رسالة المنبر
د. محمد سعيد بكر
المحاور
لا يمكن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تتنكر لجميل سيدنا موسى عليه السلام .. فهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعة الله تعالى ليلة الإسراء والمعراج تخفيفاً عليها حين فرض الله عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، فقد عالج قومه وحكى خلاصة تجربته، قال صلى الله عليه وسلم: “فَمَرَرْتُ علَى مُوسَى، فَقَالَ: بما أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَومٍ، قَالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَومٍ، وإنِّي واللَّهِ قدْ (جَرَّبْتُ) النَّاسَ قَبْلَكَ، وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ .. “رواه البخاري.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه موسى عليه السلام بالرحمة وهو يستدعي تجربته العظيمة مرتين:
1️⃣ الأولى حين أوذي وهو يوزع غنائم حنين فقال:” رحِمَ اللهُ أخي موسى؛ لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصبَرَ” رواه البخاري.
2️⃣ والثانية وهو يرجو لو أنه أطال صبره قليلاً ليكشف عن المزيد من الحكمة الإلهية في تصريف الأمور .. حين قال: “يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْتُ أنَّهُ كانَ صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِن أَخْبَارِهِمَ” رواه البخاري.
مع شدة حبنا لنبي الله موسى عليه السلام وحاجتنا للاستفادة من تجربته إلا أنه ينبغي الحذر من المغالاة في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر رضي الله عنه فقال: “إنَّا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي. رواه أحمد والبيهقي في شُعب الإيمان، وهو حسن.
من أبرز ما تميزت به تجربة موسى عليه السلام أنها جاءت لتمكين بعض القيم العليا، ومن ذلك:
1️⃣ حكاية ما جرى له عند ولادته وكيف أن الاستجابة المطلقة من أمه للوحي الذي طلب منها أن ترضعه ثم تلقيه في اليم؛ مما أثمر عن أن يصبح طالبه بالأمس خادماً وكافلاً له اليوم .. وهذا يزرع فينا قيمة اليقين المطلق على قدرة الله في حماية أوليائه والمكر بأعدائه.
2️⃣ حكاية تلبيته لاستغاثة ذاك الرجل من قومه وقتله للخصم تبين بوضوح قيمة الغيرة والشدة في النجدة .. وإن كان فيها شيء من المبالغة كلفته التوبة والاستغفار.
3️⃣ حكاية هروبه من البيئة الفاسدة، وهجرته المبكرة إلى مديَن، ومساعدته للفتاتين على السقاية، وطلبه الرزق من الرزاق الكريم .. كل ذلك مما يبني فينا قيم الإباء والشهامة والنخوة، وطلب العوض واليقين المطلق على الله تعالى .. ولأجل ذلك أكرمه الله تعالى بالأمن والوظيفة والنسب الطيب عند شعيب عليه السلام (أو والد الفتانين) .. مما يجعلنا نزداد رضاً وحباً وانتماءً لله تعالى وإعراضاً عن المجرمين شكراً لله رب العالمين: “قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ” (القصص: 17).
4️⃣ حكاية اصطفاء الله تعالى له ليكون نبي المهمات الصعبة .. ورسولاً من أولي العزم من الرسل، وتكليمه له، ومنحه معجزة العصا واليد البيضاء؛ كل ذلك مما يلفت الانتباه إلى طبيعة الدعم والتهيئة الربانية لأولئك الذين يصطفيهم رب العزة لأداء الرسالة وتبليغ الأمانه”وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا” (النساء: 164).
5️⃣ حكاية تكليف الله له بدعوة ومواجهة أسوأ نظام عبر التاريخ والجغرافيا .. وما نتج عنها من قيم الثبات والصبر لأجل تبليغ الرسالة بأمانة.
6️⃣ حكاية طلبه من الله تعالى أن يكون له شريك وصاحب ومعين له من أهله في تحمل تبعات الدعوة .. فكان هارون عليه السلام خير نصير ووزير .. كل ذلك يؤكد قيمة وشرف الصحبة الطيبة على طريق الدعوة.
7️⃣ حكاية التواصل الحثيث الذي كان يجريه موسى عليه السلام بشكل مباشر أو غير مباشر مع أطراف من آل فرعون فضلاً عن اقترابه بشكل أكبر من قومه (بنو إسرائيل) .. مما يؤكد قيم المثابرة وعدم اليأس من دعوة الناس وهدايتهم حتى في أسوأ الظروف.
8️⃣ حكاية رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم .. وما جرى له مع الخضر عليه السلام مما يبين قيمة الشغف للمعرفة، والتواضع والغيرة والمبادرة في إنكار ما يبدو من المنكرات، والحرص على معرفة الحكمة الإلهية في مجريات الأمور.
9️⃣ حكاية ذهاب موسى عليه السلام لملاقاة ربه وما جرى لقومه من ورائه وموقف هارون عليه السلام منهم .. كل ذلك يدل على شدة شوق موسى لملاقاة ربه، وشدة غيرته على الدين لدرجة أنه انفعل كثيراً وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولامه وعاتبه بسبب ما فعله السامري بعده.
🔟 حكاية شوق موسى عليه السلام وحرصه على دخول الأرض المقدسة وعدم مبالاته لصدود وجبن قومه .. كل ذلك يؤكد قيم الشجاعة واليقين على الله تعالى ومحبة بيت المقدس لدرجة؛ أنه عليه السلام تمنى لو تكون ميتته من البيت المقدس رميةً بحجر.
إن أكثر ما يلفت الانتباه لتجربة موسى عليه السلام أنه واجه في دعوته ثلاث معضلات خطيرة هي:
1️⃣ أسوأ نظام (نظام الطاغية فرعون).
2️⃣ أسوأ شعب (بنو إسرائيل).
3️⃣ أسوأ نخبة (السحرة).
وتعامل معها وفق استراتيجيات واثقة الخطى تقوم على اليقين التام .. والشجاعة .. والصبر .. والحجج الدامغة.
نجح موسى عليه السلام نجاحاً باهراً في دعوته .. وإن لم يتحقق له ما يحب من هداية معظم من دعاهم .. ومن نتائج دعوته ما يأتي:
1️⃣ إقامة الحجة على فرعون وقومه وجنوده وعموم بني إسرائيل.
2️⃣ إرغام أنف فرعون وكسر شوكته هو وجنوده: “فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ” (40)
3️⃣ تحقيق الهداية لمن آمن من آل فرعون ومن سحرته ومن بني إسرائيل .. بل لقد اخترق الإيمان ببركة جهد موسى عليه السلام سلطان فرعون اللعين من أربع نوافذ وهي:
✅ نافذة زوجته؛ فقد آمنت آسيا رحمها الله وطلبت من الله النجاة والعوض.
✅ نافذة عشيرته؛ حين آمن مؤمن آل فرعون، ودافع عنه.
✅ نافذة حاشيته؛ حين “ألقي السحرة سجداً”.
✅ نافذة خدَمه؛ حين آمنت ماشطة بناته.
ومما يمكن وصفه ب “استراتيجيات التعامل مع الأنظمة المستبدة” على ضوء تجربة موسى عليه السلام يمكننا أخذ القواعد الآتية:
1️⃣ الاستمرار في تذكيرهم باللين والحسنى مع الصبر وعدم اليأس من ذلك.
2️⃣ العمل الجاد على اختراق أجوائهم الفاسدة بنفحات إيمانية؛ لعلها تصيب بعض حاشيتهم وآل بيتهم بأنوارها الطيبة.
3️⃣ عرض الحجج والبراهين الدامغة لفسادهم والمثبتة للحق، ومحاولة تخليص الشعوب من استبدادهم .. “فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ” (طه: 47).
4️⃣ اتخاذ البيوت والتجمعات الصغيرة للحفاظ على الفئة المؤمنة من بطشهم، وتبشير تلك الفئة وحثها على التشبث بالصبر والصلاة، قال تعالى: “وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ” (يونس: 87).
5️⃣ الحذر الشديد من مواجهتهم .. واجتناب عيونهم .. وعدم الاكتراث لتهديداتهم.
6️⃣ رفع سقف الرد عليهم أحياناً بما يليق بوجوههم الكالحة، قال تعالى:”وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا” (الإسراء: 102).
7️⃣ ولا مانع من الدعاء عليهم بعد استنفاذ وسائل هدايتهم، وذلك لرفع ظلمهم .. قال تعالى: ” وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يؤمنوا .. ” (يونس: 88).
8️⃣ محاولة الفرار عند اشتداد الهجمة مع عدم القدرة على دفع الأذى، وضرورة اليقين التام على الله بالنجاة ” فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” (الشعراء: 62).
لقد وجد موسى عليه السلام في بني إسرائيل من التعنت والخصومة والرعونة والجفاء والجبن وقلة الأدب والجحود والجدل ما لم يجده أحد في أي قوم .. على الرغم من أنه لزم الصبر والحرص على التذكير بالحجة وكان مدركاً لحاجات وطبائع وأزمات قومه .. إلا أنهم فشلوا في اختبارات الصبر على البلاء والشكر على النعماء.
ولإثبات تجربته مع هؤلاء المتعنتين؛ سجل القرآن بعض قصصه عليه السلام معهم، ومن تلك القصص:
1️⃣ قصة البقرة التي كانت دليلاً ناطقاً يكشف جريمة القتل التي تستروا عليها وأخفوا القاتل .. تلك التي أثبتت تعنتهم وجدلهم وقلة أدبهم وإخفاءهم للحقيقة.
2️⃣ قصة طلبهم لعبادة الأصنام بعد نجاتهم من فرعون، والتي أثبتت جحودهم وجهلهم “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ” (الأعراف: 138).
3️⃣ قصة عبادتهم للعجل والتي أكدت جحودهم مجدداً وجهلهم وتمردهم على الحق.
4️⃣ قصة رفضهم دخول الأرض المقدسة والتي أثبتت جبنهم وضعف يقينهم على الله.
وختاماً
كانت ولا تزال وستبقى تجربة نبي الله موسى عليه السلام حاضرة بين أيدينا من مولده إلى وفاته .. وقد سجلها رب العزة في القرآن العظيم لنحسن التعاطي معها واستثمارها، حيث ورد ذكره (١٣٦) مرة في (٣٤) سورة موزعة على القرآن المكي والمدني .. وإن لم يأت باسمه سورة محددة .. وقد جاء هذا التكرار لإثبات حاجة أمة الإسلام إلى الانتفاع بتلك التجربة الكبرى؛ في التعامل مع الأنظمة المستبدة والشعوب الذليلة والنخب المريضة .. فالأمة التي من تجارب غيرها لا تتعلم؛ تبقى تئن وتشكو وتتألم.
نقلاً عن:
https://www.facebook.com/100066683647545/posts/203224555243665
/