خاص هيئة علماء فلسطين

         

26/11/2025

المفتي: لجنة الفتوى في هيئة علماء فلسطين

السؤال:

فلان يسجل في الروابط وينتقل من مكان لمكان ليسجل في المؤسسات وفلان لا يسجل، والطبيعي بيطلع كبونات لفلان والثاني ما بيطلع له عشان ما سعى، و فلان له معارف من أهل الخير  ويشرح لهم حالته كيف هدم بيته وتضررت مصالحه فيتبرعوا له ويرسلوا له معونات كثيرة، فهل في ذلك حرج؟!، وهل نحث عليه الناس اللي وضعها صعب ؟! أم هذا من التسول؟! وهل ننكر على الناس فعل ذلك؟! ونأمرهم بالأخذ بالعزيمة.

الجواب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فقد بيَّنا في فتوى سابقة أن المسألة لا تحلُّ إلا لمن نزلت به فاقةٌ شديدة جدا أو جائحة اجتاحت ماله ولا يستطيع كسبا ولا سدادا، فيجوز له أن يسأل الناس عندها، والناس في هذه المسألة وغيرها ليسوا سواء؛ فمنهم من يستطيع الأخذ بالعزيمة، كأولئك الصحب الكرام رضوان الله عليهم، من أمثال حكيم بن حزام رضي الله عنه الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى) فقال حكيم: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا حتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكانَ أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه يَدْعُو حَكِيمًا إلى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ منه، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فأبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ علَى حَكِيمٍ؛ أَنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ مِن هذا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تُوُفِّيَ .رواه مسلم

ومن أمثالهم أيضا من ذكرهم عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، حين قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تِسْعَةً، أوْ ثَمانِيَةً، أوْ سَبْعَةً، فقالَ: (ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟) وكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ ببَيْعَةٍ، فَقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قالَ: (ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟) فَقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قالَ: (ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟) قالَ: فَبَسَطْنا أيْدِيَنا وقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، فَعَلامَ نُبايِعُكَ؟ قالَ: (علَى أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، والصَّلَواتِ الخَمْسِ، وتُطِيعُوا -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً، ولا تَسْأَلُوا النَّاسَ شيئًا) فَلقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أحَدِهِمْ، فَما يَسْأَلُ أحَدًا يُناوِلُهُ إيَّاهُ. رواه مسلم.

قال أبو العباس القرطبي في المفهم: حَمْلٌ منه على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمّل مِنَن الخلق وتعليم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزّة النفوس، ولما أخذهم بذلك التزموه ني جميع الأشياء، وفي كل الأحوال، حتى فيما لا تلحق فيه مِنَّة، طردًا للباب، وحسمًا للذرائع. ا.هـــــــــــــــ

ففي هذا الحديث الحثٌّ على العِفَّةِ، وإفرادِ اللهِ بإنزالِ الحاجاتِ به، وعدَمِ سُؤالِ أحدٍ مِن العِبادِ شيئًا، ويُشبِهُ أنْ يكونَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أَسَرَّ النَّهيَ عن سُؤالِ النَّاسِ؛ لِيَخُصَّ به بعضَهم دونَ بعضٍ ولا يَعُمَّهم بذلك؛ لأنَّه لا يُمكِنُ العُمومُ؛ إذ لا بُدَّ مِن السُّؤالِ، ولا بُدَّ مِن التَّعفُّفِ، ولا بُدَّ مِن الغِنَى، ولا بُدَّ مِن الفَقْرِ، وقدْ قَضَى اللهُ تَبارَك وتعالَى بذلك كلِّه، فلا بُدَّ أنْ يَنقَسِمَ الخَلْقُ إلى الوَجْهَينِ.

وكذلك منهم ثوبان رضي الله عنه الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من يكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟) فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحداً شيئاً. رواه أحمد وأبو داود

ومن الناس من يأخذ بالرخصة ولا حرج عليه في ذلك؛ فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم  لمن نزلت به ضرورة أن يسأل الناس؛ فقال عليه الصلاة والسلام (إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِع} رواه أحمد وأبو داود.

وهؤلاء لا ينبغي النكير عليهم ابتداء بل يجب توعيتهم متى تحل لهم المسألة وكيف يتصرفون بما يقع بين أيديهم من أموال، فما هم بمتسولين؛ ولا تصدق في حقهم تلك الأحاديث التي ورد فيها الوعيد بعدم سؤال الناس أموالهم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة لحم) رواه الشيخان.

ومما ينبغي أن يُلفتوا إليه هو أن ينووا يجمع هذه التبرعات قضاء حاجتهم الضرورية وحاجة من حولهم، وألا يأخذوا ما زاد على حاجتهم، وخاصة في هذه الظروف التي عمّت فيها النازلة جميع أهل غزة، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: (مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له. قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ، حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ).

ومما ينبغي أن يُنبّـه عليه المحسنون والمتبرعون أن يتفقدوا بصدقاتهم وتبرعاتهم أعفاء النفوس الذين تمنعهم عفتهم وحياؤهم أن يسألوا الناس أموالهم، كما قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) سورة البقرة: ٢٧٣، فيرسلوا إلى أمثال هؤلاء الصدقات دون طلب منهم. والله الموفق والمستعان