د. عطية عدلان مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات
مقدمة
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
المحكمات هي: “حقائق الإسلام الواضحة البيّنة الثابتة، التي أُحكمت بالبيان والبرهان، وقامت عليها الحجج والأدلة؛ بما يزيل الالتباس والاشتباه، وفي هذا السياق قدم المركز دراسة عن الفتاوى المسوغة للتطبيع مع العدو الصهيونيّ؛ باعتبارها تضادّ الثوابت وتهدد الممحكمات، فوجوب جهاد الدفع لتحرير الأرض الإسلامية والمقدسات الإسلامية ولنصرة المظلومين من المسلمين أحد المحكمات التي يهددها مشروع التطبيع، ومثله وجوب حماية بيضة الإسلام وتحصين ثغور الأمة من تغلغل المشروع الصهيونيّ، وكذلك حرمة الولاء والمظاهرة للكفار المحاربين المغتصبين للأرض الإسلامية والمقدسات الإسلامية.
وقد رُصدت فتاوى عديدة لجهات وشخصيات عديدة؛ أَيَّدَتْ بصورة وبأخرى معاهدات السلام العربية الإسرائيلية، وَدَعَمت بشكل أو بآخر مشروع التطبيع مع الكيان الصهيونيّ؛ لذلك وجب البيان.
عرض موجز لفتوى الشيخ ابن باز رحمه الله
الشيخ بن باز رحمه الله أبرز من أفتى فأثرت فتواه في القطاع الكبير من المسلمين، وهو من هو في علمه وفضله، وفتواه قد جمعت أهم ما يمكن أن يكون سندا منسوبا للشرع في عملية تسويغ التطبيع؛ فإذا ثَبَتَ بطلان فتواه وانهارت انهار بانهيارها جميع ما دار حولها وما جاء قبلها وبعدها من فتاوى واجتهادات.
سُئل سماحة الشيخ ابن باز – سامحه الله – عن التطبيع وعن الصلح مع اليهود؛ فأجاب: “تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى وليّ الأمر المصلحة في ذلك” لقوله سبحانه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم) ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا”، وواصل: “ولأنّ الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد بسط العلامة ابن القيم القول في ذلك في كتابه أحكام أهل الذمة، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم”، وتابع: “لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة لبقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإن رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات التي يبيحها الشرع المطهر فلا بأس في ذلك”، قال ذلك في صدد الإجابة على سؤال عن مدى جواز التطبيع، ثم يستطرد مبيناً أنّ مثل هذا الصلح لا يترتب عليه ولاء لليهود ولا محبة لهم ولا غير ذلك.
الفتوى وواقع الأمة
وفتوى الشيخ – بالمقاييس العلمية المنهجية – مطمورة في الخطأ والزلل، ومخالفة لشريعة الإسلام في شكلها ومضامينها كافّة، فما هذه بفتوى في مسألة من المسائل العظام ونازلة من النوازل الجسام، ولو أنّ الشيخ سُئل عن امرأة رأت الدم في غير أيام عادتها لسأل أولا عن لونه وشكله وهل تكرر من قبل أم لا، ولأَطال وفصّل وأوضح وبيّن، وإنّ فتاواه لتملأ الدنيا سهلها ووعرها – جزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين – وأمّا في مسألة كهذه يتعلق بها مصير الأمة وحاضر ومستقبل المسلمين فيطرحها هكذا ويلقيها كما يُلقي البَصْقَةَ مِنْ فِيهِ!
إنّ ما جرى في واقع الأمة اليوم ليس من قبيل الهدنة أو الصلح الذي يتحدث عنه الشيخ ويسوق له الأدلة، إنّه لا يتوافر فيه شرط واحد من الشروط الأربعة التي إن غاب منها شرط واحد كان عقد الهدنة باطلا ومحرما، إنّ معاهدات السلام التي أبرمها الكيان الصهيونيّ مع الدول العربية كل منها على انفراد، وما تلى ذلك من عمليات التطبيع؛ ليست سوى استسلام لهذا الكيان المجرم الذي يحتل الأرض ويطرد منها أهلها، ويهيمن على المقدسات الإسلامية، ويقبع في كبد الأمة يمكر بها ويكيد لها، ويربض في خاصرة العالم الإسلاميّ كخنجر مسموم سلته على الأمة قوى الإمبريالية العالمية.
إنّ فتوى الشيخ ومن تابعه عليها من المشايخ صارت اليوم متكأ لمن يقولون بجواز التطبيع مع العدو الصهيونيّ الذي لا يزال إلى اليوم يعتدي على المسلمين ويرميهم بالحمم، والتطبيع هو السلام الدائم وقيام علاقات طبيعية كسائر العلاقات الطبيعية بين الدول، بل إنّه في الواقع لا يقف عند حدود المعنى المباشر وإنما يتجاوز ذلك إلى شراكات سياسية واقتصادية وثقافية، بلغت اليوم حد التمهيد للولايات المتحدة الإبراهيمية التي تتزعمها إسرائيل وتدين بالدين الإبراهيمي الجديد الذي تنصهر فيه كل الأديان الثلاثة!!
وإذا كنّا قد تعجلنا ببعض الردود؛ فإنّ هذا لا يغني عن استعراض المسألة من جذورها وأصولها الشرعية؛ فما هو حكم الصلح مع الأعداء الحربيين؟ وما هي الشروط التي ينبغي مراعاتها؟ ثم ما مدى صحة هذه الفتوى وما شابهها من الفتاوى في ضوء ما يتقرر من الأحكام الشرعية؟ هذا هو المسار الذي سوف نسلكه في المباحث الرئيسية لهذا البحث.
أحكام الهدنة في الشريعة الإسلامية
أمّا عن حكم الهدنة فإنَّ الأئمةَ الأربعة وعلماءَ الأمصار كافَّةً متفقون على أمرين، الأول: أنّ الهدنة مع دار الحرب جائزة بشروطها، الثاني: أنّ جوازها مرهون بشروط لا بدّ من توافرها، وإلا كانت باطلة ولو بفقد شرط واحد من الشروط؛ إذ إنّ الشرط ما يلزم من عدمه العدم، فلو فقد شرط واحد لم يغن عن البطلان توافر باقي الشروط، وكما أنّ جواز الهدنة بشروطها صار من المحكمات والثوابت باتفاق العلماء عليه وبكثرة ما قام عليه من أدلة من الكتاب والسنة القولية والعملية؛ فإنّ الشروط التي يجب توافرها في الهدنة لكي تصح وتجوز وتلزم الأمة الإسلامية، والتي إن غاب منها شرط واحد بطلت وحرمت وانفرط عقدها هي أيضاً ترتقي إلى مستوى المحكمات؛ إذْ توافقت عليها جميع مذاهب جماهير العلماء القائلين بالجواز، مع كونها متآلفة تمام التآلف مع مقاصد الشريعة وأصولها العامّة.
وقد اشترط العلماء لصحة الهدنة أو الصلح شروطاً، اتفق عليها القائلون بجواز الهدنة وهم الجمهور، فإذا إضيف لاتفاقهم أنّ الظاهرية خالفوهم في جواز الهدنة من حيث الأصل؛ فيكون القدر المجمع عليه هو عدم جواز المصالحة مع دار الحرب إذا غاب شرط من الشروط التي اشترطها العلماء، وبالطبع يتأكد عدم الجواز بانعدام أكثر من شرط، فإذا انعدمت كلها انسدت كل الأبواب أمام القائلين بالجواز.
أول هذه الشروط: أن يكون في المصالحة مصلحة للمسلمين، فإن لم يكن فيها مصلحة للمسلمين لم تجز؛ لأنّ الأصل مع دار الحرب إمضاء الجهاد، وثاني هذه الشروط: «ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد» وهذا الشرط ورد ذكره في كافة المذاهب الإسلامية، إما بالنص عليه مباشرة، أو بذكر أمثلة للشروط الفاسدة التي لا يصح معها العقد، وثالث هذه الشروط: يرى جمهور الفقهاء « المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية»، أن عقد الهدنة لا يجوز أن يعقده مع المشركين إلا الإمام أو من ينوب عنه، لأنه عقد يترتب عليه تعطيل الجهاد وهو من المصالح العامة التي لا يقف عليها غير الإمام، وخلاف الحنفية ضعيف لا دليل عليه، ورابع هذه الشروط ألا يكون العقد مؤبداً.
هذان الأمران المتكاملان محكمان ثابتان لا لَفَّ حولهما ولا دوران، الأول: جواز الهدنة بشروطها الأربعة الآنفة الذكر، الثاني: بطلان الهدنة وحرمتها إذا فقدت شرطا واحداً من تلك الشروط الأربعة، هذان حكمان ثابتان بلغ بهما البيان إلى حدّ الإحكام، بتظاهر الأدلة وتوافر البراهين، ومن هذين المحكمين الثابتين ننطلق لإجلاء الحقائق وإماطة الغبش عنها.
الرد على الفتوى
ولنبدأ بتلك العبارة التي تكررت من الشيخ، وهي جواز الهدنة مطلقة ومقيدة بمدة، وهذا القول صحيح فقهيا، فالهدنة جائزة مقيدة ومطلقة، ولكنّ معاهدات السلام مع إسرائيل وما ترتب عليها من التطبيع مع الصهاينة ليست هدنة وليست مؤقتة ولا مطلقة، وإنّما هي سلام شامل ودائم بين المسلمين وبين العدو المحتل الغازي المعتدي المغتصب، الذي أوجب الله قتاله وجوبا عينيا، فجهاده من الصور التي يتعين فيها وجوب الجهاد الذي هو في الأصل فرض كفاية.
أمّا كون معاهدات السلام مع الكيان الصهيونيّ مؤبدة فهذا ما لا يجهله ولا ينكره أحد، بل لا يستطيع زعيم ممن وقعوا على هذه المعاهدات أن يملأ فمه بزعم أنّها ليست دائمة، ولا يجرؤ أحدهم أن يقبل مجرد قبول بينه وبين نفسه قول الشيخ “ثم قطعها عند زوال الحاجة!” لأنّ نصوصها وفحواها وسياقاتها تطفح بوصف التأبيد، وأمّا عدم جواز تأبيد الهدنة فهذا هو عين ما اتفق عليه العلماء، وهذا الذي اتفق عليه السابقون قال به كثير من المعاصرين، منهم الدكتور وهبة الزحيلي: والدكتور فتحي الدريني، وغيرهما من المعاصرين وهم كثر.
أمّا التقييد والإطلاق فهو أمر آخر لا علاقة له بالتأبيد من عدمه، فالتقييد هو توقيت العقد بمدة محددة، وأما الإطلاق فهو عدم التقييد بمدة معينة، ولكن الإطلاق لا يعني التأبيد، وإنّما يعني قيام الهدنة ما لم يتفق الطرفان على إنهائها أو ينبذ أحدهما إلى الآخر العهد، أو يحدث ما يستدعي إنهاءها، يقول ابن القيم: “ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التـأبيد بل متى شـاء نقضها”، وهذا الذي قاله ابن القيم يفصل بين الإطلاق والتأبيد، وقد اخترت كلام ابن القيم هنا لأنّ سماحة الشيخ – سامحه الله – رَدَّنا إليه وإلى شيخ الإسلام ابن تيمية، بإبهام يشعر بأنّه أخذ عنهما، ولو أخذ عنهما لما قال ما قال!
وما أورده الشيخ من أحداث وقعت في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت في الحقيقة عقود ذمة لا هدنة، والعلماء فرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوي وآكد؛ ولذا كان موضوعاً على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح، يقول الأمام ابن القيم: «صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أن أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة»
والصحيح أن النبي عقد لليهود في المدينة عقد ذمة لا هدنة، بدليل أن الصحفية تضمنت بنداً يقضي بأن يرد الأمر في كل ما اختلف فيه إلي الله ورسوله:«وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فمرده إلي الله ومحمد» وهذا معناه أن أحكام الإسلام تجري عليهم، وهذا هو العنصر الأول من العناصر المميزة لعقد الذمة وهو عنصر (الصغار) أما العنصر الثاني وهو الجزية فلم يكن قد شرع بعد, وما يقال هنا يقال عن أهل خيبر, يقول ابن القيم: «والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة بل أطلقه ما داموا كافّين غير محاربين له؛ فكانت تلك ذمتهم، غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد»، ويقول في موضوع آخر: «ولا يقال: أهل خيبر لم تكن لهم ذمة بل كانوا أهل ذمة قد آمنوا بها على دمائهم وأموالهم أمانا مستمراً، نعم لم تكن الجزية قد شرعت ونزل فرضها، وكانوا أهل ذمة بغير جزية، فلما نزل فرض الجزية استؤنف ضربها على من يعقد له الذمة من أهل الكتاب والمجوس، فلم يكن عدم أخذ الجزية منهم لكونهم ليسوا أهل ذمة بل لأنها لم تكن نزل فرضها».
وأما عهد النبي صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة فقد كان أيضاً عقد ذمة، يدل على ذلك نص الكتاب الذي كتبه إليهم، فكون الكتاب ينص على أن “لهم ذمة الله ورسوله ولهم النصر وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم”، يدل على أن العقد عقد ذمة لا عقد هدنة، وقد سبق أن عقد الذمة يؤبد بخلاف عقد الهدنة، وكذلك كتاب النبي لأهل نجران كان عقد ذمة بدليل ما فرضه عليهم في أموالهم، وبدليل أنه حرم عليهم أخذ الربا، وهذا إجراء لأحكام الإسلام عليهم، وبدليل أنه أرسل إليهم من يكون أميراً عليهم وهو أبو عبيدة بن الجراح؛ فهذه العقود التي استدل بها الشيخ عقود ذمة لا هدنة ولا موادعة «وعقد الموادعة عقد غير لازم؛ وهو إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً, ولكن الذي يكون مؤبداً هو عقد الذمة»
هذا عن شرط عدم التأبيد، أمّا شرط أن يكون عاقدها هو الإمام أو من ينوب عنه، فَمَنْ يكون الإمام اليوم؟ ومن يكون نائبه؟ وبرغم خطورة السؤال وحاجة الأمة إليه في واقعها المعاصر؛ في ظل جبرية صلعاء خشوم تتسول الشرعية في المحافل الدولية الغارقة في النفاق الدوليّ وتفتقدها في عمق الأمة التي لم تقم باختيار حاكم واحد من حكامها في حياتها المعاصرة ولو مرة واحدة، أقول برغم عدم شرعية هذه الأنظمة وعدم أحقيتها بتمثيل المسلمين: سنتجاوز هذا ونعتبر هؤلاء الحكام حكاما بحكم الواقع المفروض علينا شِئْنا أمْ أَبَيْنا، فبرغم ذلك لم يتوفر في واحدة من هذه المعاهدات شرط الأهلية؛ لأنّه في ظل انقسام الأمة إلى كيانات متعددة فإن عقد الهدنة لا يمكن أن يصح شرعا إذا عقده واحد من الحكام بانفراده، إلا إذا كان أمر السلم يخص الإقليم الذي يحكمه فقط ولا ينعكس على غيره من بلاد الإسلام.
والواقع أنّ العدو الإسرائيلي ليس عدوا لإقليم واحد، وقضية الصراع مع هذا الكيان لا يمكن أن تتجزأ؛ ليس لأنها تضر جميع الأطراف وحسب، ولكن لذلك ولأمر آخر أكبر وأقدم وهو أنها قضية صراع على الدين والمقدسات.
لذلك لا يصح أن يعقد الصلح مع إسرائيل حاكم واحد بانفراده، ولا يصح أن تكون المحادثات ثنائية بين إسرائيل وكل طرف عربي على حدة؛ لأن القضية واحدة، ولأن العدو واحد، ولأن الضرر واقع على الكل؛ فقد جاء في الصحيفة ما نصه: «وَأَنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدٌ، وَلا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ ».
والعجيب أنّ الشيخ يتجاهل هذا كله وهو من المعلوم من واقع الأمة بالضرورة، ويقول للمسلمين هذه الكلمات التي يترفع عن قولها طالب إعدادي خشية أن يتهم بالسطحية والسذاجة أو التسطيح والتعويم: “لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة لبقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإن رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات وغير ذلك من المعاملات التي يبيحها الشرع المطهر فلا بأس في ذلك”!!
أنظر إليه – وهو بصدد قضية إسلامية عامة – يكرس في ضمير الأمة تقسيمة “سايكس بيكو”! ويفرق في باب المصالح والمقاصد بين دولة وإخرى من الدول المتحكمة في الرقعة الإسلامية! ثم تسائل: ما الذي يعنيه بتبادل سفراء وبيع وشراء؟! أليس هذا هو التطبيع بعينه؟! هل قال أحد للشيخ إنّ إسرائيل دولة من دول أمريكا اللاتينية بينها وبين العالم الإسلاميّ بحر الظلمات؟! ألم يقرع سمعه يوما صوت القنابل العنقودية وهي تقذف بالحمم على شعب غزة الأعزل؟ أم إنّ غزة أيضا بلد من بلاد الاسكيمو ولا يفصلها عن “المملكة!” إلا خطوات؟! ما هذا الدجل الذي يمارسه الشيخ؟! إلى متى نصاب في رجال العلم والفقه وإلى متى يفجعوننا بمواقفهم البالغة أقصى درجات الرداءة؟!
وأمّا عن شَرْطَيِّ تحقق المصلحة وعدم الاشتمال على مفسدة أو شرط فاسد، فإنَّه من الواضح تماماً أنّ المصلحة كاملة وموفورة للصهاينة المجرمين، والمفسدة متمحضة للعرب والمسلمين أجمعين، فلقد نجحت إسرائيل في الإفلات من مؤتمر جنيف الذي كان من المفترض أن يسير على خطى القرار رقم 242 لمجلس الأمن، والذي برغم أنّه يعطي اليهود أرضا اغتصبوها قبل 67 إلا أنه يردهم إلى حدود ما قبل 67 وهذا ما لم تحققه جميع معاهدات السلام التي أبرمت بين إسرائيل ومصر من جانب، وبين إسرائيل ومنظمة التحرير من جانب آخر، فلا حق العودة ولا حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ولا عودة الأرض المنهوبة بالعدوان والغصب في 67 بل فقط حكم ذاتي لا قيمة له ولا سيادة، وفي المقابل تم الاعتراف الكامل بدولة إسرائيل، التي نجحت في التغلغل والتوغل في أحشاء الدول العربية كافة عبر تطبيع ظاهره التشارك وباطنه التركيع!!
«والاعتراف الكامل فسر على أن مصر تعترف بأن إسرائيل دولة مستقلة ولها سيادة في المنطقة.. ولكن لماذا لم يتضمن هذا الاعتراف اعترافا أيضا بالسلطة الفلسطينية ؟…. وهذا يعتبر تقريرا للغاصب في البقاء على اغتصابه لأرض فلسطين وللأماكن المقدسة»، هذا الاعتراف ليس إلا أدة لاستدامه القهر من الغالب للمغلوب: «ومن ثم لا يقر الإسلام سلماً هي في جوهرها وسيلة لاستدامة قهر المغلوب، أو الإبقاء على آثار عدوان الظالم، تحكيما للقوة الغاشمة في العلاقات الدولية، أو عملا بما يسمى سياسة الأمر الواقع، لما تتضمن هذه السياسة من تغليب القوة على الحق والعدل، وهذه مناقضة لأصول الإسلام، ومقاصده الأساسية، أو نظامه الشرعي العام الذي هو حق الله ومعلوم أنه لا يملك أحد أن ينقض حق الله عن طريق التراضي أو التعاقد، وإلا بطلت شرائع الإسلام جملة، وذلك باطل، فما يؤدي إليه باطل بالبداهة، لتناقض الإرادة والتصرف مع مقتضيات الصالح العام».
ومثلما حدث في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية حدث في معاهدات السلام مع الفلسطينين، فالذي حدث “ليس مجرد هدنة، بل هو أكبر وأخطر، هو اعتراف لليهود لأن الأرض التي اغتصبوها بالحديد والنار وشردوا منها أهلها بالملايين أصبحت ملكاً لهم، وأصبحت لهم السيادة الشرعية عليها … فما حدث إذاً ليس هدنة…”.
ومن المفاسد أيضا أن المعاهدة تضمنت اتفاقا على قيام علاقات طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام دائم، وهذا الاتفاق هو الذي فتح الباب على مصراعية لإسرائيل كي تعشش في ضمير الأمة وفي كيانها، فتفسد الأخلاق والثقافة والاقتصاد وغيرها من مجالات الحياة الإسلامية، وكيف نأمن لهؤلاء وهم يقولون في بروتوكولاتهم: «إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا -ونحن نضع خططنا- ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد»، وكيف نأمن لهم اليوم نحن نرى بعد كل المعاهدات عدوانهم المتكرر على الفلسطينيين في غزة وجينين وبيت لحم، ونرى عوانهم على أهل القدس وتهجيرهم لهم واستمرارهم في بناء المستوطنات، وما يدبرونه للأقصى؟!
فإذا كانت جميع شروط الجواز والصحة منعدمة، فكيف نقول بالجواز والصحة في حين أن افتقاد شرط واحد يفضي إلى البطلان والحرمة؟! إنّ هذه المعاهدات باطلة ومحرمة وجريمة ترتكب في حق الإسلام والمسلمين، وإنّ ما تقدم من عرض المسألة في جانبها الفقهي ليس إلا على سبيل التَّنَزُّل مع الخصم، وإلا فالمسألة هجرت منطقة الفقه من زمن بعيد ولاذت بمقام العقيدة، بعدما رأينا من حال أولئك الحكام الذين نزلوا مع أعداء الأمة وأعداء دينها في قلب النَّفق المظلم الذي يقبعون فيه جميعاً، وإنّ نداء الآيات المعلنة عن الحقائق والدقائق يصخ الآذان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة 51)، (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة 52).