خاص هيئة علماء فلسطين
أليست الجزية نوعاً من إرغام الناس على الدخول في الإسلام ولو لم يكونوا مقتنعين به؟
15/9/2025
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فالجزية عبارة عن المال الذي يفرض على الكتابي بموجب عقد الذمة، قال النووي رحمه الله تعالى: مشتقة من الجزاء كأنها جزاء إسكاننا إياه في دارنا، وعصمتنا دمه وماله وعياله.
والأصل في مشروعيتها قول الله عز وجل {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فلما نزلت هذه الآية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من نصارى نجران، ومجوس هجر، ثم أخذها من أهل أيلة، وأذرح، وأهل أذرعات وغيرها من القبائل النصرانية التي تعيش في أطراف الجزيرة العربية، وأخذها بعد ذلك من أهل اليمن، حيث أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه إليهم؛ قال معاذ: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا) رواه أبو داود
هذا وقد أجمع العلماء على جواز أخذها في الجملة، وقد أخذها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر الخلفاء دون إنكار من أحد من المسلمين فكان إجماعاً
وأما الحكمة من إيجاب الجزية على أهل الذمة فليس المقصود منها إكراههم على الدخول في الدين؛ فإن من محكمات القرآن قول ربنا جل جلاله {لا إكراه في الدين} ولم يعرف عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أكره أحداً على الدخول في دينه، وإنما شرعت الجزية لحكم عظيمة منها:
أولاً: أنها علامة الخضوع والانقياد لحكم المسلمين، فقد قال سبحانه {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وفسّر الشافعي رحمه الله تعالى الصغار بإجراء حكم الإسلام عليهم حيث قال: سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام، وما أشبه ما قالوا بما قالوا: لامتناعهم من الإسلام. فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه، فعلى هذا المعنى يكون دفع الجزية من الكافرين والخضوع لسلطان المسلمين موجباً للصغار.ا.هــــ
ثانياً: أنها وسيلة لهداية أهل الذمة، قال القرافي رحمه الله تعالى في الفروق: إن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوقُّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشرعية، بيانه: أن الكافر إذا قتل انسد عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتم عليه الكفر والخلود في النار، وغضب الديان، فشرع الله الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لا سيما باطلاعه على محاسن الإسلام.ا.هـــ
ثالثاً: تعتبر الجزية مورداً مالياً من موارد الدولة الإسلامية، تنفق منه على المصالح العامة والحاجات الأساسية للمجتمع: كالدفاع عن البلاد، وتوفير الأمن في المجتمع، وتحقيق التكافل الاجتماعي، والمرافق العامة: كبناء المدارس والمساجد والجسور والطرق وغير ذلك.
رابعاً: هي في مقابل إعفاء أهل الذمة من الخدمة العسكرية، وذلك أن الجهاد في الإسلام عبادة، وهذه العبادة لا يُلزَم بها من لم يدخل في دين الله، ومع ذلك فهو محميٌّ من أهل الإسلام في دمه وماله وعرضه؛ فعليه أن يدفع في مقابل تلك الحماية ما يقوم مقام مشاركته في القتال، وذلك شبيهٌ بما تفرضه بعض الدول الآن من تلك المبالغ المالية في مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية، ويتضح ذلك جلياً حين نعلم أنها لا تؤخذ إلا ممن هو مؤهل للخدمة العسكرية، فلا تؤخذ من امرأة ولا شيخ كبير ولا طفل صغير ولا راهب في كنيسة؛ حيث اشترط الفقهاء لفرض الجزية على أهل الذمة عدة شروط منها: البلوغ، والعقل، والذكورة، والحرية، والمقدرة المالية، والسلامة من العاهات المزمنة.
وتسقط الجزية بالإسلام، أو الموت، أو العجز المالي، أو الإصابة بالعاهات المزمنة، أو اشتراك الذميين في القتال
وتسقط كذلك في حال عجز الدولة عن توفير الحماية لأهل الذمة، ذكر أبو يوسف عن أبي عبيدة بن الجراح أنه عندما أعلمه نوابه على مدن الشام بتجمع الروم لمقاتلة المسلمين كتب إليهم أن ردوا الجزية على من أخذتموها منه، وأمرهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط ما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم.
ومن هنا نعلم أنه ليس في تشريع الجزية إكراه على الدخول في الإسلام، ولا معارضة لحقوق الإنسان، والعلم عند الله تعالى