20231121
د. طه أحمد الزيدي- عضو الهيئة العليا ولجنة الفتوى في المجمع الفقهي العراقي
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان الا على الظالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد:
فإن (طوفان الأقصى) هو العنوان الذي أطلقه قادة المقاومة الإسلامية في غزة على المعركة التي شنتها المقاومة الإسلامية على جيش الكيان الصهيوني في المستوطنات التي تحاذي غزة.
وقد صاحب هذه المعركة وتبعاتها صدور عدد من البيانات والفتاوى والتصريحات من علماء ومن متعالمين، وفتاوى مؤصلة منضبطة بالسياسة الشرعية، وفتاوى مسيسة خاضعة لإرادات ورغبات سياسية كل بحسب أجنداتها، ومنهم من شدد ومنهم من سوّف.
ومعلوم أن تبيين الأحكام الشرعية عند النوازل والمستحدثات والقضايا الكبرى من أهم واجبات علماء الأمة مع ابتغاء مرضاة الله تعالى وخشيته وقول الحق، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187)، ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب: 39).
مع مراعاة الأوسط الأعدل من الأقوال، والأصلح للحال والأنسب للمآل، و”أن يكون غرض المفتي إصابة الحق دون تحكيم هواه”، (إعلام الموقعين، لابن القيم، 4/211)، قال الشاطبي رحمه الله: “المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال” (الموافقات، 4/252)، وينبغي التثبت وعدم التسرع بإطلاق الأحكام ولاسيما في الشأن العام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أُفْتِي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) (رواه أحمد وابن ماجه)، أي: دون تريث، وهو نص في تحريم التعجل في الفتوى، قال ابن حمدان رحمه الله: “يحرم التساهل في الفتوى – اي التعجل فيها-، واستفتاء من عرف بذلك؛ إما لتسارعه قبل تمام النظر والفكر؛ أو لظنه أن الإسراع براعة، وتركه عجز ونقص” (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، 31).
وفي نوازل القتال فإن العلماء الربانيين المرابطين هم أدق تصورا لنازلتهم، واثبت تصديقا لمراد الله ورسوله في النصوص الشرعية، وأعمق إدراكا لمقاصد التشريع، وأكثر إحاطة بالواقع ومآلاته، فيما يتعلق بتحقيق المناط وتعيين محل الحكم وتنزيله على الواقع الجزئي والأحوال الخاصة بهم، وعلماء فلسطين المرابطون هم الأقدر على ضبط ذلك، وإن طلبوا من علماء الأمة رأيا فسعيا منهم لدقة الاستنباط ودفعا للعاطفة المؤثرة على الحكم، وليتكامل المفتي المجاهد مع فقيه السياسة والمقاصد، لتحصيل الحكم الشرعي في هذه النوازل، ويبقى حكم غيرهم متعلقا بالواقع العام والأحوال الكلية ومن باب الشورى الفقهية المعلمة، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد وترامي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا يراءا أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا) (الفتاوى الكبرى، 5/539).
ومن باب أداء المسؤولية الشرعية واستجابة لطلب بعض أهل العلم بتحرير بعض المسائل المتعلقة بهذه النازلة وما أثير بشأنها من شبهات بقصد التشويش وارباك مشهد الصراع، فقد أحببت أن اشارك المرابطين بأقل الواجب الشرعي المترتب علينا بتحرير المسائل المتعلقة بطوفان الأقصى في ضوء السياسة الشرعية، وهذا من باب النصيحة والنصرة الفقهية، ومن الله التوفيق والسداد:
التكييف الفقهي لأرض فلسطين
إن أرض فلسطين أرض إسلامية محتلة من قبل اليهود الصهاينة، والجهاد من أجل تحريرها مطلوب شرعا، ومقتضيات المعارك يحددها أولو الأمر والعلماء، ومناط أحكامها لدى المرابطين منهم، وهذه القضية مقررة لدى العلماء السابقين والمعاصرين، قال العلامة ابن باز رحمه الله: “إن جهادهم إسلامي؛ لأنهم مظلومون من اليهود؛ ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة، فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم”. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 295).
وعليه أن ما تقوم به المقاومة الإسلامية في فلسطين حق مشروع، ومعركة طوفان الأقصى هي جهاد لدفع العدوان والذود عن الدين والمقدسات والحرمات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123)، وطلب العدو المحتل للأرض، المؤيد من قبل قوى مستكبرة في الأرض مطلوب شرعا ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (الأنفال: 57).
وينبغي على قادة الدول العربية والإسلامية ونخبها وشعوبها نصرتهم بما يستطيعون وما تحتاجه المعركة من دعم سياسي وميداني واقتصادي وإعلامي، وأن الاستجابة لهذا الأمر تختلف باختلاف البقاع والمواقع والتخصصات والقدرات، قال الله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الانفال: 72)، وهذه الآية تدل على وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم وعدم خذلانه إذا استنصره، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله) أخرجه مسلم.
ويتأكد هذا الحق في زمننا لسببين:
الأول: إنّ جهاد اليهود المعتدين المحاربين المحتلين لفلسطين ليس من باب جهاد الطلب، بل هو من جهاد الدفع، لذا فإن من الواجب على كل مسلم أن يسهم في دعم المقاومة بما يستطيع بنفسه أو ماله أو لسانه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات :15)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ) أخرجه أبو داود والنسائي، وجهاد اللسان يكون بالكلمة الصادقة والموقف المعلن، وبالفتوى المنضبطة لبيان نصرتهم ولتبصير الأمة بالأحكام الشرعية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وبالخطب والإعلام العام والرقمي، وبالدعاء لهم، والقنوت لنازلتهم، وهذه من أعظم مقومات النصر المعنوية.
الثاني: طلب النصرة من أبناء الأمة المرابطين في بيت المقدس الذين قال في حقهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) رواه أحمد.
لذا ينبغي على المسلمين (حكومات وشعوبا) نصرة الشعب الفلسطيني واغاثة أهلنا في غزة الصمود، لوجوب التضامن معهم، ودعمهم والوقوف معهم، ومساندتهم، وتوظيف العلاقات الديبلوماسية والمحافل الدولية لأجل ذلك، لعدالة قضيتهم وقيامهم بواجب الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأرضهم وعرضهم، ولمشروعية مقاومتهم للمحتل وسعيهم لإخراجه من أرضهم، فينبغي نصرتهم بكل ما أمكن، وعدم خذلانهم، حتى ينالوا حقوقهم المشروعة كافة.