خاص هيئة علماء فلسطين

         

الرد على مقال “أيها الساسة أوقفوا هذا المدّ”

18/11/2024

كتبه جماعة من أهل العلم في غزة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين المجاهدين، وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا مهجهم في سبيل هذا الدين، وعلى من سار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد،

فإنه قد صدر في الآونة الأخيرة مقال لشيخ جليل من علماء غزة بعنوان: “أيها الساسة أوقفوا هذا المدّ” توجه فيه توجهاً مخالفاً لجمهور أهل العلم في غزة وخارجها، ونقرّ بأن الخلاف أمر وارد حتى بين الأخيار؛ كما حصل بين الصحابة _ رضي الله عنهم _ وهو في ذاته خير؛ لأنه ابتلاء وتمحيص لهم ولغيرهم؛ هل يتبعون الحق أم يتجنّبوه؟؛ كما قال عمار بن ياسر t الملهَم عندما أقبلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بجيشها إلى البصرة فقام عمّار خطيباً لعلي _ رضي الله عنهم أجمعين _ فقال: “إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى البَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ e فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ، لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ” صحيح البخاري:6/2600، ونحن لا ننكر فضل هذا العالم الجليل، ولكن كل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم e، والكتاب والسنة هما المعيار عند الخلاف لمن أراد الحقّ كما أمر الله تعالى، والمهم مراعاة أدب الخلاف، وليس في نقدنا أيّ قصد للانتقاص من مقام الشيخ _ حفظه الله _ بل إننا نحبه ونجلّه ونحسن الظن به، ونرعى وده وسابقته، ولكنه ميثاق النصح والبيان الذي أخذه الله على أهل العلم، وقد نُصح الشيخ سرًا قبل الإعلان، ثم اضطررنا إلى هذا  الإعلان؛ لما أدى إليه المقال من آثار بالغة الضرر على المجاهدين في الميدان، وعلى مسيرة الجهاد المباركة بشكل عام، وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله، عليه توكلنا وإليه ننيب.

– لقد اشتمل المقال على مغالطات كثيرة متعلقة بالفقه، والسياسة، وتشخيص الواقع تشخيصاً متوازناً متجرداً عن العاطفة، ولكن أخطر ما في الأمر أن المقال قد يُفهم منه إسقاطُ الجهاد مطلقاً في الواقع الغزِّي، وتخطئة مساره أصلاً، والاستهانة بإنجازاته العظيمة عبر مشواره الطويل المبارك، رغم التضحيات التي لا بد منها في هذا الطريق، وليس الأمر متعلقاً بحرب الطوفان الأخيرة فقط، ومن هنا لزم الرد والتنبيه على هذا الخطأ الفادح الذي يمثل خطرًا كبيرًا على مسيرة الجهاد المباركة، ويأتي على أصولها وأساسها، ويفتُّ في عضد المجاهدين، ويشق صفهم لا سيما في هذا الظرف العصيب الذي أضحت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى قوتهم، وصلابتهم، وثباتهم، ورصِّ صفوفهم؛ للدفاع عن كرامتها بل عن كيانها وهويتها، ورأي الشيخ هذا معروف عنه قبل الحرب من زمن بعيد، وقد نشره في بعض المجلات العلمية، وصرح به في نطاق خاص، لكنه لم يستعلن به قبل هذه الحرب؛ لتمكُّنِ المجاهدين، وظهور آثار جهادهم الكثيرة الطيبة المباركة في غزة، كإخراج اليهود منها صاغرين، وتحرير الكثير من الأسرى، والعزة والكرامة التي أضفت على اسمها لقب “غزة العزة” وانتشار الأمن بشكل لا يكاد يوجد في مكان آخر، والأهم من ذلك كله أمران:

 الأول: حرية العمل الإسلامي الكبيرة في الدعوة، والإعداد للجهاد، وغيره، والتي لم تكن متاحة قط، ولا تكاد تتاح في أي مكان في العالم إلا نادراً.

 الثاني: وهو الأهم، أنّ هذا الجهاد أزالَ حالة الوهن والضعف والاستكانة أمام العدو، وأبقى جذوة هذه الفريضة الكبرى في قلب الأمة لاسيما في بيت المقدس وأكنافه حيةً مشتعلة؛ تقدمةً لنهضتها وقومتها وخلافتها الثانية الموعودة _ بإذن الله تعالى _ وهذه هي المهمة الأساسية لأهل فلسطين إلى أن يستنقذوا مع أمتهم المسجد الأقصى الأسير الذي هو مسؤولية الأمة جمعاء، وهذه هي المهمة التي فهمها وصرح بها شيخ المجاهدين الشيخ أحمد ياسين _ رحمه الله _ وقام بها حق القيام.  

فهذه الإنجازات العظيمة وغيرها هي أظهر من الشمس في رابعة النهار، ويشهد بها كل صادق عاش العصرين، على الرغم من الظروف الصعبة، والحصار الخانق الذي يحيط بالمجاهدين.  وعمومُ الناس يفرقون بين إنجازات الجهاد العظيمة وبين بعض إخفاقات السياسيين في ميدان السياسة والحكم، ولا يخلطون بينهما كما حصل مع الشيخ الكريم الذي يُستغرب منه جداً كيف لا يذكر إنجازات الجهاد تلك التي يعرفها ويقر بها عوام الناس، بل هو لا يتطرق إليها ولا يكاد يراها أصلاً، ولعله لشدة ما عرف من رقته وعطفه لم ير هذا الخير العظيم أمام بعض التضحيات التي قدمت لأجله، ولكن هل يريد فضيلته أن يحصل كل هذا الخير بلا ثمن؟! وهل يمكن ذلك أصلاً في سنن الله تعالى؟ فدفع الأثمان بل الأثمان الباهظة أحياناً لنيل بعض هذه الإنجازات حقيقة شرعية وعرفية عامة تواضع عليها كل العقلاء حتى الملحدين، فالحرية والكرامة أثمن عند الإنسان _ كإنسان _ من النفس والمال وسائر هذه الأثمان، فكيف بقيمة الدِّين عند المؤمنين؟ قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}البقرة:216، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} البقرة:155، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214، ولكن لما ظهرت هذه الأثمان وتفاقمت كثيراً في هذه الحرب بالذات تجرأ الشيخ على البوح والإعلان، ولم يلحظ تعانق السنن فيها وتداخلها، وأنه لعل ما يحدث إنما هو منتهى الإفساد والعلو الكبير الذي يؤول ببني إسرائيل إلى إساءة وجوههم، واستنقاذ الأقصى منهم، وزوالهم كما وعد الله تعالى، فيكون حلقة من حلقات الجهاد والرباط على طريق النصر، وهو في الوقت نفسه إعداد خاص لتحمل أعباء الخلافة التي هي على منهاج النبوة في بيت المقدس وأكنافه التي وعدنا بها النبي e بعد الحكم الجبري مباشرة، ولم يلحظ أن كلَّ ما يصيب المؤمن هو خير له إن صبر وشكر، كما أخبر الصادق المصدوق e ، وهذه مسألة مهمة في التعامل مع القدر  تردّ تذمر كثير من الناس _ ومنهم الشيخ حفظه الله _ من الجهاد؛ لأنه تسبب بهذه الحرب الشعواء المدمّرة، والحقيقة أنه لا ينبغي أن ننظر إلى الأحداث بمعزل عن حكمة الخالق سبحانه وتقديره؛ فإن الله تعالى لا يقدر للمؤمن إلا الخير لكن بشرط أن يقيم مراد الله تعالى في هذا القدر؛ فيقابله بالصبر أو الشكر؛ قال e : “‌عَجَبًا ‌لِأَمْرِ ‌الْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ” صحيح مسلم:4/2295. فالمطلوب في ابتلاء المصيبة الصبر، بغض النظر عن صورة الابتلاء أو سببه؛ فإنه في كل حال إذا صبر الناس كان هذا الابتلاء خيراً ورحمة لهم مهما كان سببه؛ فإن الله تعالى قد يبتلي بعضنا ببعض فيكون البلاء للطرفين معا،ً وتأمل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} الفرقان:20، والعاقل إنما يفعل ما ينفعه في الحال، ويبحث عن سبب الابتلاء ليصلحه، وينتفع بذلك، فإن لم يكن باستطاعته الإصلاح أو لا ينفعه البحث في السبب في الحال، فالأولى به ترك ذلك، أو تأجيله والانشغال في الحال بما ينفعه وهو الصبر، والاستعانة بالله تعالى، وهو ما يحصل معنا في غزة الآن؛ فإن هجوم السابع من أكتوبر هو فعل شرعي، وقيام بواجب الجهاد، لا غبار في ذلك عليه، وأصحابه مأجورون أجر الجهاد العظيم إن شاء الله، ولكن هل كان توقيت قراره خطأً في التقدير؛ لأنه تسبب في هذه الحرب المدمرة بعده، أو صواباً؛ لملابسات خاصة علم بها المجاهدون مثلاً؟ فهذه مسألة قابلة للنظر، ولكن هذا النظر، وتحميل اللوم ليس محله الآن في أثناء الحرب، وإنما يكون بعدها؛ لأنه لا ينفع شيئاً الآن، بل يضرّ؛ لأن الخلاف شرٌ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، ولأن المقصود في أثناء الحرب الوحدة وعدم التنازع الذي يؤدي إلى الفشل، وأما ما ينفع الآن، فهو الصبر، والجهاد، واجتماع الكلمة على دعم راية الجهاد، وهذا الذي سنُسأل عنه أمام الله تعالى، ولن يسألنا عن أخطاء الآخرين وإنما عن تقديم واجب النصيحة بشروطها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة:105، ويؤجَّل النقد والمحاسبة إلى ما بعد الحرب، لأن ذلك ينفع حينئذ فقط، وإذا كان أعداؤنا الكفار يفعلون ذلك فيتحدون عند الحرب، ويؤجلون خلافاتهم إلى ما بعد ذلك، فنحن أولى بالحكمة منهم، وقد قال نبينا e: “احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ” مسند أحمد: 14/395.   

– وينبغي في نهاية هذه المسألة أن ننتبه لنقطة مهمة وهي أن اللوم _ لو كان _ فإنما يكون على اجتهاد الساسة والمجاهدين في اختيار وقت المعركة، لا في أصل الجهاد؛ فإن الجهاد في ذاته ذروة سنام الإسلام؛ فهو خير محض، والخير لا يأتي إلا بالخير كما قال e : “إِنَّ الخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِالخَيْرِ” (متفق عليه)،

 وهو ما لمسناه في المصالح العظيمة التي جلبها لنا الجهاد _ كما سبق _ وأما الخطأ، فإنما يعتري البشر في اجتهاداتهم الإجرائية التي توظف الجهاد، وتحققه في أرض الواقع، فلا ينبغي الخلط بين الأمرين؛ فنذم الجهاد، أو نلغيه بسبب بعض أخطاء المجاهدين.

———–

وأساس الغلط عند الشيخ الكريم يكمن في ثلاثة أمور:

الأول: أنه حمّل الجهادَ نفسه بعضَ أخطاءِ المجاهدين في نظره، وأبرز المفاسد دون المصالح، وحكَمَ على الجهاد كلِّه من خلال الحرب الأخيرة فقط، ولم يميز بين مصالح الجهاد التي لا تحصى وبين بعض أخطاء المجاهدين أنفسهم _ كما سبق _.

الثاني: أنه خلط في مقالته بين مسألة توقيت معركة طوفان الأقصى، وبين حكم الجهاد في الحرب التي شنها اليهود بعد ذلك على غزة وأهلها.

فأمّا التوقيتُ فأمر يسوغ فيه النظر من حيث التوقيت لا من حيث أصل الفعل؛ لأن التوقيت أمر إجرائي يخضع للموازنة بين المصالح والمفاسد.

أما هو حكم الجهاد في الحرب الآن، فلا ينبغي الخلاف في حكمه؛ لأنه يرجع إلى أصل متفق عليه، كما سنبين إن شاء الله، وهو المهم الذي يمس الواقع ويحتاج إلى بيان.

الثالث: أنه خلط بين جهاد الطلب وجهاد الدفع، ولم يميز بينهما؛ فاختلط عنده التشخيص والحكم.

– ونحن لن نناقش الشيخ في المسائل الفرعية؛ كتوقيت معركة الطوفان، وكلام السياسيين الذي ذكرَه ونقدَه؛ لأن ذلك كله ليس هو بيت القصيد، مع إنكارنا لما جاء على ألسنة بعضهم _ كما ذكر الشيخ _ مما لا يوافق الحق؛ كتعميم الاتهام بالعمالة، والنفاق لمن يخالفهم الرأي، ونحو ذلك، وندعوهم إلى تحري الشرع في أقوالهم، وقراراتهم، وأفعالهم، وأخذ الدين بقوة كما أمرهم الله تعالى؛ فإن هذا هو حق اللواء الذي يحملونه، كما ندعوهم إلى بذل كل طاقة وجهد لإنهاء هذه الحرب؛ لحقن دماء المسلمين وأموالهم؛ فإن حفظ نفوس المسلمين أهم مقصد من مقاصد الشريعة بعد حفظ الدين عند العلماء دون وهن أو استكانة للأعداء.

وإنما سنركز على أصل المسألة ولبها الخاص بحكم الجهاد في الحرب القائمة الآن، والذي ينسحب على أصل حكم الجهاد في الواقع الغزي والفلسطيني المعاصر بشكل عام، ويكشف الشبهات التي أثارها الشيخ حوله،

———

فنقول مستعينين بالله تعالى:

أولاً: يقول الشيخ: “من شروط الجهاد الإيمان، وصلاح الأنفس” والشرط عند الإطلاق ينصرف إلى شرط الصحة والوجوب؛ لأنها المؤثرة في الحكم، وهو مقصود الشيخ؛ لأنه ذكر تأثير هذه الشروط في الحكم، وعلقه بها، وجعل تخلفها من موانع الجهاد.

والإيمان والصلاح ليسا من هذه الشروط؛ وإنما هما شرطا كمال فقط؛ فلا يؤثران في أصل الحكم، ولعل الشيخ لم يستحضر الفارق بين هذه الأنواع من الشروط، وإلا فقد كان ينبغي عليه _ وهو الأصوليّ القوي _ أن ينتبه لهذا ولا يعلق به الحكم، ولو كان الإيمان والصلاح شرطَيْ صحةٍ أو وجوبٍ، كما يقول الشيخ، لما صح الجهاد من أكثر الناس، ولما وجب عليهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف:103، وقد أمر الله الأعراب المسلمين بالجهاد، ولم يقبل منهم التخلف عنه، وذلك بمجرد الإسلام، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم بعد؛ قال تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ … }{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} التوبة:90-93، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ …} التوبة:120؛ فلم يشترط في المسلم إلا القدرة والغنى في هذا الجهاد الذي هو جهاد طلب هنا، ولم يشترط الإيمان والصلاح بحال، ولم يعذر الأعراب الذين لم يكمل إيمانهم بعد في التخلف عن هذا الجهاد، فجهاد الدفع أولى بذلك كما هو معلوم؛ لأنه أوسع، ثم إن الجهاد يُكمّل الإيمان والصلاح، فكيف يشترطان فيه؟!؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحجرات:15.

– وقد ذكر أهل العلم أنه يشترط لوجوب جهاد الطلب سبعة شروط، وذكروا فيها مجرد الإسلام (أي الظاهر الحاصل بالشهادتين دون الإيمان وصلاح النفس)، ولا نعلم أحداً اشترط الإيمان والصلاح قط إلا على سبيل الكمال؛ كالشجاعة ونحوها، كما أن الإيمان وصلاح النفس أمر خفي، لا تناط به الأحكام الشرعية العملية في الأصل، لا سيما الأحكام الوضعية كالشروط، والأسباب، والموانع ونحوها، فإنها متعلقة بأفعال المكلفين في الدنيا، وينبغي أن تكون ظاهرة؛ لتُعلم بها الصورةُ الشرعيةُ العملية المطلوبة، وكذلك الإخلاص، وقد ذكره الشيخ أيضاً من الشروط، ولا نعلم قائلاً به كذلك، وإنما هو شرط قبول في الآخرة عند الله تعالى فقط، ولا شأن له بالحكم الشرعي الوضعي، وأما شروط وجوب جهاد الطلب السبعة التي ذكرها علماء الأمة في مذاهبهم المعتبرة فهي: (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر المانع من القدرة، ووجود النفقة، وأضاف بعضهم: إذن الوالدين) ]انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (3/ 189)، القوانين الفقهية: ابن جزي (97)، ، المدخل: ابن الحاج (3/3)، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار: الحصني (499)، المغني: ابن قدامة (9/ 197)، الموسوعة الفقهية الكويتية (16/ 137)[.

– وقد ذكر الشيخ من الشروط “اجتماع الكلمة، ورصّ الصف“، ولا نعلم قائلاً به كذلك، بل هو شرط كمال وأفضلية أيضاً، فإذا تمكنت طائفة من قتال العدو شرع لها قتاله، ولا يضرها من خالفها كما ذكر النبي e في الطائفة المنصورة في الحديث المتفق عليه: “لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ“، وهو مقام مدح عظيم يستلزم الوجوب أو الاستحباب، وقد تتابع الأئمة _ رحمهم الله _ عند تقريرهم لعقيدة أهل السنة أن الجهاد ماضٍ مع كل بَرٍ وفاجر؛ فلا يجوز تعطيله أو تأخيره، ثم إن من مقاصد الجهاد جمع الكلمة، فكيف يكون ذلك شرطا في الجهاد؟!؛ إذ إن الله تعالى أمرنا عند الاختلاف أن نكون مع أهل الحق، ونجاهد معهم مّنْ خالفهم لجمع الكلمة؛ فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات:9، وقد جعل الله تعالى ترك حظ من الدِيْن سبباً رئيساً في الاختلاف والتفرق؛ فقال تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} المائدة:14، ويفهم منه أن القيام بأمر الله من أعظم أسباب الوحدة والألفة والبركة، فكيف بِذِروة سنام الإسلام وأعظم فرائضه بعد الأركان؛ ولذلك ما رأينا أحدا ذهب إلى رأي الشيخ هذا، بل كل المصلحين المجاهدين في تاريخ الإسلام إنما قاموا بالإصلاح وواجب جهاد الأعداء والكفار في أثناء الفرقة والخلاف في الأمة، ولم ينتظروا اجتماع كلمتها، فلم ينكر عليهم أحد، وأثنى عليهم العلماء جميعاً، بل كان عملهم هذا من أعظم أسباب وحدة الأمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جامع الرسائل(5/300): “ومتى جاهدت الأمة عدوها ألَّفَ الله بين قلوبها، وإنْ تركت الجهاد شغل بعضَها ببعض”.

– وذكر “تأهيل الجند، وقوة الشوكة، وتأمين الأجناد” وهو شرط وجوب صحيح، وهو داخل في شرط القدرة والغنى الذين ذكرهما العلماء، وهو متحقق في الواقع بقدر الإمكان _ بخلاف ما يدل عليه كلام الشيخ _ ويشهد بحسن التأهيل، وقوة الشوكة والبأس، وسداد الخطط في الهجوم والتأمين برغم الظروف الصعبة عند المجاهدين القاصي والداني، وأهل الخبرة من المحلِّلين العسكريين وغيرهم، حتى قال بعضهم: إنهم مذهلون واستثنائيون في ذلك بفضل الله تعالى وكرمه.

وأما البعد عن البيوت، والأماكن المأهولة، فهو شرط صحة صحيح، والمقصود منه _ كما في إنكار المنكر عموماً _ ألا يترتب على الجهاد مفسدة أكبر من المصلحة التي قد يجلبها من ردّ العدو، أو الإثخان فيه، ونحوه، وهذا أيضا متحقق بقدر الإمكان، ويحرص عليه المجاهدون جداً، نعم قد يقع من بعض الأفراد أو المجموعات خطأ هنا وهناك، ولكن يؤخذ على الشيخ الكريم أنه فصّل هذا الشرط، وسائر الشروط التي ذكرها على مقاس المفاسد التي يراها في حرب غزة، والأخطاء التي يراها عند المجاهدين؛ حتى إنه ذكر ما ليس بشرط صحيح، وأغفل الشروط الصحيحة المتحققة فيهم؛ ليوافق غرضه، ويثبتَ أن شروط الجهاد متخلفةٌ فيهم، وهذا مستغرب جداً من مثله حفظه الله.

– ونحن لا ننزه المجاهدين عن الخطأ، ولكن نستهجن هذه القسوة الشديدة من هذا العالم الجليل على أبنائه المجاهدين برغم ما عُهد عنه من الرحمة والشفقة، وكان المتوقع منه أن يشملهم بحنانه الأبوي، ويوجههم وينصحهم، ويصبر عليهم، ولا يظلمهم، ويثني على ما قدموه من خير وبذل وتضحية، وهو عظيم جداً، وأعظم بكثير من أخطائهم التي لا يتعمدونها، والتي لا بد منها في ظل الظروف الصعبة التي يعملون ويعيشون فيها؛ فهم الذين يدافعون عن ديننا وأرضنا وأعراضنا، ويبذلون في ذلك دماءهم وأهلهم وأموالهم، ويحملون أرواحهم على أكفّهم، لا يبغون إلا ما عند الله، ولا يريدون منا جزاء ولا شكورا، وقد أرانا الله تعالى من إعزازهم وإعانتهم وتثبيتهم ما كان سبباً في إسلام كثير من كفار الغرب، ورفع همم المسلمين، ولولا دفع الله تعالى بهم الكفار لجاسوا خلال ديارنا، وأساؤوا وجوهنا، وأذلوا جباهنا، وانتهكوا أعراضنا، واستباحوا حرماتنا، وكسروا بيضتنا، وأهلكوا الحرث والنسل، وإنّ من يعرف حقيقة اليهود، وعقائدهم، وعلوهم وإجرامهم وإفسادهم الكبير في الأرض، وحربهم الدينية معنا في ظل حكومتهم اليمينية المتطرفة، يعلم حقيقة ما ذكرناه، وحقيقة قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} البقرة:120، وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} البقرة:217، ثم نأتي بعد ذلك لنبطل جهادهم العظيم، ونشكك فيه ببعض شروط وإسقاطات غير دقيقة!؟، فغفر الله للشيخ الحبيب الكريم، وأنار بصيرته، فلعله غلب عليه التوجع لعظم المصائب، ولم يعرف حقيقة ما يقدمه ويعانيه المجاهدون الذين يضحون بالدم وينحتون في الصخر بأظافرهم جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

– هذا وإنّ فتنة استيلاء الكفر ورايته أشد من القتل وإزهاق الأنفس، ومن هدم البيوت، وغيرها مما هو أدنى من الأنفس من باب أولى؛ قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} البقرة:191، وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} البقرة:217، والفتنة هنا بمعنى الشرك والكفر عند السلف كما ذكر الطبري وابن كثير وغيرهما.

– والأهم من هذا كله أنّ شروط الشيخ، واستدلالاته، وكلامه كلّه إنّما هو في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع، فلم يشترط له العلماء شرطاً إلا مجرد الإمكان مع الإسلام، والبلوغ والعقل، والإمكان موجود بفضل الله تعالى عندنا في المجاهدين وقد أعدوا أنفسهم إعداداً جيداً لمثل هذا.

– والشيخ الكريم أخطأ في تشخيص الحال في غزة؛ إذ يحمل الحرب فيها على جهاد الطلب، وهو أمر مخالف للواقع المعاين، وأما اعتماده على هجوم السابع من أكتوبر في اعتبار الحرب كلها من جهاد الطلب، ومن ثَمَّ تخطئة هذا الهجوم وما تلاه من الجهاد كله، فهو مجانب للصواب من وجهين:

الأول: أن هجوم أكتوبر في ذاته هو من جهاد الدفع لا الطلب؛ لأن الواقع أن اليهود يحاصرون غزة، ويحتلون جوها وبحرها وغلافها من قبل فهي محتلةٌ في الواقع، فطردهم منها واجب وهو من جهاد الدفع، ونحن وإن كنا نسوغ الخلاف في الحكم على توقيت الهجوم من حيث الخطأ والصواب؛ لأنه محل نظر؛ لكثرة المفاسد المترتبة عليه وكثرة المصالح المجتلبة أيضا، فإنّ الخلاف في مشروعية أصل الفعل لا يسوغ؛ لكونه من جهاد الدفع الواجب عيناً في الأصل.

الثاني: أن الأمر تجاوز هذا الهجوم أي: السابع من أكتوبر، والحرب أُعلنت من بعده من طرف اليهود، وكان من أهدافها المعلنة: الهجوم على غزة، والقضاء على مقاومتها ومجاهديها، وتهجير أهلها؛ فصار الجهاد جهاد دفع قطعاً دون أدنى شك، ولا يشترط فيه غير ما ذكرناه فقط، ولو كان عدد الكافرين وقوتهم أضعاف المسلمين:

– قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 359): “وَهَذَا (أي: جهاد الدفع) يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِي تَرْكِهِ لِأَحَدِ كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ الَّذِي قَسَمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ. بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ e {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا} الأحزاب:13. فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفَسِ وَهُوَ قِتَال اضْطِرَار وَذَلِكَ قِتَال اخْتِيَار لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ كَغزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا”.

وقال كما في المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 215): “دفعُ الصائل عن الحرمة والدين واجبٌ إجماعًا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابُنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر، وبين طلبه في بلاده”.

وقال في الفتاوى الكبرى (5/ 539): “وَإِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إذْ بِلَادُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ النَّفِيرُ إلَيْهِ بِلَا إذْنِ وَالِدٍ وَلَا غَرِيمٍ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ صَرِيحَةٌ بِهَذَا.. لَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَكَانِ النَّفِيرُ إذَا نَفَرَ إلَيْهِ الْكِفَايَةُ كَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ مُخْتَلِفٌ، وَقِتَالُ الدَّفْعِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ كَثِيرًا لَا طَاقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ لَكِنْ يُخَافُ إنْ انْصَرَفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ عَطَفَ الْعَدُوُّ عَلَى مَنْ يُخَلَّفُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُنَا قَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَبْذُلُوا مُهَجَهُمْ وَمُهَجَ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ فِي الدَّفْعِ حَتَّى يَسْلَمُوا، وَنَظِيرُهَا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَكُونَ الْمُقَاتِلَةُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ فَإِنْ انْصَرَفُوا اسْتَوْلَوْا عَلَى الْحَرِيمِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قِتَالُ دَفْعٍ لَا قِتَالُ طَلَبٍ لَا يَجُوزُ الِانْصِرَافُ فِيهِ بِحَالٍ وَوَقْعَةُ أُحُدٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ”. وقال الإمام ابن قيم الجوزية: “قتالُ الدفع أوسعُ من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كلِّ أحدٍ، يجاهد فيه العبد بإذن ‌سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم ‌بغير ‌إذن غريمه، وهذا كجهاد المسلمين يوم أُحد والخندق، ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدوُ ضِعْفَي عدد المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أُحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ ‌جهادُ ضرورةٍ ودفع، لا ‌جهادَ اختيار” (الفروسية،188)

– وقال ابن قاسم في حاشيته على الروض المربع (4/ 257): “يجب عليه (إذا حضر بلده عدو) الجهادُ عينًا إن لم يكن عذر بلا نزاع، وإن كانت المقاتِلةُ أقلَّ من النصف، فإنهم لو انصرفوا استولوا على الحريم، وهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال”.

– وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج في شرح المنهاج (9/ 235): “فَإِنْ دَخَلُوا (بَلْدَةً لَنَا) أَوْ صَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ كَانَ خَطْبًا عَظِيمًا؛ (فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا) عَيْنًا (الدَّفْعُ) لَهُمْ (بِالْمُمْكِنِ) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطَاقُوهُ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: (فَإِنْ أَمْكَنَ تَأَهُّبٌ لِقِتَالٍ) بِأَنْ لَمْ يَهْجُمُوا بَغْتَةً (وَجَبَ الْمُمْكِنُ) فِي دَفْعِهِمْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، (حَتَّى عَلَى) مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْجِهَادُ نَحْوُ: (فَقِيرٍ) بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (وَوَلَدٍ وَمَدِينٍ وَعَبْدٍ) وَامْرَأَةٍ فِيهَا قُوَّةٌ، (بِلَا إذْنٍ) مِمَّنْ مَرَّ، وَيُغْتَفَرُ ذَلِكَ بِهَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا سَبِيلَ لِإِهْمَالِهِ … (وَإِلَّا) يُمْكِنْ تَأَهُّبٌ لِهُجُومِهِمْ بَغْتَةً (فَمَنْ قصد) مِنَّا (دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمُمْكِنِ)”.

ثانياً: وأما مقاصد الجهاد فقد ذكر الشيخ “أنها تدور حول دفع الأخطار، وتحقيق مصالح الناس الدينية والدنيوية“، وهذه المقاصد صحيحة بعد التمكين؛ للمحافظة عليه، أما قبله وفي جهاد الدفع، فإن المقصد الأساس هو عدمُ تمكين راية الكفر وكلمتُه من الاستيلاء والعلو، ولو كلفنا ذلك الأرواحَ والأموال، ولا يجوز ترك جهاد الكفار ومدافعتهم في هذه الحال إن ظننا أنه يمكننا ردهم ودفعهم عنا، ولو كلفَنَا ذلك ما كلَّفَنَا؛ فإن مصلحة الدين أكبر من أي مصلحة باتفاق، والفتنة أكبر من القتل _ كما مر _ وفي واقعنا الغزي يغلب على ظننا أننا نستطيع رد اليهود، وطردهم من القطاع؛ لما نراه من معية الله تعالى وعونه للمجاهدين، ولأن لنا سابقة قبل ذلك في طردهم والانتصار عليهم في أحداث وحروب سابقة، ولأن رباطنا على حدود عسقلان وفي غزة التي هي من قضائها في الأصل هو خير الرباط، كما أشار إليه الحديث الصحيح، ويكفي أن الله تعالى قد تكفل بالشام وأهله كما في الحديث الصحيح أيضاً؛ فيجب الثباتُ في غزة مهما كلف ذلك من أمر، والموتُ في سبيل الله تعالى، وفقد الأهل والأموال، وكل ما ذكره الشيخ من مصائب أهون بألف ألف مرة من ترك الجهاد، وانكسار راية الإسلام في غزة العزة، وإذلالها واستباحتها، وهي التي تمثل خط الدفاع الأول عن الأمة بأسرها، وبوابة تحرير المسجد الأقصى الأسير قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} التوبة:24.

– كما أن كلام الشيخ الكريم في أهم مقصد من المقاصد الكلية بشكل عام، وأهم مقصد من مقاصد الجهاد بشكل خاص وهو حفظ الدين كلام مشوش، وهو مستغرب منه أيضاً كأصولي متين؛ ذلك أن الشيخ يركز في كلامه على مقصد حفظ النفس، ويجعله الأساس، ثم يجعل مقصد حفظ الدين تبعاً لها، فلا يُحْفَظ إلا بحفظها، فحصَرَ حفظ الدين في ذلك، وتجد ذلك واضحا في تعبيراته؛ كقوله مثلا: “من مقاصد الجهاد تحقيق مصالح الناس الدينية والدنيوية“، “الجهاد ما شرع إلا لحفظ النفس ومصالحها الدينية والذاتية“، “سلامة الأنفس مع سلامة عقائدها وأخلاقها وعافية أبدانها ونفوسها هي المقصد الأسمى في شرع ربنا وينبغي ألا يصار إلى الجهاد إلا على أرجحية حصولها” اهـ. وتقديمه الدينية على الدنيوية لا يعفيه من ذلك؛ لأنه يجعل الكل تابعاً للحفاظ على النفس، وهو مناقض لكلام العلماء وفهمهم، والصواب أن العلماء مجمعون على تقديم مقصد حفظ الدين على حفظ النفس من حيث الأصل أي: إن حفظ الدين ورايته مقدم، ولو أدى إلى إزهاق النفوس، ويمثلون له بتشريع الجهاد؛ فإنه لأجل الدين تزهق النفوس؛ قال العزّ بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 111): “الْمُخَاطَرَةَ بِالنُّفُوسِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ مَأْمُورٌ بِهَا … وَقَدْ قَالَ عليه السلام: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . جَعَلَهَا أَفْضَلَ الْجِهَادِ لِأَنَّ قَائِلَهَا قَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ كُلَّ الْجُودِ، بِخِلَافِ مَنْ يُلَاقِي قِرْنَهُ مِنْ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْهَرَهُ وَيَقْتُلَهُ فَلَا يَكُونُ بَذْلُهُ نَفْسَهُ مَعَ تَجْوِيزِ سَلَامَتِهَا، كَبَذْلِ الْمُنْكِرِ نَفْسَهُ مَعَ يَأْسِهِ مِنْ السَّلَامَةِ”.

– وكلام الشيخ وتنظيره، فيه غفلة مستغرَبَة من مثله _ على فضله وتقواه _ عن المقصود الأعلى والأساس للجهاد، وهو الذي نص عليه النبي e في قوله في الحديث المتفق عليه: “مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ الله“، فهو التجرد التام عن النفس، ومصالحها التي اشتراها الله من المجاهد بالجنة، لا بالمصالح الدنيوية، بل لمجرد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى في الأرض، ولو أدى ذلك إلى الهجوم على الأخطار والمكاره، وإلى نقص الأموال والأنفس والثمرات، فإن ذلك من البلاء الملازم للجهاد بشكل عام، ولا تتم حقيقة الجهاد والمجاهدة إلا به؛ قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214، وقال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} الأحزاب:22، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة:216-217؛ فما ينبغي الاستكانة والركون إلى الدّعة، وإيثار السلامة بحجة أن من مقاصد الجهاد دفع الأخطار، وحفظ النفوس؛ لتحقيق مصالحها قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران:146، وفي قراءة سبعية (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّوْنَ كَثِيْرٌ) وذلك أن مصلحة الناس الحقيقية هي في اتباع أمر الله بالجهاد، وإن فوَّت عليهم بعض المصالح الآنية، وأزهق منهم النفوس، فهلاكهم الحقيقي وموت أرواحهم بالذل والاستعباد هو في ترك أمر الله بالجهاد، وإنْ دفع عنهم بعضَ الأخطار، وحقق لهم بعض المصالح الآنية قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} البقرة:216.  

ثالثاً: وأما دعوة الشيخ إلى ترك الجهاد في فلسطين حتى تحقيق فهم الدين في صدور المؤمنين، وتوثيق صلتهم برب العالمين، وترسيخ ملائكية التعامل، فهي دعوة إلى ترك الجهاد مطلقاً في الواقع؛ لأنه يصعب جداً أن نصل إلى هذه الملائكية في المجتمع، بل يكاد يستحيل ذلك في ظل الهجمة الشرسة على الإسلام وأخلاقه التي وصلت إلى كل بيت من خلال الوسائل الحديثة، وفي ظل الهجمة على الدعاة، وتكميم أفواههم، وتقييد حرياتهم، ومحاربتهم بشتى الوسائل، ولنا في الحركات الإسلامية من حولنا خير دليل ومثال، وهي التي لها الباع الطويل المديد في الدعوة والإرشاد، ونحن لا نقلل أبداً من شأن التربية الإيمانية وعظيم أهميتها، وكونها من أهم أسس الإعداد، ولكنها كالإعداد للجهاد يكتفى فيه بالوصول إلى درجة إمكان الجهاد، وتحقق أصل شروطه التي ذكرناها سابقا دون كمالها بالاتفاق، وكذلك الإعداد الإيماني؛ لأنه من صور الإعداد، وهذا متحقق في الواقع الغزي، ونراه واضحاً في فكر المجاهدين ومنهج شيخهم الشيخ أحمد ياسين _ رحمه الله _.

– كما أن ذلك مخالف للمنهج الرباني والنبوي الذي يسير بالاتجاهين معا في خطين متوازيين؛ إذ لا تعارض بينهما أي: بين الدعوة والتربية وبين الجهاد عند الإمكان، بل يجعل الجهاد من أسس الإيمان، وأهم أسباب التربية، لأن التربية والدعوة في ظل الجهاد لها أعظم الأثر وأبلغه في النفوس؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت:69، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} النور:62.

كما أننا الآن في حال اضطرار ودفع ، كما ذكرنا مرارا ، فلا يَرِدُ هذا الكلام الآن أصلاً.

رابعاً: قوله: “فإذا تحققت ولاية الإنسان لربه، وغابت عنه أسباب القوة المؤهلة لدفع أخطار عدوه، فحسبنا الله القوي المتين” ألا يُخشى أن يكون هذا من التواكل، والاستكانة شيخنا الحبيب؟! أليس هذا هو بالضبط ما يريده العدو منا؟! أليس هذا قريباً من الفكر الانعزالي الذي يدعو إلى إصلاح القلوب ويترك الإعداد للجهاد وتحقيق القوة أو يؤجله، والذي كان يحرص عليه الاحتلال البريطاني من قبل، ويدعمه في مستوطناته ـ بل لعله هو الذي اصطنعه أساساً ـ ثم اتبعه في ذلك سائر المحتلين الماكرين؟! فأين قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} الأنفال:60، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} التوبة:38-39 وقوله e: “مَا ‌تَرَكَ ‌قَوْمٌ ‌الْجِهَادَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ” الطبراني في الأوسط 148:4 وصححه الألباني، وقوله e: “ من مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ” صحيح مسلم:3/1517

وقوله e “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِيْنَةِ وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَر، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلّاً لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوْا إِلَى دِيْنِكُمْ ” أبو داود:3462، فجعل الجهاد هو الدين.

أليس الإعداد، وجهاد الأعداء، وفعل الواجب من طردهم ودفعهم هو من أسس الولاية والإيمان، وهو عنوان الطائفة المنصورة الباقية إلى آخر الزمان في الشام؟

ثم إن المجاهدين قاموا بفضل الله تعالى بالإعداد المستطاع _ وهو كثير _، ولم تغب عنهم أسباب القوة المؤهلة لدفع العدو، وتشهد بذلك قوة بأسهم، وإثخانهم، والإمداد الإلهي لهم في الميدان؛ فوجب عليهم الجهاد مع التوكل على الله، وصار تركهم له _ توكلاً على الله في زعمهم _ إنما هو من التواكل، والاستكانة في حقيقة الأمر.

خامساً: يبقى السؤال المهم: ما هو البديل عن الجهاد في رأي الشيخ؟ ويجيب فضيلته بأن البديل هو منح فرصة لحكومة أبوية إنسانية غير حزبية تجمع الناس حولها، وهذا _ على حد قوله _: “أمضى سلاح في تعجيل الفرج ودفع الحرج” وفي الحقيقة ما هذا إلا عين الوهم والسراب، والله سبحانه قال _ وهو أصدق القائلين _: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} البقرة:105، وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} البقرة:120، وهؤلاء اليهود المتطرفون لم يرضوا حتى عن محمود عباس وحكوماته، فكيف يرضون بحكومة أبوية صادقة تعمل لمصلحة الناس إلا أن يكون ذلك بالجهاد والضغط والإكراه؟!.

وعلى فرض إقامة هذه الحكومة، فإن من يُرشح لها من أيّ فئةٍ كان يجب عليه أن يرعى مصالح الجهاد فيما يرعى من الأحكام والمصالح، وهذا لا يمكن أن يرضي اليهود.

سادساً: وأما استدلاله على ترك الجهاد بحديث النبي e ” ‌لَا ‌يَنْبَغِي ‌لِلْمُؤْمِنِ ‌أَنْ ‌يُذِلَّ ‌نَفْسَهُ”، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قًالَ: “يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُهُ” ابن ماجه:845، فليس في محله؛ لأنه إما أن يراد به غير الجهاد، أو مَن لا يقدر على الجهاد في حال الاختيار دون الاضطرار، وغزة عندها القدرة على الجهاد، ومضطرة إليه بحيث تمنع الذل الحقيقي عن نفسها وهو الاستسلام للعدو المجرم،

 – قال العلامة علي القاري _ رحمه الله _ في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1739): “أي: لا يجوز للمؤمن أن يذل نفسه أي: باختياره“.

 – وقال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في جامع العلوم والحكم: “فإن خافَ (الناهي عن المنكر) السَّبَّ، أو سَماعَ الكلامِ السَّيء، لم يسقط عنه الإنكار بذلك نصَّ عليه الإمام أحمد، وإن احتمل الأذى، وقوِيَ عليه، فهو أفضل، نصَّ عليه أحمد أيضاً، وقيل له : أليس قد جاء عن النَّبيِّ e أنه قال : “ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه” أن يعرّضها مِنَ البلاء لما لا طاقة له به، قال: ليس هذا من ذلك، ويدلُّ على ما قاله ما خرَّجه أبو داود وابن ماجه والترمذيُّ من حديث أبي سعيد t عن النَّبيِّ e ، قال: “أفضلُ الجهاد كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ“، وفي مسند البزار عن أبي عُبيدة بن الجراح، قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الشُّهداءِ أكرم على الله؟ قال: “رجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ، فأمره بمعروفٍ، ونهاه عن المُنْكرِ فَقَتَلَهُ“، وأما حديثُ: “لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه“، فإنَّما يدلُّ على أنَّه إذا عَلِمَ أنَّه لا يُطيق الأذى، ولا يصبرُ عليه، فإنّه لا يتعرَّض حينئذٍ للأمر، وهذا حقٌّ، وإنَّما الكلامُ فيمن عَلِمَ من نفسه الصَّبر، كذلك قاله الأئمَّةُ، كسفيانَ وأحمد، والفضيل بن عياض وغيرهم” اهـ.

– وكل من ذاق حلاوة الإيمان، وعزة الجهاد التي هي الحياة الحقيقية، علم أن هذا الحديث إنما هو دليل على الشيخ لا له؛ فإن المؤمن الحق يرى الذل كل الذل في الاستسلام للكفار، وكسر راية الإيمان كسراً يصعب تداركه، وهو البلاء الأليم الطويل الذي لا يطيقه حقاً، وكل ما دون ذلك فهو أهون عليه ما دام فيه رمق وقدرة وإمكان، وهذا هو الفهم الأقرب إلى فهم الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – كما ورد عن سعد بن الرَّبيع رضي الله عنه في غزوة أحد _ بعد البلاءات والجراحات والتقتيل الذي أصابهم _ عندما أرسل إليه النبي e يسأله عن حاله وهو في الرمق الأخير، فقال: “‌قُلْ ‌لَهُ: ‌يَا ‌رَسُولَ ‌اللَّهِ، ‌أَجِدُنِي ‌أَجِدُ ‌رِيحَ ‌الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رحمه الله” الحاكم في مستدركه :3/221 وصححه ووافقه الذهبي، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن المشركين لما رَهِقوا النبي e في أحد، وهو في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، قال: “مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟” فجاء رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلما أرهقوه أيضا، قال: “مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟” حتى قُتل السبعة. مسند أحمد: 2/443، ونحن نرجو لهؤلاء المجاهدين الذين يذبون عن راية الإسلام في غزة التي هي بوابة الأقصى الذي هو في قلب الأمة في هذه الظروف العصيبة أن يكونوا رفقاء نبيهم في الجنة، وندعو لهم، وللصابرين المرابطين من عموم شعبنا بذلك.

– كما أن الصبر على بلاء الجهاد محدود إلى أجل قريب بإذن الله، فنحن موعودون بالنصر، بل بالخلافة الراشدة في هذه الأرض المباركة بإذن الله، وموعودون بانطفاء نار حرب اليهود إذا أوقدوها.

سابعاً: إنكار الشيخ على من يستشهد بحادثة أصحاب الأخدود على صحة الجهاد في سبيل الله ولو ترتب عليه إزهاق النفوس (بحجة أن ذلك من شرع من قبلنا وفيه خلاف) غير سديد؛ لأن محل الخلاف هو فيما لم يقره الشرع، أما لو أقره، فيصير شرعاً لنا باتفاق، وذِكْرُ النبيِّ e لقصتهم على سبيل المدح والاقتداء يفيد الإقرار، ثم إنّ تداعيات هذه الحرب لم تناقض مقاصد حادثة الأخدود كما يدعي الشيخ، واستدل بما ظهر في هذه الحرب من تراجع في دين البعض، وأن حادثة الأخدود كانت سبباً في الإيمان والثبات على الدين؛ فإن تمحيص الإيمان وثبات المؤمنين قائم فيهما، ولا يضر ظهور متخاذلين في هذه الحرب كما حصل في الخندق وأُحدٍ مع رسول الله e فلا تناقض، كما أن الغلام في قصة الأخدود كان قصده أن يؤمن الناس، وهي مصلحة دينية، وقد نجح في ذلك، وأما المجاهدون هنا، فقصدهم أن يردوا العدو ويمنعوه من كسر راية الجهاد، وهي مصلحة دينية أيضا، وقد نجحوا إلى الآن في ذلك، وسينجحون إلى النهاية بإذن الله، فلا تناقض في المقاصد، كما أن تداعيات هذه الحرب لم تناقض مقاصد حادثة الأخدود كما يقول الشيخ؛ لاختلاف المقاصد فيهما.

– وأما الإبادة الحاصلة عندنا، فقد كانت في حادثة الأخدود أعمّ وأصعب، وكانت التضحية هناك أكبر؛ لأنها كانت اختيارية، ومن هنا صح الاستشهاد بحادثة الأخدود على جواز بذل النفوس من أجل الدين كما يحصل في هذه الحرب، وتكون حادثة الأخدود هذه دليلاً على الشيخ في تقديم مصلحة الدين على النفس، ولو أدى ذلك إلى هلاكها ، كما مر سابقاً، وهذا ما ذكره الأئمة: قال ابن تيمية _ رحمه الله _: “وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي e قصة أصحاب الأخدود، وفيها: أن الغلام أَمَرَ بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوَّز الأئمةُ الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين”. مجموع الفتاوى (28/540)

وأي مصلحة أكبر من مصلحة دفع العدو الصائل المجرم وعدم انكسار راية الإسلام والجهاد في غزة؟

ثامناً: استشهاده بقول شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _: “فلا أرى أعظم ذمّاً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين …” ليس في محلّه أيضاً؛ فإنه يجب التفريق _ كما سبق _ بين قرار عملية الطوفان نفسها من حيث التوقيت؛ فهذا أمر اجتهادي قابل للنظر، وقد يقبل فيه هذا الكلام أو يرفض بحسب النظر، وتجرد النقد والمحاسبة، ولكن ليس هذا هو الوقت المناسب للنظر فيه؛ لأنه أمر قد انتهى، ولا يفيد الكلام فيه الآن _ كما مر _ وبين قرار المجاهدين بالجهاد دفاعاً عن غزة بعد شن اليهود الحرب عليها، وعدم الاستسلام برغم التضحيات الجسام، وهو قرار وواجب شرعي بامتياز لا ينبغي الخلاف فيه، وهو محل حديثنا، وهو ما يهم واقعنا الآن، والشيخ غفر الله له يخلط بين الأمرين، ويسقط حكم عملية الطوفان على نازلة الحرب بعدها في أغلب كلامه، فتختلط الأحكام؛ لأنهما حادثتان مختلفتان لكل منهما ملابساتها الخاصة، ولو أنه ميز بينهما، وميز كذلك بين جهاد الطلب وجهاد الدفع، لاستبان له الحق، وانكشف الوهم.

– كما أن في كلامه عند الاستدلال شيئاً من الظلم للمجاهدين في تضخيم الأخطاء، وعدم الإعذار في ظل الواقع الصعب الذي يعملون فيه، وعدم رؤية الحسناتِ العظامَ والتضحيات الجسام، بل وفيه ترديد وترسيخ لكلام الأعداء دون تمحيص للأسف؛ كقوله: “إن المجاهدين يتخذون أهل القطاع سترة يتقون بها ضراب عدوهم دون اكتراث لحجم الكارثة الناشئة عن ذلك“،

 وهذا فيه تجن كبير على المجاهدين الذين يعملون كل ما بوسعهم لتجنيب المدنيين أي خسارة؛ فهم إخوانهم وآباؤهم وأبناؤهم وعشيرتهم، ويتألمون لألمهم، فكيف يظن بهم هذا الظن، وكان الأولى بالشيخ أن يتذكر قول ربه سبحانه في أمثال هؤلاء الذين هم أولى الناس بالصدق والإيمان: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * … وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} النور:12-16.

– وقوله كذلك: “إن المواجهة مع عدوهم خاسرة على الدوام، وإن جهادهم لم يحقق أي هدف من أهداف الجهاد المعلنة، وإن قتالهم مبني على أوهام مثل أن عدونا لا يطيق حربا مفتوحة، ولا يطيق شعبهم الاختباء مدة طويلة، وسيتضرر اقتصادهم، وستثور الشعوب، ونحو ذلك” والحقيقة أن هذه كلها مغالطات نعجب من صدورها من مثله _ غفر الله لنا وله _ فالانتصارات في الانتفاضات والحروب السابقة شهد بها العدو قبل الصديق، ويكفي أنها أخرجته من غزة يجرّ أذيال الخيبة، وهذا أعظم انتصار في ذاته بعد أن كان يقول كبيرهم: “إن نتساريم كتل أبيب“، وكسرت إرادتهم، فلم يستطيعوا تحقيق أهدافهم المعلنة في كل الحروب السابقة، وانسحبوا من غزة مدحورين، ولم تنكسر المقاومة، بل استطاعت أن تفرض إرادتها في كثير من الأحيان، وأخرجت الكثير من الأسرى، كما أن أهم هدف من أهداف الجهاد هو ألا تنكسر راية الجهاد في غزة وإبقاء جذوته التي تحيا بها الأمة، وألا يتمكن اليهود من تحقيق أهدافهم من كسر المقاومة، واسترداد الأسرى، وقد تحقق ذلك بفضل الله تعالى أولاً، ثم بفضل ثبات المجاهدين أكثر من عام كامل، ولكن الشيخ للأسف الشديد يظن أن الهدف الأسمى للمجاهدين هو “أن تتصدر قضية فلسطين قضايا العالم” كما يقول، وهو فهم بعيد جداً عن الحقيقة والواقع، مع أن هؤلاء المجاهدين هم إخوانه وأبناؤه، وكان بإمكانه أن يفهم منهم الوقائع، ويطلع على الحقائق، وسيعلم حينئذ أنهم لا يبنون قتالهم على أوهام بل على حقائق القرآن، وأنهم لا يعولون إلا على الله ووعده، وأن أسمى أمانيهم وأهدافهم هو رفع لواء الله، والموت في سبيله.

ثم إن الشيخ حفظه الله لم يلتفت إلى المصالح التي ترتبت على معركة طوفان الأقصى وهي كثيرة وعظيمة والتي منها: إحياء فريضة الجهاد ضد هذا الاحتلال الغاصب لمسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة القضية الفلسطينية للصدارة بعد أن أريد لها التصفية، وإيقاف أو إبطاء مسار التطبيع، وكسر هيبة العدو وتحطيم صورة الجيش الذي لا يقهر، والنكاية بالعدو وتهجير المستوطنين من الجنوب والشمال، والهجرة العكسية خارج الكيان، وضرب اقتصاده، وبعث الأمل في الأمة بتحرير فلسطين، وتشجيع الشعوب المسلمة على الانخراط في معركة التحرير، ولا ننكر ما وقع من مفاسد عظيمة من استشهاد عدد كبير الناس، وفي مقدمتهم قيادات كبيرة في المقاومة، وجرح وإصابة أعداد كبيرة أيضاً، وما حصل من تدمير للبيوت والمستشفيات والمدارس وغيرها من المفاسد، ولا يصح النظر إلى جانب المفاسد دون موازنته بما تحقق ويتحقق من مصالح.

– ونحن لا نقلل أبداً من حجم المعاناة، والتضحيات التي يعيشها القطاع وأهله الكرام، ولكن ينبغي ألا ننسى أن ذلك كله منهم جهاد عظيم في سبيل الله تعالى، وأنهم في أعظم المقامات عند الله تعالى بالمرابطة والمصابرة والاحتساب رجاء ما عند الله، والله لن يضيع ذلك لهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (قاعدة في المحبة، ص149):

 “وَهَذَا يتَبَيَّن بأصلين؛ أَحدهمَا: أَن حُصُول النَّصْر وَغَيره من أَنْوَاع النَّعيم لطائفة أَو شخص لَا يُنَافِي مَا يَقع فِي خلال ذَلِك من قتل بَعضهم وجرحه وَمن أَنْوَاع الْأَذَى وَذَلِكَ أَن الْخلق كلهم يموتون فَلَيْسَ فِي قتل الشُّهَدَاء مُصِيبَة زَائِدَة على مَا هُوَ مُعْتَاد لبنى آدم فَمن عدّ الْقَتْل فِي سَبِيل الله مُصِيبَة مُخْتَصَّة بِالْجِهَادِ كَانَ من أَجْهَل النَّاس … فَإِن الْمَوْت يعرض لبني آدم بِأَسْبَاب عَامَّة وَهِي المصائب الَّتِي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وَغَيره وَمن جوع وَغَيره وبأسباب خَاصَّة فَالَّذِينَ يعتادون الْقِتَال لَا يصيبهم أَكثر مِمَّا يُصِيب من لَا يُقَاتل بل الْأَمر بِالْعَكْسِ كَمَا قد جربه النَّاس ثمَّ موت الشَّهِيد من أيسر الميتات”.

وقد قال تعالى: {إِنْ ‌يَمْسَسْكُمْ ‌قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} آل عمران:140

وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ ‌إِنْ ‌تَكُونُوا ‌تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} النساء:104

– ولا نبرئ المجاهدين من النقص والأخطاء تماماً، ولكن نترفق بهم، وننصحهم، ونثق بهم، وندعو الشيخ والمسلمين جميعاً إلى ذلك _ فإن من يضحي بروحه من أجل الإسلام وأهله هم من أقرب الناس إلى الصدق _ وألا نكون عوناً للشيطان والأعداء عليهم، بل نمدّ لهم يد المعونة، ونخلص لهم في الدعاء جزاهم الله عنا كل خير.

تاسعاً: حصر الشيخ لتحقيق أسباب رفعة الأمة وعزتها في تحقيق المعتقد الحق، واستقامة الفكر، وترسيخ الفضيلة، ووحدة الكلمة، ومعاملة المخالفين والكفار بالرحمة فقط، مع عدم ذكره للجهاد، أو الإعداد له على الأقل هذا الحصرُ هو غفلة عن شمولية هذا الدين، ومعرفة مكانة الجهاد الذي هو ذروة السنام فيه؛ قال ابن تيمية _ رحمه الله _ في مجموع الفتاوى (28/ 257): “ليكون أمره معتدلاً ويكون بذلك من خلفاء رسول الله e الذي هو معتدل حقا قال النبي e: “أنا نبي الرحمة، أنا نبي الملحمة“، وأمته وسط، قال الله تعالى فيهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعَاً سُجَّدَاً يَبْتَغُوْنَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانَا} الفتح:29 وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِيْنَ} المائدة:54″، وقال e: “أَوْثَقُ عُرَى الْإِيْمَانِ الْمُوَالاَةُ فِي اللهٍ والْمُعَادَاةُ فِي اللهِ وَالْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ” مسند أحمد:18524.

عاشراً: استدلاله بطلب النبي e عدم إذعار المشركين في غزوة الأحزاب غير سديد؛ لأنه من المسلّم به أنه لا يُطلَبُ من المسلمين إذعارُ الأعداء وتأليبُهم عليهم في حال الضعف إذا لم يحصل هجوم منهم كما في الخندق، ولكن إذا حصل وهجم الأعداء، فإنه لا يقول عاقل عندئذ نتركهم في هذه الحال؛ لأنه لا ينبغي إذعارهم، وهذا ما حصل مع المؤمنين في بدر وأحد؛ فقد حصل فيهما الهجوم والقتال، وكان الجهاد فيهما جهاد دفع أيضاً؛ فكان الأولى بالشيخ _ بارك الله فيه _ أن يستشهد بهما دون الخندق؛ لأنهما أقرب إلى واقعنا من حيث وقوع القتال والهجوم من الكفار.   

– وأخيرا نعرض بعض أقوال العلماء التي تؤكد ما سبق بيانه وتلقي الضوء على غيره مما يعين أيضا في فهم ما سبق ويشرح الصدور له ويرفع الهمم:

– قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 327): “محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، فإني أكره له ذلك؛ لأنه عرّض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرّئُ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيَقتلون ويَنكُون في العدو، فلا بأس بذلك إن شاء الله؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأساٍ أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن يُنكيَ غيرُه فيهم بحَملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجورا، وإنما يُكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يُرهّب العدو فلا بأس بذلك؛ لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين اهـ. والذي قاله محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره … فهذا مقامٌ شريفٌ مدح الله به أصحاب النبي e في قوله: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة:111 وقال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ } البقرة:207 في نظائر ذلك من الآيات التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله”.

– ويضاف إلى ما ذُكر من وجوه: أن يَثبُتَ ليؤديَ ما يقدر عليه من الجهاد، وعدم الاستسلام فقط، مع طلب الشهادة، كما سيأتي من كلام الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية، وكما يدل عليه حديث النبي e عندما سأله رجل: أي الشهداء أفضل؟ فقال: “الَّذِينَ إِنْ يُلْقَوْا فِي الصَّفِّ لَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ” صحيح الترغيب:1371.

– وقال أبو داود: “سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا علم أنه يؤسر فليقاتل حتى يُقتل أحبُّ إليَّ، وقال: لا يُستأسَر، الأَسرُ شديد، ولا بد من الموت” وقد قال عمار رضي الله عنه: “من استأسر برئت منه الذمة”، فلهذا قال الآجري يأثم بذلك فإنه قول أحمد”. (مسائل الإمام أحمد لأبي داود، ص247)، والمرداوي في الإنصاف (4/125).

– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في “قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح” (ص: 23، وما بعدها): “والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذل أنفسهم، ليُقتلوا في سبيل الله ومحبة رسوله؛ فإن قُتلوا كانوا شهداء، وإن عاشوا كانوا سعداء كما قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} التوبة:52، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} الأحزاب:15 فأخبر سبحانه أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع بل لا بد أن يموت العبد وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل، وما أكثر من ثبت فلا يقتل، ثم قال: ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا، وأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون فقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) التوبة:56،

– والأدلة من السنة على أن الرجل أو الطائفة يقاتلون أكثر من ضعفيهم إذا كان في قتالهم منفعة للدين، وقد غلب على ظنهم أنهم يُقتلونمن وجوه كثيرة:

– فالمسلمون يوم أحد كانوا نحواً من ربع العدو، فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبٍ منها.

– وأيضاً فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات، كان أكثر من عشرة آلاف، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين.

– وأيضاً فقد كان الرجل وحده على عهد النبي e يحمل على العدو بمرأى من النبي e، وينغمس فيهم، فيقاتل حتى يُقتل وهذا كان مشهوراً بين المسلمين على عهد النبي e وخلفائه.

– وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “بعث رسول الله e عشرة رهط عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فانطلقوا فذُكروا لحي من هُذَيل يقال لهم بنو لِحْيان فنهدوا إليهم بقريب من مائة رجل رامٍ وفي رواية: مائتي رجل. فاقتفوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى موضع وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق، لا يقتل منكم أحد. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم أمّا أنا فوالله لا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك e . فرموهم بالنبل فقَتلوا عاصماً في سبعة (ثم ذكر نزول ثلاثة منهم على عهد الأمان فلما غدروا بهم وأسروهم قاتلهم أحد الثلاثة حتى استشهد) وأَخْبَرَ النَّبِيُّ e يوم أصيبوا خَبَرَهُمْ. وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قد قُتِلَ أن يُؤتى بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَبَعثَ الله لعَاصِمٍ مِثْل الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْهم فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا“. فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المائة أو المائتين، ولم يستأسروا لهم حتى قَتلوا منهم سبعة، ثم لما استأسر الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم حتى قتلوه.

– وأيضا: عن ابن مسعود t عن النبي e قال: ” عَجِب ربُّنا عزَّ وجلَّ من رجلٍ غزا في سبيلِ الفهِ فانهزمَ -يعني أصحابه- فعَلِمَ ما عليه، فرجَع حتى أُهَرِيقَ دَمُه، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لملائكتِه: انظُروا إلى عبدي رجَع رغْبةً فيما عندي، وشَفَقةً مما عندي، حتى أُهَرِيقَ دمه” أبو داود:2536. فهذا رجل انهزم هو وأصحابه ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل، وقد أخبر النبي e أن الله يعجب منه وعَجَبُ الله من الشيء يدل على عِظَم قدْره، وأنه لخروجه عن نظائره تعظم درجته ومنزلته، وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضيٌ لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز حتى يقال: “وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه يُقتل فترْك ذلك أفضل“. بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقتل الرجل فيه كثيراً أو غالباً،

فإن قيل: قد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} الأنفال:65-66،

 قيل: إذا كانوا هم المظلومين وقتالهم قتال وقع عن أنفسهم فقد تجب المصابرة كما وجبت عليهم المصابرة يوم أحد ويوم الخندق، مع أن العدو كان أضعافهم، وذم الله المنهزمين يوم أحد والمعرضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب بما هو ظاهر معروف.

فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة:195، وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يقتل فقد ألقى بيده إلى التهلكة. قيل: تأويل الآية على هذا غلط ولهذا ما زال الصحابة والأئمة ينكرون على من يتأول الآية على ذلك كما ذكرنا: أن رجلاً حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر رضي الله عنه: كلا ولكنه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} البقرة:207، وأيضاً: فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي عن أسلم أبي عمران قال: “غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، فحمل رجل على العدوِّ، فقال الناس: لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب رضي الله عنه: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإِسلام، قلنا: هلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة:195. فالإِلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية”.

– فالتهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما نهى الله عنه، فإذا ترك العباد الذي أُمِرُوا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه؛ من عمارة الدنيا هلكوا في دنياهم بالذل وقهر العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، ورده لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذ عن العمل بالدين، بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة:217، إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء أكانت مسلمة أم كافرة، فإن كل أمة لا تقاتل، فإنها لا محالة ستهلك هلاكاً عظيماً باستيلاء العدو عليها وتسلطه على النفوس والأموال، وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار، وأيضاً: فإن الله قال في كتابه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} البقرة:154 فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد أنه ميت: قال العلماء: وخص الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فيفر عن الجهاد خوفاً من الموت، وأخبر الله أنه حي مرزوق، وهذا الوصف يوجد أيضاً لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم، لكن خص الشهيد بالنهي لئلا ينكل عن الجهاد لفرار النفوس من الموت، فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتاً واعتقاده ميتاً؛ لئلا يكون ذلك منفراً عن الجهاد، فكيف تسمّى الشهادة تهلكة واسم الهلاك أعظم تنفيراً من اسم الموت فمن قال ذلك فقد افترى على الله بهتاناً عظيماً.

– وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يُقتل قسمان:

أحدهما: أن يكون هو طالباً للعدو، فهذا الذي ذكرناه.

والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار، فهذا أولى وأوكد، ويكون قتال هذا إما دفعاً عن نفسه وماله وأهله ودينه، وإما فعلاً لما يقدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه رضي الله عنهم”. (انتهى كلام شيخ الإسلام بتصرف يسير).

ختاماً:

– فقد كانت هذه الكلمات تنبيهاً على أن الخلاف العملي في الشأن الجهادي إذا انتهى إلى التفرق والتنازع وإبطال الجهاد، والفشل فهو محرمٌ ممنوع.

– وفي باب الجهاد قد تختلف الآراء، لكنه في النهاية يترجح رأي ما يُظنُ أن فيه المصلحةَ، فإذا مال الإمام إليه وشرع فيه، فلا يصْلُحُ من أحد التشويشُ عليه، ولا يصلح أن تأتيَ المُناصحة في هذا الشأن بعكس مقصودها من تقوية الصف ووحدة الكلمة ومراغمة العدو، والعالِم كما يأمر تارةً فإنه ينهى تارة أخرى وقد يسكت ثالثةً، وذلك حين تكون مضرةُ الكلام راجحةً على مفسدة السكوت.

– حفظ الله الجهاد وأهله، ووفق الشيخ وأكرمه، والحمد لله رب العالمين.

———————————-

كتبه جماعة من أهل العلم في غزة

ووقّع عليه لفيفٌ من كبار علماء الأمة، وهم:

1. فضيلة الشيخ العلامة صادق الغرياني – مفتي عام ليبيا

2. فضيلة الشيخ العلامّة محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي – رئيس مركز تكوين العلماء

3. فضيلة الشيخ د. همام سعيد – رئيس الائتلاف العالمي لنصرة القدس وفلسطين

4. فضيلة الشيخ حامد العلي – من علماء الكويت

5. فضيلة الشيخ د. عبد الحي يوسف – رئيس أكاديمية أنصار النبي صلى الله عليه وسلم

6. فضيلة الشيخ د. محمد يسري إبراهيم – نائب رئيس رابطة علماء المسلمين

7. فضيلة الشيخ د. نواف تكروري – رئيس هيئة علماء فلسطين

8. فضيلة الشيخ د. وصفي عاشور أبو زيد – أستاذ المقاصد وأصول الفقه

9. فضيلة الشيخ د. الحسن الكتاني – رئيس رابطة علماء المغرب العربي

10. فضيلة الشيخ د. أحمد حوى – أمين عام رابطة علماء السوريين

11. فضيلة الشيخ د. الشيخ عطية العدلان – أستاذ الفقه والسياسة الشرعية

12. فضيلة الشيخ د. أحمد الجوهري – مدير معهد في الأزهر الشّريف

13. فضيلة الشيخ د. محمد همام ملحم – رئيس مركز معراج للبحوث والدراسات