خاص هيئة علماء فلسطين

         

29/10/2025

المفتي: لجنة الفتوى في هيئة علماء فلسطين

السؤال: ما حكم الوصية الواجبة؟

الفتوى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه ‏أجمعين، أما بعد. ‏

فالإجابة على هذا السؤال تتمثل في بيان جملة من الحقائق الشرعية، خلاصتها:‏

أولاً: أن قسمة المال بعد وفاة الميت أمرٌ تولاه الله بنفسه وأنزل فيه آيات محكمة لا يجوز ‏لأحد مخالفتها؛ لا في تعيين الورثة ولا في بيان أنصبتهم؛ وقد قال سبحانه بعد أن بين ‏تلك القسمة، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ‏الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ‏نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مهين} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد ‏أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ‏وأحمد وصححه الألباني.‏

ثانياً: قسمة الميراث تُنَحَّى فيها العواطف جانباً ويُتَّبَع فيها شرع الله؛ ولذلك قال ربنا ‏جل جلاله بعدما بيَّن قسمة الميراث {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} ‏قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين ‏والدنيا، فمنكم من يظن أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له، ومنكم من يظن أن ‏الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم، وقد دبَّرت أمركم على ‏ما فيه المصلحة فاتبعوه. اهـ.‏

وقال السعدي: فلو رُدَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما اللهُ به ‏عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا ‏يدرون أي الأولاد أو الوالدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. اهـ.‏

ثالثاً: الشريعة المطهرة تأمر بإعطاء القريب غير الوارث – كأولاد البنت وبنات الإخوة ‏والعمات وغيرهم من ذوي الأرحام أو الفقراء والمساكين والقسمة له – من التركة قبل ‏قسمتها، فقد قال الله تعالى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ‏فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} على سبيل الوجوب – كما هو قول بعضهم – أو ‏على سبيل الاستحباب؛ قال القرطبي رحمه الله: والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو ‏كان فرضاً لكان استحقاقاً في التركة ومشاركة في الميراث‎… ‎انتهى‎.‎

قال السعدي رحمه الله تعالى:‏‎ ‎وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب، فقال ‏‏(وإذا حضر القسمة) أي: قسمة المواريث (أولو القربى) أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة ‏قوله (القسمة) لأن الوارثين من المقسوم عليهم. (واليتامى والمساكين) أي: المستحقون ‏من الفقراء. (فارزقوهم منه) أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ‏ولا تعب، ولا عناء ولا نصب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة فاجبروا ‏خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم، ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما ‏حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه ‏وسلم يقول: (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله ‏لقمة أو لقمتين) أو كما قال.. وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة ‏أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد ‏عنده فأعطاه ذلك، علماً منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم ‏يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء أو ثم أهمُّ من ذلك- فليقولوا لهم (قولاً معروفاً) يردوهم ‏رداً جميلاً بقول حسن غير فاحش ولا قبيح‎… ‎انتهى‎.‎

رابعاً: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الوصية أواجبة هي أم مستحبة؟ فجمهورهم – ‏ومنهم الأئمة الاربعة – على استحبابها، اللهم إلا إذا تعلق بذمة الإنسان حق لله كزكاة، ‏أو حج، أو كفارة، أو حق للعباد في دين أو وديعة أو غير ذلك، فتجب الوصية حينئذ ‏كوسيلة للخروج من الحق الواجب‎.‎‏ بل نقل بعضهم – كابن عبد البر – الإجماع على ‏ذلك؛ فقال رحمه الله تعالى: أجمعوا على أن الوصية غير واجبة، إلا على من عليه حقوق ‏بغير بيِّنة، وأمانة بغير إشهاد، إلا طائفة شذت فأوجبتها‎.‎

وذهب جماعة من السلف كعطاء والزهري وسعيد بن المسيب والحسن البصري ‏وطاووس إلى وجوب الوصية على من ترك مالاً، وبهذا قال ابن حزم أيضاً‎.‎

خامساً: هذه الأمة المرحومة معصومة من أن تجتمع على ضلالة؛ من تضييع حق أو ‏تفويت مصلحة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة) ‏رواه الترمذي وصححه الألباني.‏

وقد توالت أجيال الأمة قرناً بعد قرن، من لدن الصحابة رضي الله عنهم فمن جاء ‏بعدهم، وفيهم من الأئمة المهديين والعلماء العاملين الجمُّ الغفير، ومع ذلك لم يوجب أحدٌ ‏من علماء الإسلام على مرِّ العصور طريقة معينة لازمة في الوصية وقسمتها، كهذا الذي ‏حصل في عصرنا من سنِّ قانون الوصية الواجبة، ولا تصح نسبة هذا القانون لابن حزم ‏الظاهري ولا غيره؛ فإن القائلين بوجوب الوصية من أهل العلم لم يفرِّقوا بين الأقارب غير ‏الوارثين، ولم يخصوا الأحفاد دون الأجداد، أو الأعمام، أو الأخوال، أو غيرهم. ثم إن ‏أحدا ًمنهم لم يعيِّن لذلك قدراً معلومًا‎.‎

سادساً: حاصل ما عليه هذا القانون – المعمول به في بعض الدول – أن الوصية تجب ‏لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات، ولأولاد الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلت ‏طبقاتهم، وصية بمثل ما كان يستحقه أبوهم ميراثاً في تركة أبيه لو كان حياً عند موت ‏الجد، في حدود الثلث، بشرط أن يكون الحفيد غير وارث، وألا يكون الجدُّ الميّت قد ‏أعطاه بغير عوض عن طريق تصرف آخر قدر ما يجب له

ومن وضعوا هذا القانون استندوا إلى قول أولئك الموجبين للوصية، وإلى قول ابن حزم ‏رحمه الله تعالى، مع أن أولئك السلف ما قَصَروا الوصية على الأحفاد، ولم يقدِّروها ‏كذلك بنصيب لو كان حياً؛ كما فعل واضعو هذا القانون؛ فالحق أنه لا سلف لهم في ‏ذلك.‏

سابعاً: ثمة تناقضات تتنزه عنها الشريعة المطهرة عند تطبيق قانون الوصية الواجبة، وهي ‏دليل على نقص البشر، وتصديق لقوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ‏اخْتِلافاً كَثِيراً} ومن ذلك: ‏

‏1/ أنه قد يوجد من الأقارب غير الوارثين من لا يقل حاجة عن الأحفاد، وهؤلاء لم ‏يعتبرهم القانون المذكور. ومن ذلك – مثلا – ما لو مات الرجل عن أم وإخوة لأم، وأم ‏لأب، فإن الجدة أم الأب في هذا المثال محجوبة بالأم، وقد تكون، محرومة لا عائل لها‎.‎

‏2/ أن هذا القانون يترتب على تطبيقه وجود حالات شاذة لا يمكن قبولها، ومن ذلك‎:

أ- أن بنت البنت قد تأخذ أكثر مما ترثه بنت الابن، فلو مات شخص عن بنت، وبنت ‏بنت، وبنت ابن، وترك 30 فداناً – مثلاً – فإن مقدار الوصية الواجبة لبنت البنت هنا ‏هو ثلث التركة وهو 10 أفدنة نصيب أمها لو كانت حية‎.‎‏ وتأخذ البنت وبنت الابن ‏الباقي فرضاً وردّاً بنسبة 1:3، فيكون نصيب بنت الابن خمسة أفدنة أي نصف ما ‏أخذت بنت البنت‎.‎

ب – أن تأخذ بنت الابن أكثر من البنت، وذلك فيما إذا مات شخص عن بنتين، ‏وبنت ابن، وأخت شقيقة، وترك 18 فداناً – مثلا – فإن مقدار الوصية لبنت الابن ‏ثلث التركة وهو 6 أفدنة، أما الباقي فيقسم بين البنتين والأخت الشقيقة، فتأخذ البنتان ‏الثلثين 8 أفدنة، لكل منهما 4 أفدنة، وتأخذ الأخت الشقيقة الباقي وهي 4 أفدنة‎.‎

ج –  أن هذه الوصية – بحكم هذا القانون – قد أخذت سبيل الميراث المفروض؛ وهو ‏ما أقر به بعض مؤيدي هذا القانون، ومنهم الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى حيث قال في ‏كتابه (شرح قانون الوصية): هذه خلاصة أحكام الوصية الواجبة … وهذه الأحكام في ‏غايتها ومرماها وفي الغرض منها والسبب الباعث عليها تنحو نحو الميراث، فالقانون جعل ‏بهذه الوصية لأولاد من يموت في حياة أبويه ميراثاً مفروضاً، هو ميراثه الذي كان يستحقه ‏لو بقي بعد وفاة أصله، على ألا يتجاوز الثلث، وإذا كان هذا غاية القانون فكل ‏الأحكام تتجه إلى جعل هذه الوصية ميراثاً، ولذا تجب من غير إيجاب، وإذا وجبت ‏صارت لازمة لا تقبل عدم التنفيذ، وبذلك تشابهت مع الميراث. اهـ.‏

وكذلك الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله تعالى حيث قال في كتابه الفقه الإسلامي ‏وأدلته: وبما أن هذه الوصية لا تتوافر لها مقومات الوصية الاختيارية لعدم الإيجاب من ‏الموصي والقبول من الموصَى له، فهي أشبه بالميراث، فيسلك فيها مسلك الميراث، ‏فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحجب الأصل فرعه، ويأخذ كل فرع نصيب أصله ‏فقط. اهـ.‏

ويدل على صحة ذلك الذي قاله الشيخان الجليلان رحمهما الله تعالى عدة أمثلة: ‏

‏1/ أن الجد لو أوصى بالفعل لأحفاده، ولكن بأقل مما يوجبه هذا القانون، فإنهم يوجبون ‏بحكم القانون إكمال مقدار الوصية الواجبة، وهذا باطل بلا مرية!!‏

‏2/ أن قانون الوصية الواجبة لا يفرِّق بين المحتاج وغيره من الأحفاد، فلو افترضنا أن ‏رجلاً عنده ثلاثة أبناء، أحدهم في غاية الثراء والآخران في غاية الفقر، فمات هذا الثري ‏في حياة أبيه، فستنتقل ثروته لابنه ولا يرث أعمام هذا الابن من أخيهم شيئا، فإذا مات ‏الجد بعد ذلك فالشرع والعقل ومراعاة الحال يقتضي انتقال ثروة الجد لأبنائه المباشرين ‏ولا يرث حفيده هذا شيئا، ولكن بمقتضى قانون الوصية الواجبة سيشارك هذا الحفيد ‏الثري أعمامه الفقراء ويأخذ مثل نصيبهم. فهل مثل هذا يُقبل في الشرع أو في العقل؟؟!!‏

وعليه فإن الواجب الرجوع إلى شرع الله تعالى في تدارك هذا الخلل، وذلك بالاقتصار ‏على إعطاء الأعمام أولاد أخيهم المتوفى شيئاً من تلك التركة؛ يقول الدكتور يوسف ‏القرضاوي رحمه الله تعالى: هناك أمر آخر يتدارك الشرع به مثل هذا الموقف، وهو أنه ‏كان على الأعمام حين اقتسموا تركة أبيهم أن يعطوا شيئًا من هذه التركة لأولاد أخيهم ‏وهذا ما نص عليه القرآن، حيث قال في سورة النساء التي ذكرت فيها المواريث: {وَإِذَا ‏حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} إذ ‏كيف يحضر هؤلاء القسمة والأموال توزع وهم ينظرون ولا يعطون شيئًا؟ وقد قدم أولي ‏القربى لأنهم أحق، فما بالك بأبناء الأخ اليتامى الذي كان أبوهم واحدًا منهم، فكان ‏على الأعمام أن يعطوا هؤلاء شيئًا يتفق عليه الأعمام بحيث يكون كافيًا يكفل حاجتهم، ‏وخاصة إذا كانت التركة كبيرة. وإذا كان الجد مقصرًا، فقد كان على الأعمام أن يتداركوا ‏هذا التقصير ويعطوا هؤلاء لأنهم من أقرب أولي القربى. ثم هناك أمر ثالث يتدارك به ‏الشرع هذا الموقف وهو: قانون النفقات في الإسلام. إن الإسلام تميز عن سائر الشرائع ‏بفرض النفقة على الموسر من أجل قريبه المعسر، وخاصة إذا كان من حق أحدهما أن ‏يرث الآخر، كما هو المذهب الحنبلي، وكذلك إذا كان ذا رحم محرم كما هو المذهب ‏الحنفي. وذلك مثل ابن الأخ. ففي هذه الحالة تكون النفقة واجبة، وتحكم بها المحكمة، ‏إذا رفعت إليها قضية من هذا القبيل. إنه لا ينبغي للعم أن يكون ذا بسطة وثروة، وعنده ‏بنات أخيه أو أبناء أخيه وليس لديهم شيء ومع هذا يدعهم، ويدع أمهم المسكينة تكدح ‏عليهم وهو من أهل اليسار والغنى … هذا لا يجوز في شرع الإسلام. بهذا انفرد شرع ‏الإسلام وتميز. اهـ.‏