خاص هيئة علماء فلسطين

         

19/12/2024

السؤال: خلال هذه الحرب التي يشنها الصهاينة على أهلنا في غزة، ظهر مجموعة من التجار يتعمدون احتكار السلع وتخزينها مع شدة حاجة الناس إليها، فما حكم هؤلاء؟ وكيف يُتعامل معهم؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فإن الاحتكار – كما عرَّفه بعض المعاصرين – هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه أو بذله، حتى يغلو سعره غلاء فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه.

فيشمل ذلك كل ما يحتاج الناس إليه من مواد غذائية أو ثياب أو أدوية، ويشمل كذلك منافع العمال وأهل المهن والحرف والصناعات، إذا احتاجت الأمة إلى ما عندهم؛ إذ المناط في منع الاحتكار هو تحقُّق الضرر من حيث هو؛ بقطع النظر عن الشيء المحتكَر؛ فيُجبر هؤلاء على بذل ما لديهم رعايةً لحق الأمة، ودفعاً للضرر عنها في مثل هذه الظروف بالثمن أو بأجرة المثل إذا امتنعوا عن ذلك. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: والحاصل أن العلة إذا كانت هي الإضرار بالمسلمين، لم يحرم الاحتكار إلا على وجه يضر بهم، ويستوي في ذلك القوت وغيره؛ لأنهم يتضررون بالجميع.ا.هـــــــــــ

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {لا يحتكر إلا خاطئ} رواه مسلم، والخاطئ هو العاصي الآثم، وقال عليه الصلاة والسلام (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، كان حقاً على الله أن يقعده بعُظْم من النار يوم القيامة) رواه أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) أخرجه ابن ماجه، وفي مسند أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه)

وبناء على تلك الأدلة فقد ذهب جمهور الفقهاء – من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والكاساني من الحنفية – إلى تحريم الاحتكار، باعتباره ضرراً وإخلالاً بحق العامة، ومنعاً من إيصال الحق إلى مستحقه؛ وعدَّه ابن حجر الهيتمي من كبائر الذنوب.

وقد أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أُجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس؛ بناء على الأصل الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لا ضرر ولا ضرار)

قال السبكي: أما إمساكه حال استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه إليهم وقت حاجتهم إليه فينبغي ألا يكره، بل يستحب.ا.هـــــــــــــ

وعليه فإن الواجب على هؤلاء التجار أن يتقوا الله عز وجل في الناس، وأن يبيعوا تلك الأقوات عليهم بسعر المثل دون زيادة، فإن ذلك يمثل جُهد المقلِّ في مواجهة تلك الشدائد التي يعانيها الناس في غزة من تقتيل وترويع وحصار وتجويع، ومن تعمَّد تخزين الطعام ومنعه مع شدة حاجة الناس إليه فقد أثم إثماً مبيناً، بل هو متسبِّبٌ في قتل بعضهم جوعاً

والواجب على أهل العلم توجيه الخطاب الشرعي إلى هؤلاء بحرمة ما يفعلونه من احتكار، فإن لم ينتصحوا فلا حرج على الناس حينئذ في أخذ ما يحتاجون إليه من تلك الأقوات المخزنة، دفعاً لغائلة الجوع عن أنفسهم وأخذاً بالأسباب، وقد قرر أهل العلم – كابن القيم في أعلام الموقعين وابن رجب في القواعد – أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً وأفتى به الضيف إذا لم يُقره من نزل عليه كما في سنن أبي داود قال (فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه( وفي رواية (نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)

وأما في الأحوال الاعتيادية؛ أعني حال وجود سلطة تنظم حياة الناس فإنه لا بد من جملة من التدابير، لمواجهة جشع أولئك المحتكرين، ومن ذلك:

أولاً: جبر المحتكر على إخراج المادة المحتكرة المخزونة، وطرحها في السوق؛ ليبيعها هو بالسعر التلقائي الحر الذي كان سارياً قبل الاحتكار مع زيادة يتغابن الناس في مثلها عادة؛ إزالة للظلم عن الناس وتحقيقاً للربح المعقول للتاجر

ثانياً: إذا أصر المحتكر – تعنتاً وتمرداً – على الامتناع عن البيع بالسعر التلقائي الذي يحدده قانون العرض والطلب، تولى الحاكم أو نوابه بيع سلعه نيابة عنه، وبالسعر الذي كان قبل الاحتكار عدلا؛ حتى لا يضار هو ولا الناس

ثالثاً: حرمان المحتكر من الربح وأخذه منه عقوبة له ومعاملة له بنقيض قصده؛ قال الإمام الباجي رحمه الله تعالى: وأما إذا اختزنوا وأضروا بالسوق؛ فإنه يباع عليهم؛ فيكون لهم رؤوس أموالهم، والربح يؤخذ منهم فيُتصدق به؛ أدباً لهم، وينهون عن ذلك.

رابعاً: مصادرة الحاكم للمال المحتكر إذا خيف الهلاك على أهل البلد، وتفريقه عليهم للضرورة

والله تعالى أعلم