رسالة المنبر ٣-٣-٢٠٢٣م
الخطيب: د. محمد سعيد بكر
المحاور
يحاول كثير من الناس في ثنايا كلماتهم وخطاباتهم صبغ مجتمعاتنا بصيغة انقطاع الخير وصيرورة البشرية إلى قطيع من الكلاب والذئاب؛ يعيشون شريعة الغاب .. وهذا تشاؤم مذموم.
سيبقى في الناس بقية خير يجعلون للحياة لون جميل وطعم رائق ورائحة كريمة .. وبدونهم لا تحلو الحياة مطلقاً.
بقية الخير تستمد خيريتها من فطرتها النقية وتدينها الصادق .. فهي على الرغم مما جرى حولها من تلوث فإنها تحيط نفسها بغلاف أو قشرة مانعة من تسرب الفساد إليها .. ويعينها الله تعالى لتبقى حجة من حججه على خلقه الذين يقولون بأن الله كلفنا فوق استطاعتنا .. ولو صدقوا ما كان ثمة من يطيع أمره ويستجيب له من خلقه.
بقية الخير فينا هم قوم لا يفكرون في مصالحهم بقدر ما يفكرون في مصالح مَن حولهم .. ويسعدون بإسعاد غيرهم.
بقية الخير يقدمون المبادئ على المصالح لاسيما في الظروف الصعبة والمواقف الاستثنائية.
بقية الخير هم الكبار .. وليسوا كبار السن بالضرورة بل كبار الأنفس ممن تتسع صدورهم لغيرهم ولا تضيق أرواحهم لأتفه الأسباب.
بقية الخير هم الذي تشعر بالأمان وأنت بمعيتهم على الرغم مما يحيطهم من مخاوف .. فهم يمسحون دمعتك .. وإن كان بكاؤهم ونحيبهم يملأ صدورهم دون أن يظهر لك من حزنهم شيء.
بقية الخير هم طليعة الإصلاح والتغيير والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كلفهم ذلك الشدة والبلاء والعنت واللأواء .. فيحمي الله بهم البلاد والعباد .. قال تعالى: “فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ” (هود: 116).
بقية الخير ليسوا رواد المساجد وبيوت الله فحسب .. وإن كان بعض رواد المساجد قد أخرج نفسه عن هذا الوصف الشريف لضيق أخلاقه وسوء سلوكه في بيت الله للأسف .. بل هم منتشرون كاللؤلؤ المكنون في قطاعات الحياة كلها .. فالتاجر النصوح الصدوق من بقية الخير .. والطبيب الثقة .. والمعلم الأمين على عقيدة الأجيال وعقولها .. وصاحب الحرفة والصنعة الذي لا يغشك في سعر ولا كلفة ولا جودة ولا موعد إنجاز .. كل أولئك من بقية الخير .. والأمة لا تعدم أمثالهم.
بقية الخير لا يهمهم رأي الناس وتقييم الآخرين .. بقدر ما يسعون لإرضاء رب العالمين .. فهم الذين جاء وصفهم في الحديث بأنهم الطائفة المنصورة بعون الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلُونَ علَى الحَقِّ ظاهِرِينَ إلى يَومِ القِيامَةِ، قالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فيَقولُ أمِيرُهُمْ: تَعالَ صَلِّ لَنا، فيَقولُ: لا، إنَّ بَعْضَكُمْ علَى بَعْضٍ أُمَراءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هذِه الأُمَّةَ” رواه مسلم.
بقية الخير بستشعرون تقصيرهم في حق الخالق والمخلوق، ولا يستكثرون ما يقدمون حتى ولو كان كثيراً .. ويرون حاجتهم لذوي الحاجات أكثر من حاجة ذوي الحاجات إليهم .. وهم لا يُتبعون عطاءهم مَنّاً ولا أذى.
بقية الخير ينوون الخير .. ويدلون على الخير .. ويحفظون الخير .. ويمشون في طريق الخير .. ويدافعون عن أبواب الخير .. ويبشرون الناس بالخير.
بقية الخير يشبهون سلف الأمة في تزكية أنفسهم وطلبهم للعلم وأدائهم للدعوة وإعدادهم للجهاد في سبيل الله، قال تعالى: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” (الأحزاب: 23).
بقية الخير يموت واحدهم وحاجته في صدره .. فهم لا يسألون الناس .. ويزهدون في عندهم … فيحبهم الخالق والمخلوق.
بقية الخير يحرصون على الثوابت ويتمسكون بها .. ولا ينزلون عن جبل الرماة وإن نزل غيرهم لأطماع دنيوية.
بقية الخير هم القليل ممن جاء مدحهم في كتاب الله تعالى بقوله:
“وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” ﴿١٣ سبإ﴾.
“وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُوْلَئِكَ الْـمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ” [الواقعة:10-14].
“فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ” (الشعراء: 56).
بقية الخير وإن كانت قليلة إلا أن مفعولها وأثرها كبير وعميق .. فرُب قليل تعظمه النية .. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ قالوا وَكَيفَ ؟ قالَ : كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها” رواه النسائي بسند صحيح.
بقية الخير هم الغرباء في زمن المحكات والفتن، قال النبي صلى الله عليه وسلم:” بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ فطُوبِى للغرباءِ، وفي روايةٍ قيل يا رسولَ اللهِ : مَن الغرباءُ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناسُ، وفي لفظٍ آخرَ قال : هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي” روى مسلم أصله.
بقية الخير هم أولوا العزم في كل معروف وبر .. فتراهم يجتنبون الحرام ويتورعون عن كل شبهة ويحتسبون ما يتركون لأجل الله فيكرمهم الله بالعوض ولا ينسى لهم عزائمهم.
بقية الخير هم الذين تُسد بهم الثغور ولا يؤتى الإسلام من قِبلهم .. وإن كانت صورتهم وهيئتهم بسيطة .. ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مدح صنفاً راقياً من الناس حين قال: “طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّع”.
إن من واجب الأمة أن تعظم من شأن بقية الخير فيها .. فإن رأت جميلاً طيباً كريماً أظهرته ورفعت من شأنه وأكرمته .. وإلا فإننا نفقد بقايا الخير كما تذبل الزهور دون سقايتها وحسن رعايتها.
وإن بعض الخير يتطلب بحثاً وتنقيباً كما يتم التنقيب عن الجواهر والكنوز .. فمن سبق إليها حازها وإلا فلا عزاء لأمة لا تدري أين يكمن الخير فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثلُ أُمَّتي مثَلُ المطَرِ؛ لا يُدْرَى أوَّلُه خيرٌ أمْ آخِرُه” رواه الترمذي وفيه ضعف.
ومن جميل ما قيل في العتاب على غياب بقايا الوفاء في الناس:
لو أن فيكَ من الوفاءِ بقيةً
لذكرتَ أياماً مضت وليالي
ووهبتني أسمى خصالِك مثلما
أنا قد وهبتُك من جميلِ خصالي
كم قُلت أنك خيرُ من عاشرتُهم
فأتيت أنت مخيبًا آمالي
🌹وختاماً🌹
بقية الخير هم الرصيد الاستراتيجي لهذه الأمة .. ففي الوقت الذي يظن فيه القريب والبعيد أن هذه الأمة قد ماتت بفعل ما يُصب فوق رأسها من شبهات وما يثار أمام أبنائها من شهوات .. يُخرج الله تعالى بقية الخير في صورة عابد ذاكر له .. أو منفق سخي النفس لا يخشى الفقر .. أو عفيفة يهون عليها روحها دون حجابها .. أو داعية لا يخاف في الله لومة لائم .. أو مجاهد يحمل روحه على راحته .. فيقلبون الطاولة على رأس كل خوان أثيم يظن أن ملياراته القذرة التي عبثت بمناهج الأمة ومنابرها قد غيرت فطرتها .. ولكن هيهات هيهات .. ففي الأمة بقايا خير ظاهرة وباطنة .. وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته” رواه ابن ماجة وابن حبان بسند حسن.
نسأل الله أن يجعلنا نحن وذرياتنا من بقية الخير التي ترفع الأمة بها رأسها.