23/3/2024
بشير الحسيني
تظهر بين الفينة والأخرى محاولات لتسويغ التطبيع مع الاحتلال الصهيوني؛ لذلك جاء هذا المقال ليوضح حقيقة التطبيع، والموقف الشرعي منه، ويركز على عرض موقف علماء فلسطين تجاهه؛ لقربهم المكاني والاختصاصي.
مفهوم التطبيع وأهدافه:
يختلف «التطبيع» عن «الاعتراف بالاحتلال»، وكذلك «إقامة الصلح معه»، إذ لا تلزم من الصلح والاعتراف علاقات حميمية، فالتطبيع أبعد مدى من الاعتراف، ويتجاوز أفق القانون والتشريعات الدولية، ويعد إدارة ناعمة للحرب، ونوعاً جديداً من الاستعمار سهل التمرير[1]، حيث يحول علاقة الحرب والصدام إلى علاقة تعاون وسلام، وتبادل نشط في كافة المجالات، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي[2].
يربط الاحتلال بين تسوية النزاع والتطبيع معه، ويمارس قوته لإجبار العرب والمسلمين على إنشاء علاقات تعاونية لا تقتصر على اتفاقيات سياسية، بل تضمن وصول العلاقات إلى عمق العالم العربي دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، بهدف إذابة القضية الفلسطينية، والتسليم بوجوده، وإلغاء مقاطعته؛ ليتمكن من قيادة المنطقة، وهذا لا يتم إلا بعد تطبيع العقل والفكر، وتزييف الاعتقاد والقيم، ولهذا فإن الحديث في الحالة الفلسطينية الراهنة عن الاعتراف الرسمي بالاحتلال وإقامة صلح معه، يلزم منه قبول التطبيع مع الكيان الصهيوني[3].
وبرغم أن اتفاقيات السلام الرسمية فتحت مجالاً واسعاً للتطبيع، إلا إن التيارات الإسلامية والوطنية والشعبية واجهته بإستراتيجية المقاطعة الشاملة، وحققت معركة إسقاط التطبيع نجاحات مهمة، حيث جعلت النشاطات التطبيعية القائمة معزولة عن السياق العام للأمة[4].
العلاقة مع العدو المحارب بين الفقه التأصيلي والاجتهاد التطبيقي:
يتفق جمهور العلماء على أن أصل الصلح مع الأعداء جائز وفق شروط محددة، ويجوز التعامل مع الكافر بيعاً وشراءً، غير أن هذا الحكم الأصلي وقع اختلاف في جواز تطبيقه مع الاحتلال الصهيوني؛ لأن جمعاً من الفقهاء يقولون بقاعدة سد الذرائع التي تقتضي تحريم المباح إذا أفضى إلى حرام، فكل ما يزيد الكفار المحاربين قوة ويطيل أمد بقائهم يحرم شرعاً، ولذلك يحرم بيعهم السلاح وكل ما يستعان به في قتال المسلمين أو اغتصاب أرضهم، وإذا رأى المسلمون أن في مقاطعة الاحتلال مصلحة شرعية راجحة وجب الالتزام بها؛ حتى لا نكون عوناً لهم على المسلمين[5].
إن القائلين بجواز الصلح مع الصهاينة وضعوا شروطاً من أهمها أن يكون الصلح ضرورة شرعيةً، وأن يحقق نفعاً للمسلمين، ويكون بقرار شوري بين مختلف القوى الفاعلة[6]، ومن أجاز الصلح معهم لم يقل بجواز التطبيع؛ لأن التطبيع أبعد من الصلح، فالمصالحة لا يلزم منها مودتهم والاعتراف لهم بحقهم في الأرض، والمشاهد في فلسطين أن المصلحة تكون بعدم مصالحتهم وأن المفسدة المترتبة على الاعتراف والتطبيع أعظم من المفسدة المترتبة على عدم الاعتراف، بل إن مفسدة الاعتراف محققة، ومصلحتها محتملة، ومصالحتهم مدخل للتطبيع وإمدادهم بمقومات البقاء، وأن الممارسة العملية للصلح غير منفكة عن التطبيع، ووقعت بقرارات تفردية إملائية دون مشاورات، ولهذا فلا يصح الاستدلال على مشروعية التطبيع بالأدلة المتعلقة بجواز إقامة علاقات مع العدو، وقياس الاعتراف بالاحتلال الصهيوني على صلح الحديبية قياس مع الفارق؛ لأن صلح الحديبية لم يترتب عليه اعتراف بشرعية قريش، كما أن مكة كانت تحت يدهم، وليس من الدقيق تنزيل كلام الفقهاء حول السلم والحرب والمعاهدات والعلاقات مع العدو المحارب، على الواقع الفلسطيني؛ لأن الاحتلال الصهيوني ليس مجرد عدو حربي، بل هو مغتصب للأرض، وثمرة الدخول معه في عملية السلام في ظل المعطيات الواقعية ليست هدنة مؤقتة، ووقفاً للحرب، وإنما هي تحويل الحرب لشكل آخر، يطال الفكر والهوية ومصالح الشعوب، فهو صلح جائر على المسلمين[7].
إن مقومات الهدنة المتوازنة المحققة لمصلحة المسلمين غير متوافرة حالياً، وحال توافرها فإن الحكم يختلف، وإلى ذلك الحين فإن الجهاد بأشكاله المختلفة واجب، والمقاطعة ورفض التطبيع وسيلة من وسائل الجهاد؛ لأن الجهاد هدفه دفع المحتل، والمقاطعة الشاملة أحد الوسائل المحققة لذلك، وإن التطبيع وما يقابله من مقاطعة يرتبط حكمه في الشريعة الإسلامية بالمصالح والمفاسد الناشئة عنها، ولعل الضابط الشرعي المرجح للاختيار هو تحقق مصلحة المسلمين، ووقوع النكاية والضرر بالكفار، وعدم الإفضاء إلى مفسدة أعظم من المفسدة التي نسعى لإزالتها[8].
إن الدخول في عملية السلام والاعتراف الرسمي الصريح بالاحتلال له آثار كارثية، من تنازل عن الأقصى، وإسقاط حق العودة، وإعفاء الاحتلال من تبعات جرائمه، كما يجعل تحرير الأرض وإخراج الاحتلال منها أصعب، أما استعادة الحق بلا اعتراف فهي أيسر من استعادته بعد التنازل عنه، فالتطبيع مع العدو يجعل مهمة إحياء الأمة، ومواجهتا لعدوها أصعب وأعسر[9].
موقف علماء فلسطين من التطبيع مع الاحتلال الصهيوني:
إن التطبيع متفق على حرمته بين علماء فلسطين، غير أن اختلافهم وقع في التطبيقات، ومدى عد هذه الوسيلة تطبيعاً أو ليس تطبيعاً، ولعل من أكبر الشواهد على ذلك عقد الصلح مع الاحتلال، والاعتراف به، وزيارة القدس بتأشيرة من الاحتلال الصهيوني، والعمل عند الاحتلال في الأعمال المدنية عند الحاجة، ولا يتسع المقام لتفصيل مواقفهم في كل هذه القضايا، لذا أكتفي بالإشارة إلى أبرز المواقف المرتبطة بالتطبيع والاعتراف وبيع الأرض:
أولاً: فتوى مؤتمر علماء فلسطين الأول المنعقد في القدس عام 1935م:
أفتى مؤتمر علماء فلسطين بـ«تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود.. وتحريم الرضا بذلك، وأن فعله يستلزم الكفر والارتداد»[10].
ثانياً: فتوى رابطة علماء فلسطين:
أصدرت الرابطة بياناً بعنوان: «تطبيع العلاقات ضياع للمقدسات»، وتحدثت فيه عن تحريم التطبيع بكل أشكاله[11].
ويرى الدكتور يونس الأسطل رئيس دائرة الإفتاء برابطة علماء فلسطين سابقاً، أن السلام في مفهوم الصهاينة لا يعني إنهاء حالة الحرب مع الأمة الإسلامية، لكنه يعني إقامة شبكة واسعة من العلاقات مع جميع دول المنطقة لتسهيل ابتلاعها، وأن الصلح الموقع معها باطل، لا تقره الشريعة، وهو منكر أكبر يجب على كل أحد أن يغيره بما استطاع من حيلة[12].
ثالثاً: فتوى هيئة علماء فلسطين في الخارج:
ترى هيئة علماء فلسطين في الخارج أن أي تعاون مع العدو المحتل لفلسطين، والتطبيع مع الكيان الصهيوني سواء من أبناء المسلمين أو من الدول والحكومات العربية والإسلامية أو غيرها يدخل في باب الموالاة المحرمة لأعداء الله تعالى، ويعد مشاركة في العدوان على فلسطين وأهلها، يأثم فاعله، ويعد خائناً لله ولرسوله وللمؤمنين[13].
رابعاً: فتوى الشيخ عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، ومفتي القدس والديار الفلسطينية الأسبق:
يرى الشيخ عكرمة صبري أن التعامل مع الشركات الصهيونية تطبيع، وأن على المسلم مقاطعتها، وكذلك يرى أن زيارة القدس بتأشيرة صهيونية من قبل العرب الذين لا تربط بلادهم بالكيان الصهيوني معاهدات تطبيع ممنوع[14].
ختاماً فإن الاعتراف بالاحتلال ومصالحته والتطبيع معه مسألة تخضع للمصلحة الشرعية، لكن الخلاف القائم يعود إلى اختلافهم في تقدير المصالح والمفاسد، ومدى أهلية وشرعية القائمين على اتفاقيات السلام؛ لأن الاتفاقيات التي أجريت مع الاحتلال فيها إضرار واضح بالقضية الفلسطينية وتنازل عن الحقوق.
——————–
[1] انظر: مصطلحات يهودية احذروها (ص14)، التطبيع الاقتصادي لمحمد نجيب بوليف (ص 38)، مجلة الفرقان – المغرب، العدد 39، عام 1418هـ.
[2] انظر: التطبيع بين المفهوم والممارسة: دراسة حالة التطبيع العربي – الإٍسرائيلي، لسعيد يقين داود، وهي رسالة ماجستير نوقشت بجامعة بيرزيت – فلسطين، عام 2002م (ص7، 135).
[3] انظر: التطبيع للعودة، وهي محاضرة مفرغة ومنشورة على عدد من المواقع. الاقتصاد لبوليف (ص42).
[4] انظر: التطبيع بين المفهوم والممارسة (ص11، 138).
[5] انظر: الاستضعاف للدكتور زياد المشوخي (ص300 وما بعدها)، فتوى على موقع فتاوى الشبكة الإسلامية، بعنوان: حدود التعامل مع الكفار بيعاً وشراءً.
[6] انظر: الاستضعاف (ص300 وما بعدها).
[7] انظر: ميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، للدكتور يونس الأسطل (ص203 وما بعدها)، وهي رسالة دكتوراه نوقشت في الجامعة الأردنية، عام 1996م.
[8] انظر: المقاطعة الاقتصادية للدكتور خالد الشمراني (ص74). الاستضعاف للدكتور زياد المشوخي (ص289). مقال: يسألونك عن التطبيع لفهمي هويدي (ص60).
[9] انظر: الاستضعاف (ص290 وما بعدها). التطبيع سلاح الصهاينة الجديد لاختراق المنطقة، مقال للدكتور عدنان أبو عامر، منشور في مجلة البيان، عدد 325.
[10] انظر: موسوعة الأسئلة الفلسطينية (ص220) نقلاً عن «الاستضعاف» (ص293).
[11] انظر: موقع رابطة علماء فلسطين
[12] انظر: ميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، للدكتور يونس الأسطل (ص203 وما بعدها).
[13] الوثيقة الإسلامية لفلسطين، منشور على موقع هيئة علماء فلسطين في الخارج،
[14] انظر: حوار مع الشيخ عكرمة صبري، أجراه مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، ورابطه:
نقلاً عن مجلة البيان العدد 355 ربيـع الأول 1438هـ، ديـسـمـبـر 2016م.