رسالة المنبر
د. محمد سعيد بكر
المحاور
كثرة الحديث عن الأشرار والفاسدين جعلتنا نهمل ذكر الطيبين الكرام .. أولئك الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان.
الطيبون هم روح الروح، وقلب القلب، وعين العين .. خلقهم الله راحة للبال وسعادة للنفس .. فلا حرمنا الله من وجودهم بيننا.
الطيبون عنوان الأمن والرضا .. ووجه البِشر والتفاؤل والسعادة.
ولكن أليس هؤلاء مثلنا .. أليسوا بشراً يحزنون ويتألمون ويضايقهم ما يضايقنا .. أم أنهم من عالَم آخر .. سألت نفسي هذا السؤال وأنا لا أعلم مِن حالهم سوى تكفيف جراح ودموع الآخرين .. فكان الجواب؛ بل يبكون ويتألمون لكنهم لا يُظهرون الحزن ولا يُعلنون.
الطيبون متفائلون إيجابيون مستبشرون .. لا يعرفون اليأس والإحباط والاكتئاب .. يقينهم بقدرة الله وحكمته جعلتهم أصحاب نفوس ساكنة مطمئنة حتى في أحلك الظروف والمدلهمات.
الطيبون لا يعرفون الغش ولا النفاق ولا الخبث .. باطنهم مثل ظاهرهم .. وسرهم مثل علانيتهم.. ليسوا ملائكة؛ فهم يخطئون لكنهم يظهرون على طبيعتهم بلا تكلف ولا تعسف.
الطيبون يحسنون حتى لمن أساء إليهم، ولا ينامون الليل إن صدر منهم ولو بغير قصد ما يزعج غيرهم.
الطيبون شعارهم وسعادتهم وفرح أرواحهم يكمن في العطاء .. فهم يفرحون عند عطائهم أكثر من أولئك الذين يأخذون منهم.
الطيبون يبدأون الناس بالسلام، ولا يطيلون المكث والكلام، ولا يحبون العتاب والملام.
الطيبون يستحون من الله .. ويستحون من خلق الله .. فلا يقترفون ما لا يليق بهم.
الطيبون يشبعهم الحلال وإن كان قليلاً بل شحيحاً .. ويموتون جوعاً دون الحرام أو المشبوه من الأرزاق.
الطيبون قد لا يمتازون بكثرة العلم .. بقدر ما يميزهم سلامة الفطرة .. وشفافية النفس.
الطيبون أكثر الناس إحساساً بالنعمة .. وأكثرهم شكراً لها.
الطيبون تجري دموعهم على خدودهم وترق أفئدتهم عن سماع الأذان والقرآن .. وعند ذكر الجنان والنيران .. وعند القبور .. ورأفة لحال المصاب من الإنسان والحيوان.
الطيبون كثيراً ما يقعون في جحور الجشعين والمحتالين والغشاشين .. ولكنهم لا يتركون عادة حسن الظن؛ فلا يتوقفون عن إغاثة الملهوف، وإعطاء السائل، وإجابة المكروب.
الطيبون لا يعاملون الخائن بالخيانة ولا الظالم بالظلم .. بل يعفون ويصفحون ليغفر الله لهم.
الطيبون ينطقون بعفوية عند رؤية المنكر والظلم والاستبداد .. فيواجهون المتاعب من عيون ترصدهم هنا وهناك.
الطيبون يُظهرون نعمة الله عليهم بعفوية ودون تعالٍ ولا غرور، فيجدون حسداً حتى من أقرب الناس إليهم.
الطيبون وإن وجدوا قلة ونقصاً وضعفاً .. إلا أنهم يجدون بركة في المال والأهل والعيال والأوقات والأعمال .. ثمرة الرضى عن الله ذي القدرة والحكمة والجلال.
الطيبون يبحثون عن أمثالهم .. فيشارك الطيب طيباً مثله في البيع والشراء وفي النسب والزواج .. وصدق الله: “وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ” (النور: 26) .. وقد يبتلى الطيب بخبيث ينفث في وجهه أسوأ ما عنده .. اختباراً من الله تعالى ليخرج الطيب حينذاك أحسن ما عنده .. فالطيبون ليسوا طيبين في الظروف الطبيعية فحسب .. بل حتى في الظروف الصعبة والشائكة والاستثنائية أيضاً.
الطيبون نستأمنهم على أعراضنا وأولادنا وأموالنا وعقولنا وقلوبنا .. ونطمئن لوجودهم فهم مصدر أمان بعد الله لنا.
الطيبون يصلون ويصومون ويتصدقون ويدعون ويجاهدون .. ثم هم بعد ذلك كله يخافون من عدم القبول “وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ” (المؤمنون: 60).
الطيبون نجدهم عند الأزمات والملمات، ونفتقدهم عند المطامع والشهوات.
الطيبون ليسوا ملائكة ولا معصومين .. لكنهم بعد كل خلل وزلل يتوبون ويستغفرون ويندمون.. ولا يعودون .. “نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ” (ص: 30).
الطيبون هم الذين أنعم الله عليهم “مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا” (النساء: 69).
الطيبون هم رائحة الزمن الطيب .. فهم من الآباء والأجداد الذين عاشوا على الكفاف والعفاف ولم يمدوا أيديهم وأعينهم إلى الحرام.
الطيبون هم الذين آمنوا بالغيب دون تدقيق ولا تفتيش ولا تشويش .. إيمان العجائز.
الطيبون هم أولياء الله .. الذين إذا حضروا لم يُعرفوا وإذا غابوا لم يُذكروا .. أو إذا حضروا كان لحضورهم هيبة تجعل المجلس أقرب ما يكون إلى الطاعة وأبعد ما يكون عن المعصية .. وإذا غابوا حضرت الشياطين.
الطيبون يقيمون علاقاتهم على الله وبالله ولأجل الله .. لا على دنيا زائفة ومصالح زائلة.
الطيبون هم الذين تشعر عند لقائهم بانشراح الصدر .. وتشتاق لهم حتى قبل أن تفارقهم، وتحن إليهم عند فراقهم، وتشعر بالغربة عند موتهم .. ولا ينفك لسانك عن ذكر محاسنهم والدعاء لهم كما كان لسان حالهم “وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” (الحشر: 10).
إن من واجبنا نحو هذا النوع النادر من البشر ما يأتي:
1️⃣ أن نحرص على التشبه بهم.
2️⃣ أن نكتشف وجودهم قبل وفاتهم.
3️⃣ أن نحرص على خدمتهم واحترامهم.. وأن ندعمهم ونسند ظهورهم ونقوي ضعفهم.
4️⃣ أن نجالسهم وأن نستشيرهم وأن نتعلم من صمتهم وسمتهم.
5️⃣ أن نطلب دعاءهم .. وأن ندعو لهم.
6️⃣ أن نحكي للأجيال سيرهم وقصص طيبتهم وسمو أخلاقهم.
وختاماً :
هل نحن من هؤلاء الطيبين المشهودين عند أهل الأرض بطيب نفوسهم، وسعة صدورهم، وعفة ألسنتهم وعيونهم، وكريم سلوكهم .. وعند أهل السماء بمباهاة الله بهم كحال أولئك الذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: آلله! ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله! ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني؛ أن الله عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة” رواه مسلم.
اللهم اجعلنا من الذاكرين لك .. ومن المذكرين بك .. واكتبنا من عبادك الطيبين .. الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. ومن أولئك النفر ” الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (النحل: 32).
نقلاً عن: