د. محمد سعيد بكر
رسالة_المنبر ٢٦-٨-٢٠٢١م
المحاور
في الويكيبديا .. غالبًا ما يرتبط النقد الذاتي ومراجعة النفس باضطراب الاكتئاب الشديد .. يعني يعتبرونه مرض يدل على ضعف الشخصية!!
النقد الذاتي ومحاسبة الذات والمراجعات منهج أصيل في شريعتنا السمحة .. وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله تعالى: ”ولا أقسم بالنفس اللوامة” .. وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله” رواه الترمذي وهو حسن .. وعن عمر رضي الله عنه عن ذلك بقوله: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا”.
وفي المستوى التطبيقي نجد كيف أخذت المراجعات والتقويم الذاتي لحركة الدعوة شأنها .. وكيف آتت أكلها؛ حيث تحول الأمر من مجرد تقييم ومراجعة نظرية إلى عملية تقويم حقيقي في المسار .. ومن ذلك:
1️⃣ لمس النبي صلى الله عليه وسلم خير الحبشة من خلال تقرير مراجعة وافٌ وكافٍ أتى به مهاجرو الدفعة الأولى في العام الخامس للبعثة إليها؛ ما أدى إلى إرسال وفد أكبر منه في العام السابع للبعثة.
2️⃣ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم درساً من رحلة الطائف فلم يذهب إلى المدينة قبل أن يستوثق من أهلها بالبيعتين وبإرسال سفيره مصعب بن عمير رضي الله عنه .. ولم ينزل في وسطها بل في قباء حتى تأكد من قبول الناس له فيها .. ثم بنى مسجده في قلبها.
3️⃣ كانت غزوة الأحزاب درساً قاسياً فتحولت استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم بعدها من الدفاع إلى الهجوم، وهذا من ثمار المراجعات وتقييم الخطوات .. “اليوم نغزوهم ولا يغزونا”.
4️⃣ أول مواجهة للروم كان عدد المسلمين فيها ٣ آلاف، وفي المواجهة الثانية يوم تبوك أصبحوا ٣٠ ألفاً، وذلك بعد إعادة تقييم المشهد، لأجل ذلك انتصرنا بالرعب على الروم مسيرة شهر.
5️⃣ بل إن في القرآن مواضع نقد أو مراجعة ومحاسبة لحامل الرسالة نفسه صلى الله عليه وسلم وهذا لا يضيره ومن ذلك:
١. قال تعالى: “لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (الانفال: 68) وذلك في مسألة أخذ الفداء من أسرى بدر.
٢. وقال تعالى: “وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ” (الأحزاب) في مسألة زواجه من زينب رضي الله عنها.
لقد شاع النفاق والمداهنة، وأخفت الحاشية عن الملوك والزعماء عيوبهم (خوفاً وطمعاً)، مثلما أخفى الصاحب عن صاحبه عيوبه ولم ينصحه، بل غشه في مدحه، حتى قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل أصحابه وكان منطوياً عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي.
إن إعراض الحاكم أو العالِم أو الأب أو المعلم أو الأفراد والجماعات عن طلب النصيحة وقبول النقد والمبادرة بالمراجعة لهو دليل غرور وكبر ونذير شؤم وبداية نهاية لا تحمد عقباها.
كل منهمكٍ في عمل دعوي أو جهد إصلاحي من الأفراد والجماعات قد لا يرى عيوب نفسه، فلا أقل من سماع نصح المحبين، ولو كان بصورة نقد لاذع أحياناً، فالمؤمن مرآة أخية، ولا عصمة لفرد ولا جماعة، وقد يكون موضوع النصيحة والمراجعة شكلياً أو جوهرياً، فإذا كانت الثانية فالواجب أن تُعقد جلسات مُدارسة ومعالجة لتحقيق الاستدراك اللازم، وإلا فما أسوأ حال الجماعات الإصلاحية الناصحة حين ترفض النصح وتأباه.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي” في دعوة صريحة منه إلى فتح باب المراجعة وقبول النصيحة حتى من الآخرين له.
وعلى صعيد الجماعات والمؤسسات والروابط العلمية والدعوية والعلمية:
بالغ البعض في طلب النقد الذاتي والمراجعة واتخذوا ذلك وسيلة للطعن في تاريخ الجماعة والمؤسسة ومشروعها .. وبالغ آخرون في ترك النقد الذاتي وكأنهم يقولون بعصمة الجماعة والمؤسسة .. وكلاهما جانَب الصواب.
لماذا النقد الذاتي والمراجعات؟
لأننا أولى الناس بمراجعة وانتقاد ذواتنا وأنشطتنا وبرامجنا .. باعتبار أننا نشتغل في نقد الأنظمة والمجتمعات والشخصيات، بهدف إصلاحها وتقويم مسيرها؛ فأولى بنا أن ننقد وأن نراجع أنفسنا.
كيف تمارس الجماعات والمؤسسات النقد الذاتي والمراجعات؟
1️⃣ في كل قسم ودائرة من دوائر العمل الدعوي يتم وضع الخطط الجزئية والمرحلية بل والاستراتيجية فإنه لا بد في الوقت ذاته من إجراء تقييم ومراجعة لما فات والإشارة إلى مواطن ضعفنا وقوتنا مثلما نخطط لما هو قادم وآت .. وهذا على مستوى النشاطات الاجتماعية والتربوية والسياسية وغيرها.
3️⃣ بل وعندما تجرى الانتخابات الداخلية لتلك الجماعات والمؤسسات لفرز الهيئات الإدارية يتم تقديم التقارير الإدارية والمالية ويُجرى حوارات ومراجعات نقدية ذاتية حولها.
إن قراءة استقرائية تاريخية لأي جماعة أو مؤسسة أو رابطة دعوية تشعرك بحجم التحول (ولا أقول التطور بالضرورة لأن التحول يحتمل تطوراً أو تراجعاً) في أدائها .. سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي.
لقد بتنا نرى ونسمع عن مراجعات تقوم بها دول وأنظمة وجماعات ومؤسسات .. ولكنها مراجعات أشبه ما تكون إلى الردة والرجوع إلى الوراء على ضوء حالة الضعف التي صرنا إليها .. وكأنه يراد لنا أن نتوب عن الشرف والطهر والعزة التي كنا نستشعرها من خلال بعض المناهج والبرامج ذات زمن .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحتى يتحقق النقد الذاتي والمراجعة في أبهى صورها وتثمر وتزهر وتؤتي أكله لابد مما يأتي:
1️⃣ فتح آفاق المراجعة والنقد الذاتي للجميع وسعة الصدر والاحتمال.
2️⃣ الإصغاء إلى آراء المحبين والمناصرين.
3️⃣ الاستفادة مما يثيره حتى المغرضون.
4️⃣ الاستعداد التام للتقويم (التعديل) بعد التقييم (المراجعة) .. فنؤسس لتعظيم الإيجابيات وتقليل السلبيات قدر المستطاع.
5️⃣ تحديد سقف النقد والمراجعة في حدود الثوابت والمتغيرات بعد تعريفها وتحريرها؛ ففي تغيير الثوابت تمييع .. وفي تثبيت المتغيرات تكلس وتضييع.
6️⃣ عدم الأرجاء والتأخير لأنه من لا يتجدد يتبدد وسُنة الاستبدال لا تحابي أحداً.
7️⃣ أن يكون التقييم والمراجعة على ضوء الفرص والتحديات، فلا ينبغي جلد الذات ورجمها وتحميلها فوق ما تحتمل؛ كأن نقيس زماننا ومكاننا على أزمنة وأمكنة وظروف غيرنا.
8️⃣ أن يكون التفوق على الذات هو المُخرَجُ الأهم من مخرجات عملية المراجعة ونقد الذات وذلك بالإجابة على هذه الأسئلة المهمة:
كيف كنا؟
وكيف أصبحنا؟
وكيف ينبغي أن نكون؟
9️⃣ ويفضل أن يكون التقييم والنقد من عاملٍ حاملٍ لا من كسول محمول .. فالنقد من الكسلاء أحياناً يكون أقرب إلى عمل المنافقين الذين لا ينفقون ويعترضون على المنفقين.
🔟 المرور وعدم التوقف طويلاً عند المحاسبة والمراجعة، لأن في الوقوف الطويل تعطيل، ففي المراجعة لنتيجة غزوة أحد طلب الله تعالى أخذ الدرس ثم أعطى الصحابة العفو وكفى”حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ” (آل عمران: 152).
إن ثمة أسئلة مهمة تحتاج منا إلى إجابات مفصلية (نحن كأفراد وجماعات ومؤسسات) ولا يمكن أن تتم هذه الإجابات إلا على ضوء تلك المراجعات، ومن ذلك:
1️⃣ هل علاقتنا بربنا وخالقنا ورازقنا سليمة كما يحب ربنا ويرضى؟
2️⃣ هل علاقتنا بأهلنا وزملائنا وأصدقائنا علاقة صحيحة ومنضبطة شرعاً؟
3️⃣ هل علاقتنا بأعدائنا علاقة منضبطة شرعاً وعقلاً؟
4️⃣ هل علاقتنا بالزعماء والمدراء والملوك والرؤساء علاقة صحيحة ومنضبطة شرعاً وعقلاً؟
5️⃣ هل لدينا مشروع دعوي إصلاحي حقيقي ومنضبط شرعاً وعقلاً؟
6️⃣ هل أدواتنا وأساليبنا وبرامجنا لا تزال تعمل بفاعلية؟
7️⃣ هل لدينا مشروع حقيقي للإعداد والتحرير؟
8️⃣ هل نستفيد من تاريخنا في استقراء مستقبلنا، فالتاريخ يعيد نفسه، وهل نقرأ تجاربنا وتجارب غيرنا لنتعلم قبل أن نتألم؟
9️⃣ هل نتعاطى بفاعلية مع أزمات ومشكلات عصرنا وزماننا .. ولعل من أعظمها ذاك التوسع في قنوات التواصل التي قرّبت البعيد، وبعَّدت القريب، وجعلتنا نعيش حالة شتات نفسي، وأصابت منا جراحات في القلب (شهوات) والعقل (شبهات)؟
وختاماً
إننا أحوج ما نكون إلى المراجعة قبل الرجوع .. ذاك الرجوع المهيب إلى الله تعالى، وحينها نطلب العودة لنعاتب أنفسنا ونلومها ونوبخها ونراجعها، ولكن لا جدوى من ذاك النداء “حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ” (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ” (المؤمنون: 100).
وإنه لا قيمة مطلقاً لحفلات التقييم والمراجعة الذاتية التي تُعقد على مستوى الأفراد والجماعات، ولا أهمية لحالة الشعور بالندم على مسار من المسارات سلكناه؛ ما لم نملك تلك الشجاعة على التقويم والتغيير .. تغيير الأفكار والأشخاص والمواقع والبرامج إن لزم الأمر ذلك .. وإلا فإن من أسوأ ما يصاب به دعاة التغيير ذاك التكلس والروتين القاتل.
ولقد فهم شياطين الإنس والجن نقاط ضعفنا وقوتنا، وأدركوا أساليبنا وبرامجنا، وتوقعوا أفعالنا وردود أفعالنا .. بل إن لديهم من المعلومات وليس مجرد التكهنات عن أنماط تفكيرنا؛ فهل لدينا القدرة على قلب الصورة، وتغيير المشهد، وإعاقة تفكير هؤلاء الأعداء، وإشغالهم بأنفسهم، وتحقيق عنصر المفاجأة، والظهور بمظهر القوي الذي يستثمر أخطاءه بعد المراجعة والنقد الذاتي؛ ليعود أقوى مما كان .. لأننا بدون ذلك لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة نحو الأمام؟!