خاص هيئة علماء فلسطين

         

28/9/2024

هذه ندوة من ندوات (مؤتمر العلماء والطوفان، التأصيل والفتاوى والدور المطلوب) الذي شاركت هيئة علماء فلسطين في تنظيمه في إسطنبول، وهنا تفاصيل المؤتمرhttps://palscholars.org/?p=20315

—————

الكاتب: أ. د. هشام محمد عبد الله  باحث وأكاديمي عراقي / هيأة علماء فلسطين

تمهيد : صورة العالم في التاريخ الإسلامي:

نحاول في عجالة المرور على صورة العالم وكيف كانت مهمته وملامح وجوده، وقد مررنا بعدد من الأمثلة تمثيلاً، لا حصراً، فقد كانوا نماذج في كل مجالٍ، ومن إجمال هذه الصور تحت عناوين ثلاثة، تتفرّع عنها كل المظاهر والصور التفصيلية لشخصية العالم:

  1. الجهاد ذروة سنام الإسلام: لن أمرّ على موضع الجهاد عن الصحابة فتاريخهم يغني عن الحديث ولكن سأضرب مثلاً لمن جاء بعدهم ، هذا التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأزدي -رحمه الله- من نتاج تربية الأربعة الخلفاء الراشدين وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، عاف التجارات والبيوت لانشغاله بالجهاد، لم يكن له بيت يدخل فيه، ولم يكن يشتغل في تجارة، وما كان يعرف أي شيء عن هذه الأشياء، بنى له في الكوفة خصاً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، فمساحة الخص الذي اتخذه تسع جسده والفرس والسلاح فقط
  2. الجمع بين السيف والعلم، نموذج ابن تيمية في جهاد التتار حتى إنه كان يحلف بالله : إنكم لمنصورون ، فيقول بعض الأمراء له : قل إن شاء الله ، فيقول : أقولها تحقيقـًا لا تعليقـًا ، فاطمأنت القلوب وسكنت النفوس ،

 ابن المبارك الذي جمع بين التأصيل للجهاد في (كتاب الجهاد) وممارسته، وهو المجاهد المرابط وصاحب قصيدة الشهيرة التي أرسلها إلى الفضيل، وكان وقتها مرابطاً في طرسوس: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب ولهذه العلمية العملية كان قول هارون الرشيد فيما يرويه بن عبد الحكم: “بلغني أن هارون الرشيد أمير المؤمنين قال: مات سيّد العلماء” تاريخ بغداد 10/420

والقاضي الفاضل صحب صلاح الدين في جميع غزواته ببلاد الشام، رئيس ديوان الإنشاء ووزير دولة صلاح الدين، الذي كان يشارك في وضع الخطط ومن كلمته لا تنزل الأرض عند المحرر الناصر صلاح الدين الأيوبي.

  • شحذ الهمّة والحث على الجهاد: وقد كان من دعوة الشيخين الهروي وابن الخشاب بعد سقوط القدس في يد الصليبيين أثر كبير في شحن النفوس والاستعداد لجهاد الفرنجة المحتلين، واستطاعا أن يضعا السلطان السلجوقي في موقف حرج، دعاه إلى الالتفات إلى الجهاد وتجهيز الجيوش.
  • عدم التفريق بين بلاد المسلمين: فمثلاً بعد خبر المذبحة الشنيعة التي ارتكبها الصليبيون غداة احتلالهم لبيت المقدس عام 492هـ/1099م، التي قتلوا جميع من فيها من المسلمين؛ استاء علماء الشام من قنوط القيادات الإسلامية وتقاعسها عن الجهاد، وكان من أبرز هؤلاء العلماء قاضي دمشق زين الدين الهروي، الذي توجه مباشرة إلى بغداد عاصمة الخلافة بعد سماعه عن أفاعل الفرنجة، واستنكر على الناس هناك خنوعهم، وهو ما أدى به إلى مقابلة الخليفة والتصريح له بوجوب تجهيز جيش لطرد الصليبيين من القدس”

صور جهاد العلماء في العصر الحديث

أولاً: الجهد التشريعي والتأصيلي.

لعلّ أوجب واجبات العالم هي في بيان الشرع وتبليغه للناس، ولأن مستجدات العصر تغيّرت شكلاً وظروفاً، كان على علماء الأمة أن يؤصّلوا ويبينوا حكم الشرع في النوازل التي حلّت بالأمة ومنها فلسطين، ولا تكاد الأمة تخلو على مساحتها الواسعة من جهد تأصيلي وفتاوى، أكّدت ضرورة البذل والإسناد بكلّ أشكاله لتحرير الأرض الإسلامية، وعدِّ ذلك جهاداً واضحاً لا لبسَ فيه ولا شبهة، وقد تطوّرت وتشعّبت تفاصيل الفتاوى تبعاً للمستجدات، التي بدأت بجهاد الدفع، وتفرّعت لتتناول مظاهر جهادٍ تفصيلية لم تكن حاضرة في مرحلة سابقة، ولعلّ ما يعنينا هو خروج الفتاوى من المؤسسات فضلاً عن الشخصيات الكبيرة، مثل فتوى مبكّرة باسم جمعية الهداية الإسلامية ” العراقية جاء فيها: أيها العرب أيها المسلمون إن إنقاذ فلسطين وأبنائها حق وفرض على كل مسلم ومسلمة واعلموا أن الموت في سبيلها هو الحياة والمجد “ جريدة العراق ع ٢٨٦٦، وفتاوى أخرى من مؤسسات مصر الشرعية، على اختلاف تناوب رؤسائها، وخاصة مؤسسة الأزهر، زمن الشيخ المراغي، والشيخ عبدالحليم محمود والشيخ محمود شلتوت، في رفضهم للسياسة البريطانية ودعوة الجهاد ضد اليهود، وإعادة الفلسطينيين إلى أرضهم.

ثانياً: الجهد التعبوي والتوعوي

  1. لعلّ جهود الشيخ محمد محمود الصواف 1992 : وإرسال المتطوّعين للجهاد في فلسطين، والإسهام في تأسيس جمعية إنقاذ فلسطين التي ضمت الشيوخ علي الطنطاوي وسيد قطب والشيخ أمجد الزهاوي 1967 ، ومحمد أمين الحسيني، خير مثال على هذا النوع، فقد عملت الجمعية على شرح القضية للبلاد الإسلامية، ودعت إلى مؤتمر القدس ١٩٥٣. حيث جاء من أقواله: ” هي امتداد لمعارك صلاح الدين بالأمس، ومهما حاول المضللون والمنافقون وأعداء الإسلام تغيير هذا الواقع فإن الحق لن تغلبه قوة الباطل، وإن المعركة تسير في طريقها المنحرف حتى يقيّض الله عز وجلّ القادة المسلمين عقيدة وعملاً وجهاداً” معركة الإسلام.
  2. ومثله الشيخ أمجد الزهاوي إمام العراقيين رئيس جمعية إنقاذ فلسطين في مرحلة لاحقة ومكاتباته للرؤساء والدول والملوك، فقد وجه نداءً باسم رابطة علماء العراق إلى الشعب العراقي خاصة والعالم الإسلامي عامة: “بين فيه ضرورة التعبئة للجهاد في سبيل الله بالنفس والمال ضد اليهود الصهاينة المعتدين الذين دنّسوا المسجد الأقصى وهتكوا الحرمات ونهبوا الأموال، وكذا موقفه من مذبحة قرية قبية، عام ١٩٥٣، فقد وجه برقية للواء محمد نجيب وحكومة الضباط الأحرار في مصر دعاهم إلى حماية الفلسطينيين، وجاء في فتواه ” الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة قادر على حمل السلاح وواجب على حكام المسلمين إعلان الجهاد” جريدة الجمهورية العدد ٦٦٦/ ٢٣ تشرين الأول ١٩٦٧.

ثالثاً: الجهد الجهادي المباشر

  1. عز الدين القسام، والعمل الجهادي العملي، اختار جماعة من إخوانه المؤمنين وأخذ يدرّبهم على السلاح حتى استطاع أن يكوّن منهم كتيبة، وهو صاحب مقولة: ” هذا الكتاب العظيم يأمرنا بالجهاد ولا نخالفه، وكان جهاده فتكاً بالإنكليز، مات مقبلاً غير مدبر بعد معركة استبسل فيها هو ومجموعة معه.
  2. الشيخ عبدالله عزام والتحاقه بكتائب الإخوان بعد سقوط الضفة الغربية عام ١٩٦٧، اشترك في عدد من المعارك مثل معركة المشروع والحزام الأخضر، كما أشرف على عمليات عسكرية في معركة الخامس من حزيران.
  3. الشيخ الدكتور نزار ريان أستاذ الحديث الشريف في الجامعة، والقائد القسامي الأكثر حضوراً علمائياً، وقد قضى شهيداً2008 مع زوجاته وأحد عشر من أبنائه.

رابعاً: الجهد السياسي

يمثل نموذج الشيخ محمد حبيب العبيدي  1963 ت مفتي الموصل ( لثلاثين عاماً) علامة فارقة في هذا النوع من الجهد العلمائي، على الرغم من جهوده الشرعية والتعبوية، إلا أن هذا الجهد يمثّل تميّزاً له عن بقية العلماء والدعاة، ففي وقت مبكّر ألف رسالة غاية في الأهمية تبيّن مدى وعيه السياسي والشرعي والتاريخي حول قضية فلسطين، وعنون هذه الرسالة بـ (الفتوى الشرعية في جهاد الصهيونية) وصدرت عام 1947، حيث فضح فيها حيل الإنكليز والأمريكان، وتآمرهما المزدوج على بلاد العرب والإسلام عامة ، وعلى فلسطين خاصة، وأثبت الشيخ العبيدي وعياً متقدّماً في فهمه للصراع الغربي العربي والإسلامي، من حيث استعمال مصطلحات ومفاهيم دقيقة جداً، ربما لم يصل إلى فهمها إلى الآن كثيرٌ من المؤرخين والمثقفين، وقد اتّخذ من حضور المؤتمرات وزيارة البلدان، والمراسلات والمكاتبات للحكومات الغربية والحكومات العربية وسائل عرض فيها مخاوفه واعتراضاته وتحذيراته.

خامساً: الجهد وفق منظور الأمة الواحدة وليس القطرية:

 لأن قضية فلسطين هي قضية إسلامية بامتياز، وما يجري عليها هو بوّابة محاولات اختراق الأمة كي يتحقق حلم إسرائيل الكبرى، فإن علماء الأمة رغم انشغال أقطارهم باحتلال الأجنبي فإنهم لم ينسوا هذا المنظور ولم يتجاوزوه، فهذا الشيخ بن باديس علامة الجزائر 1940 ت ” يقول رحمه الله في مجلة “الشهاب”: “تزاوج الاستعمار الإنكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل وقذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يُطاق وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحاً لا يندمل، وقبله الشيخ محمد بشير الإبراهيمي 1965 الذي صرّخ بأعلى صوته :

أيها العرب

أيها المسلمون!

إن فلسطين وديعةُ محمد عندنا، وأمانةُ عمر في ذممنا، وعهدُ الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهودُ منا – ونحنُ عصبةٌ – إنَّا إذاً لخاسرون”

ولا يمكن تجاوز العلامة القرضاوي في كتاباته ودعمه غير المحدد ولا المحدود، وتأليفاته ووقوفه منذ شبابه، وحتى وفاته رحمه الله، ما قاله فيه كامل الشريف، فضلاً عن أنه عنون كتابا ًله ” القدس قضية كل مسلم)

سادساً: الجهد المالي والإغاثي:

لعلّ جمعية إنقاذ فلسطين التي أسسها عدد من عيون بغداد منهم أمجد الزهاوي، والشيخ الصواف عام 1947، والمؤسسات العلمائية بشكل عام عملت في أحد مسارات دعمها لفلسطين على جمع التبرعات، وحث الأمة على الإنفاق، وربما يحترز بعض العلماء من سلوك مسار الجمع المالي، احترازاً من الشبهة أو ضياع ماء الوجه، ولكن الأمر من زاوية أخرى هو فرصة قلّما تخيب إن أحسنّا المدخل والتأصيل.

الخلاصة إن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء قد اختُصًوا بهذا اللقب، كونهم ساروا على منهاج النبوّة، قولاً وفعلاً وسلوكاً وعملاً والتزاماً، وإن العالِم يكتسب قيمته في كونه عموداً من أعمدة الأمة ودينها ووجودِها، وبمقدار جمعه بين العمل والعلم والجهاد بمقدار ما يكون قدوة تهتدي به الأمة، وتتّبعه وتسلك طريقة ومساره.