رسالة المنبر
د. محمد سعيد بكر
المحاور :
يتلقى المرء في حياته وعوداً كثيرة، مثلما يطلق هو كذلك وعوداً للآخرين، ولا يحب الإنسان نقض وعد تلقاه من أحد، وإن كان يتساهل أحياناً في وعوده للآخرين! وهذا من انفصاماتنا المزعجة، حيث نَفعل ما نكره أن يُفعل بنا.
يُعدُّ نقض العهد عند القادر على إنفاذه من صفات المنافقين، ولا يليق بالمؤمن أن يعد وعداً لا يملك أو لا يستطيع إنفاذه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: .. وإذا وعد أخلف ..) رواه البخاري.
ينبغي توفر نية الوفاء بالوعد عند قطعه، ومن الغش للنفس والآخرين عدم توفر النية لذلك، أو توفر نية الخُلف (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (البقرة:22).
تقع معظم مشكلاتنا الاجتماعية بسبب ما نقطعه من وعود مع أقرب الناس لنا، ثم لا نفي بها؛ فنعد بالعطاء أو بسداد الدين للدائن، أو نعد بتغييرٍ كبير سيطرأ علينا، أو بتحقيق إنجاز، ولا نفي، ولا نجد من يلتمس لنا عذراً لضرر وقع عليه أو لتكرار خُلفنا معه.
هناك من يعدُ وعوداً جازمة ولكنها معلقة، وهذه قد تكون أقرب إلى النذر، كمن يعدُ بذبح شاة إن نجح في امتحان، وهذا وعد يقطعه مع ربه، فيلزم منه الوفاء (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (الإنسان:7).
هنالك من يعدُ وعوداً خادعة يوهم بها الناس بالفوز والنجاة والسعادة إن ساروا في طريقه، إذ به يتخلى عنهم عند أول منعطف؛ تماماً كما الشيطان في وعوده لأتباعه، وَمِمَّا جاء في ذلك من آيات الوعد المغشوش:
1️⃣ (وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) (إبراهيم: 22).
2️⃣ (بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) (فاطر: 40).
3️⃣ (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) (النساء: 120).
من أسوأ أنواع الوعود التي شهدتها البشرية في زماننا؛ وعد من يعدُ بما لا يملك لمن لا يستحق، كتلك الوعود التي يطلقها اللصوص في صرف مكافآت لأفراد العصابة، فالمال ليس مالهم، والعصابة لا تستحقه، تماماً كما أعطى بلفور (رئيس وزراء بريطانيا) وعداً بإقامة دولة لليهود في فلسطين، وصار كمن كذب كذبة وأرغم أنوف الأعراب على تصديقها والتعاطي معها؛ كأنما هي الحق والحقيقة.
الوعود المغشوشة المزورة بأمور غير مباحة ولا مشروعة؛ إذا عمل لها أصحابها وسعوا لها سعيها فإنها تفرض نفسها وتصبح أقرب إلى الواقع من الوهم والخيال، مثلما أن الوعود الصادقة إذا أهملها أصحابها ولم يكونوا جادين في إثباتها فإنها تتلاشى وتذوي وتذوب.
للوعود الصادقة مقومات، لعل أهمها:
1️⃣ امتلاك النية والعزيمة على إنفاذها، واليقين العالي بها حتى لو كان هنالك ثمة ضعف نسبي عند ذلك.
2️⃣ الأخذ بأسباب مادية عملية موجودة يستدل بها المتابعون على جدية تلك النية في الوفاء بالوعد وعدم التخلف عنه.
3️⃣ مراعاة الفرص والتحديات، فقد تعدُ بأمر ما، إذ بالتحديات العارضة تمنعك من إنفاذه، ولكن فرصاً أخرى تلوح بالأفق تجعلك الأقرب إلى تحقيق وعدك، فالواجب استثمارها (فقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتوحات في زمانه فتمت، ووعدهم بأن يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت بأمان، فسار).
ليس هنالك أعظم ولا أشرف ولا أصدق من وعود الله تعالى لعباده، وكلما زاد يقيننا على الله تعالى بتحقق وعوده زاد إيماننا به وبقدرته، وبالتالي صار هو محبوبنا، ولم يبق في نفوسنا خشية ولا تعلق بسواه، فمن وعود الله تعالى للطيبين:
1️⃣ (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ) (البقرة: 268).
2️⃣ (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات: 22).
3️⃣ (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) (النساء: 122).
4️⃣ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ..) (النور: 55).
ومثلما وعد الله تعالى الطيبين، فقد هدد وتوعد الخبثاء، وَمِمَّا جاء من ذلك في القرآن العظيم:
1️⃣ (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) (التوبة: 68).
2️⃣ (هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (يس: 63).
3️⃣ (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق: 14).
4️⃣ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) (الحج: 47).
يحرص أهل الباطل على انتزاع وعود منك عند لحظة من لحظات ضعفك .. فتصبح مجبراً على الوفاء بتلك الوعود الأثيمة .. فاحرص وانتبه .. ولا تعط وعوداً لا يحق لك إعطاؤها لأحد، وفي السيرة مشهد يحكي تلك القاعدة، فقد أَتَى بَنو عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بنُ فِرَاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم: “الأمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ”.
فَقَالَ لَهُ بَيْحَرَةُ بنُ فِرَاسٍ: أَفنهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الأمْرُ لِغَيْرِنَا؟ لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ” .. نعم فإن الأمر لله تعالى وقد كان .. فلا تعط وعداً لا تستطيع أو لا تملك إنفاذه .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قديماً كانت العرب تقول: وعد الحر دَين، ومن هنا يقول الشاعر:
إذا قلتَ في شيء؛ نعم فأتمه
فأن نعم دَين على الحر واجب
وإلا فقل؛ لا تسترح وترح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب
وبقدر حرصك على إنفاذ وعدك، فاحرص على أن لا تتحمس لوعود يقطعها البشر، فلربما يعدك من لا ينوي الوفاء، أو قد يعدك من ينوي الوفاء ويعزم عليه فيأتيه عارض فوق إرادته يجبره على التأخير أو الخلف .. فوطن نفسك على أي خلف والتمس الأعذار .. وعلق قلبك بربك العزيز الجبار.
وختاماً
لن يقف في وجه الوعود المغشوشة إلا اليقين التام على وعود الله تعالى الصادقة، ولقد حاول الأعداء تشكيكنا بوعود ربنا سبحانه وتعالى لينتزعوا حماستنا للدعوة والعمل والعطاء والجهاد، قال تعالى على لسان قوم صالح: (ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف: 77)، وقال سبحانه: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (الأحزاب: 12).
فلا ينبغي أن تشككنا هذه الدعاوى والأراجيف بقدرة القدير وقوة القوي، وهو القائل في محصلة الصراع بين الحق والباطل والخير والشر عند تناوله لوعد الآخرة، ذلك الوعد الحق: (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) (الإسراء: 104)، بعد أن بيّن وعد الأولى بقوله سبحانه: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (الإسراء: 5).
نقلاً عن:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=170474478518673&id=100066683647545