًا واقتصاديًا‎.‎‏ (هكذا مهد نور ‏الدين الزنكي لتحرير القدس، وداد زراعي، مقالات الجزيرة). ‏
رابعاً: على خطى القائد الناصر صلاح الدين الأيوبي في تنشئة الأجيال وتحرير ‏بيت المقدس والمسجد الأقصى ‏
فتح القائد صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، بجيل فريد أُعد لسنوات طويلة ‏نفسياً وخلقياً وروحياً وتربوياً فلم يظهر هذا الجيل الذي انتصر في حطّين من فراغ، ‏وإنما سبقته جهودٌ علميَّة، وتربويةٌ على أصول منهج أهل السُّنَّة، والجماعة، وأصبح ‏ذلك الجيل؛ الذي أكرمه الله بالنَّصر في حطِّين تنطبق فيه كثيراً من صفات الطائفة ‏المنصورة، والتي من أهمها:‏
‏1.‏ أنَّها على الحقِّ؛ وللطائفة المنصورة من ملازمة الحق، واتِّباعه ما ليس لسائر ‏المسلمين، وهي إنما استحقَّت الذكر، والنَّصر؛ لتمسُّكها بالحقِّ الكامل حين ‏أعرض عنه الأكثرون. ‏
‏2.‏ أنها قائمة بأمر الله؛ وهـذه الخصيصة بارزةٌ جداً في الوصف النبوي لهـذه ‏الطَّائفة، فهم أمَّةٌ قائمة بأمر الله، واسمهم: «الطائفة المنصورة»، فقد تميَّز ‏صلاح الدين بحمل راية الدَّعوة إلى الله، وإلى دينه، وشرعه، وسنَّة نبيه صلى ‏الله عليه وسلم والقيام على نشر السنة بين الناس بكل وسيلةٍ ممكنةٍ مشروعةٍ، ‏ووظف إمكانات الدولة لذلك، ولدفع الشبهات عن منهج أهل السنة، والردِّ على ‏مخالفيه. وكانت دولة صلاح الدين قائمةً بالأمر بالمعروف، والنهي عن ‏المنكر باليد، واللسان، والقلب، معارضةً لكل انحراف يقع بين المسلمين؛ أيَّا ‏كان نوعه: سياسياً، أو اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو علمياً، أو اعتقادياً.‏
‏3. أنَّها تقوم بواجب الجهاد في سبيل الله؛ فالطائفة المنصورة جاءت الأحاديث النبوية ‏في وصفهم بأنهم «يقاتلون على الحق» أو «يقاتلون على أمر الله». وكان صلاح ‏الدين وجيشه قاموا بالجهاد الشرعي في سبي الله، وقتال أعداء الله من الكفار، وغيرهم.‏
‏4. أنَّها صابرة؛ فقد خصَّ الله الطائفة المنصورة بالصَّبر، وقد رأيت، وسوف ترى ـ ‏بإذن الله ـ كيف تسلَّح صلاح الدين، وجنوده بالصَّبر الجميل في جهادهم، ولم تستطع ‏القوَّة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم، وهدفهم الذي يسعون إليه، ولهـذا وصف ‏الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم بأنهم: «لا يضرهم مَنْ كذَّبهم، ولا مَنْ ‏خالفهم، ولا يبالون بمن خالفهم». وهـذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى هؤلاء ‏العاملين الذي عرفوا أهدافهم، وسلكوا طريقهم، فلم ينظروا إلى خلاف المخالفين، ‏وعوائق المخذِّلين، ولا تكذيب الأعداء الحاقدين. وكانوا يواجهون كلَّ المتاعب بصبرٍ، ‏وثباتٍ، ويقين. فهـذه الصفات التي جاءت في الأحاديث النبوية لوصف الطائفة ‏المنصورة قد انطبقت على جيل صلاح الدين الأيوبي.‏
وكان صلاح الدين يوصي جنوده بالوصايا النافعة، فقد قال ـ رحمه الله ـ ذات يوم: ‏اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم، ومنعته، وأنتم تعلمون: أنَّ دماء المسلمين، وأموالهم، ‏وذراريهم في ذممكم معلَّقة والله ـ عز وجل ـ سائلكم يوم القيامة عنهم، وأنَّ هـذا العدو ‏ليس له من المسلمين من يصدُّه عن البلاد، والعباد غيركم، فإن توليتم ـ والعياذ بالله ـ ‏طوى البلاد، وأهلك العباد، وأخذ الأموال، والأطفال، والنساء، وعُبِد الصليبُ في ‏المساجد، وعُزل القران منها، والصلاة، وكان ذلك كلُّه في ذممكم، فإنَّكم أنتم الذين ‏تصدَّيتم لهـذا كلِّه، وأكلتم أموال المسلمين؛ لتدفعوا عنهم عدوَّهم، وتنصروا ضعافهم، ‏فالمسلمون في سائر البلاد متعلِّقون بكم. والسلام. (القائد صلاح الدين الأيوبي، علي ‏محمد الصلابي، ص 300). ‏

إن الاعتداء على المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك هو بشارة الصابرين ‏والمرابطين والمصابرين من إخواننا، ونبشرهم بأن المسجد الأقصى من قديم الزمان ‏تعرض لكل أشكال المحن والأزمات والاعتداء من يد الغدر وأعوان الشيطان وحوصر ‏وحُرق ودُمرت أجزاء منه واستبيح بالقذارات، ولكنه صمدَ، وانتصر بهمة وعزيمة أهله ‏المرابطين حراس العقيدة والدين والتاريخ، وتاريخنا يشهد بأن عوامل النصر والتمكين ‏تأتي من قلب المحن، وإن نصر الأمة واسترجاع مجدها وصون مقدّساتها، مرتبط بعد ‏الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام به، بسيرها على نهج هؤلاء القادة العظام في ‏توحيد كلمة الأمة ورصّ صفوفها، كما فعل الملك العادل نورد الدين محمود الزنكي، ‏وعلى تنشئة أجيال كأجيال الرعيل الأول من صحابة رسول الله ﷺ كما انتهج القائد ‏صلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعاً. إن هذه الغايات العظمى تحتاج جهوداً مكثفة ‏من الأمة الإسلامية لتكون على قلب واحد وكلمة واحدة، بتوحيد شعوب الأمة ‏الإسلامية وحكوماتها، حتى نتجاوز هذه المعضلة الكبرى ونحرر المسجد الأقصى، ‏وننصر الشعب الفلسطيني المجاهد. كما نناشد إخواننا المجاهدين والمرابطين في ‏المسجد الأقصى أن يصبروا ويصابروا، في دفاعهم عن أرضهم ومقدّساتهم فإن الله ‏ناصرهم ومؤيدهم من عنده، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ‏وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].‏

المراجع:‏
‏1.‏ الاستيطان الصليبي لبيت المقدس وتهجير المقدسيين، مصطفى قداد، مجلة ‏دراسات بيت المقدس، العدد 20، 2020.‏
‏2.‏ تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين، علي محمد الصَّلاَّبي، دار الصحابة، ‏الشارقة، طبعة أولى.‏
‏3.‏ الحاكم في المستدرك. ‏
‏4.‏ الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نورد الدين محمود الشهيد، د. علي ‏محمد الصلابي، ص 350.‏
‏5.‏ صحيح البخاري ‏
‏6.‏ صحيح مسلم ‏
‏7.‏ عبد الله شاكر، فضائل المسجد الأقصى المبارك، موقع إسلام ويب، 6 يوليو ‏‏2017م. ‏
‏8.‏ القائد صلاح الدين الأيوبي، د. علي محمد الصلابي.‏
‏9.‏ مسند الإمام أحمد ‏
‏10.‏ من فضائل المسجد الأقصى، أمين عبد الله الشقاوي، موقع الألوكة، 18 فبراير ‏‏2018م. ‏
‏11.‏ هكذا مهد نور الدين الزنكي لتحرير القدس، وداد زراعي، مقالات الجزيرة.‏