خاص هيئة علماء فلسطين

         

19/12/2025

المفتي: لجنة الفتوى في هيئة علماء فلسطين

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أصحاب الفضيلة العلماء الكرام، حفظكم الله ونفع بكم، أرجو منكم التكرّم بإفادة أهل المغرب بفتوى شرعية حول موضوع الصدقة الجارية، وذلك فيما يتعلّق بحدودها وصورها المشروعة، والسؤال هو: هل يمكن أن تُعدّ من الصدقة الجارية المعتبرة شرعًا المبادراتُ الإغاثية التي تُسهم في نفعٍ مستمر، مثل اقتناء صهاريج مخصّصة لنقل الماء وتوفيره للنازحين والمحتاجين؟، وهل يُعد هذا العمل ذا أثرٍ ممتد بحيث يدخل في مفهوم الصدقة الجارية، أم يُصنَّف ضمن الصدقات العامة التي يؤجر عليها المسلم دون أن تُعد جارية؟

جزاكم الله خيرًا وبارك في علمكم وعملكم، ونفع بكم الأمة.

الجواب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد.

فالصدقة الجارية هي كل صدقة تتبرع بها ويبقى الانتفاع منها دائماً، مثل بناء مسجد أو حفر بئر ماء أو غيرها، فيبقى ثواب هذه الصدقة جارياً أثناء حياة المتبرع وبعد وفاته.

أما الصدقة غير الجارية، فهي التي تُعطى للفقير ليتملكها وينتفع بها  كما يشاء، كأن يعطى له مال، أو طعام، أو كسوة، أو دواء، أو فراش، وكل صدقة عامة هي صدقة جارية ما جرى النفع بها.

والصدقة عن النفس والميت القريب كالوالدين من الأمور التي حثَّ عليها الشرع المطهَّر، وينبغي على من يستطيع أن يقدم صدقة جارية له ولوالديه أن يفعل، فقد ورد ذكر الصدقة الجارية في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه مسلم (1631)، وإن ذلك من أعظم البر؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال (نعم) قال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها.ا.هـ

  وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)، رواه ابن ماجه (رقم/242)، وابن خزيمة والبيهقي، وقال المنذري في “الترغيب والترهيب” (1/78): إسناده حسن، وقد استدل العلماء بهذا الحديث وغيره على فضل ‏الصدقة الجارية، وقد نظم الإمام السيوطي ما ينتفع به الميت بعد ‏موته فقال:‏

إِذَا مَاتَ اِبْن آدَم لَيْسَ يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ فِعَال غَيْر عَشْر

عُلُوم بَثَّهَا وَدُعَاء نَجْل وَغَرْس النَّخْل وَالصَّدَقَات تَجْرِي

وِرَاثَة مُصْحَف وَرِبَاط ثَغْر وَحَفْر الْبِئْر أَوْ إِجْرَاء نَهَر

وَبَيْت لِلْغَرِيبِ بَنَاهُ يَأْوِي إِلَيْهِ أَوْ بَنَاء مَحَلّ ذِكْر

وَتَعْلِيم لِقُرْآنٍ كَرِيم فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيث بِحَصْرٍ

وقد مثَّل العلماء للصدقة الجارية بالوقف، كما قال النووي في شرح حديث: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة): الصدقة الجارية هي الوقف. انتهى. شرح مسلم (11/85)، وقال الخطيب الشربيني: “الصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف كما قاله الرافعي، فإن غيره من الصدقات ليست جارية”، مغني المحتاج” (3/522-523)، والوقف هو: حبس الأصل وتسبيل المنفعة، بمعنى أن توقف عيناً لها منفعة على الفقراء مثلا يملكون منافعها، وتبقى العين موقوفة لا تباع ولا توهب، فيستمر خيرها وثوابها بعد موت الإنسان.

وبناء على ما تقدم فأمثلة الصدقة الجارية كثيرة ومنها:

‏1- بناء مسجد.

‏2- وقف الأموال لمساعدة طلبة العلم، أو إنشاء مكتبة إسلامية لخدمة العلم والعلماء.

‏3- بناء المستشفيات. ‏

‏4- بناء بيوت للعجزة والأرامل والمساكين. ‏

‏5- بناء المدارس، وبناء دور لتحفيظ القرآن الكريم، أو بناء بيوت تؤجر ويخرج ريعها ‏للفقراء والمساكين.

هذا وتشمل الصدقة الجارية كافة أنواع البر التي يراد منها تنفيس الكربات وتفريج الهموم، ولا تنحصر في أنواع مخصوصة، بل ذلك يختلف باختلاف العصر والمصر وحاجات الناس، وإن من أفضل الصدقات سقي الماء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أن أمه ماتت فقال: “يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: (نعم) قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: (سقي الماء) قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة. رواه أحمد والنسائي

ويدخل في ذلك ما يتعلق بسقيا الماء من حفر البئر وتمديد الأنابيب وشراء الأوعية والأسقية ووسائل النقل له، وما دام الوقف باقياً والمنفعة حاصلة فالثواب مستمر لصاحبه، وكذا لو بيع الوقف ووضع في وقف آخر فيستمر أجره كذلك.

وينبغي للمسلم أن يعدد مصارف صدقاته، حتى يكون له نصيب من الأجر مع أهل كل طاعة، وأن يخصّ المعوزين من المسلمين والذين نزلت بهم النوازل كأهل غزة الآن، ولا يؤخر عنهم بذل المال، ويعتبره من الصدقة الواجبة والجهاد بالمال مشاركة لهم فيما نابوا فيه عن الأمة من الدفاع عن مسرى رسول الله، وقتال اليهود المغتصبين للأرض المقدسة. والله تعالى أعلم.

لجنة الفتوى في هيئة علماء فلسطين

28/ جمادى الآخرة/ 1447ه

18/ 12/ 2025م