المشروع المعرفي لبيت المقدس وجامعة ماردين أرتقلو – تركيا
إعداد إيمان أحمد الحاج
ضمن مادة: دراسات بيت المقدس
إشراف الدكتور محمد همام
1444هـ / 2022 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، العليم القادر، والحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، الذي قدّر الخلق فأوجده ، وعدل ما صنعه فأحسنه ، والصلاة والسلام على معلم الناس أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إن قضية بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك لا تنفصل أبداً عن كونها قضية إسلامية وجزء من العقيدة ، فقد سجل القرآن الكريم مكانة بيت المقدس في الاسلام ، وحفلت السنة النبوية بالأحاديث التي تبين عظيم مكانتة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم فيه ، وعلاقتهم به منذ بداية الدعوة في مكة المكرمة واستمرارها لما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حتى تم تحريره وفتحه .
وقد وضّحت الأحاديث النبوية مستقبل بيت المقدس ، ولا بد من دراستها وتبيانها خاصة مع ما نعيشه اليوم من تسلط الصهاينة والغرب وانتهاك حرمة المسجد الاقصى واعتدائهم على قدسيته ومكانته ، فتاريخنا الاسلامي حافل بالبطولات والفتوحات ، ولا بد أن نأخذ منه الدروس والعبر ودراسة الخطة النبوية التي سار عليها الصحابة رضي الله عنهم حتى حرروا بيت المقدس بعد اعداد استمر سنوات ، لنحقق ما حققوه قريباً بإذن الله .
ومن الأحاديث التي أخبرنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن حوادث وقعت وأخرى سوف تقع بعده وتتعلق ببيت المقدس ، حديث اعدد ستاً بين يدي الساعة .
عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وهو في قبة من أدم ، فقال : ( اعدد ستاً بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم مُوتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرحل مائة دينار فيظل ساخطاً ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر ، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية ـ تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً ) ([1])
اشتمل هذا الحديث على جملة من دلائل النبوة التي تمثل أهم المحطات الاستراتيجية المستقبلية لبيت المقدس ، وفيه اشارة الى خطة النبي صلى الله عليه وسلم لفتح بيت المقدس ولمستقبل بيت المقدس فيما بعد الفتح ،وبالتالي فإنه صلى الله عليه وسلم هو الواضع لخطة التحرير وأول من فتح أطرافه ([2]). وأغلب الأمور الخمسة التي عدها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته متعلقة ببت المقدس وكما أشار الدكتور محمد همام في شرحه للحديث أنه يرى أن جميع هذه الأمور متعلقة بالصراع حول مستقبل الاسلام عموما وبيت المقدس خصوصاً .
ومن هذا الحديث يتضح لنا كيفية تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فقد بدأ بالاجمال ” اعدد ستا بيت بدي الساعة ” ( تبيان عددها ) ثم التفصيل ( بيان هذه الأمور والعلامات) . وفيه سيتضح طريقة تعامل الصحابة وتدارسهم لهذا الحديث ، لا سيما أن بعض هذه العلامات حصلت وبعضها لم تحصل ، وهذا ما سأبينه إن شاء الله تعالى مع شرح لكل علامة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
أولاً : وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلّغ الرسالة وأعد جيلاً نموذجياً ووجهه من خلال المباديء والقيم والنظام الذي جاء به الاسلام ، وترك خلفه جيشاً سار على خطاه لنشر الدعوة واتساع الفتوحات وتحرير بيت المقدس وتحقيق الامن والأمان.
فقد بدأت علاقة النبي صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس منذ بداية البعثة ، فقد كان النبي r يصلي قبل فرض الصلاة ركعتين قبل طلوع الفجر وركعتين قبل غروبها متجهاً نحو بيت المقدس ، فهو القبلة الأولى للأمة المحمدية ، كما ثبت في حديث الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة ) ([3]).
وكذلك فقد ترأس النبي صلى الله عليه وسلم المؤتمر الوحيد لأنبياء الله في بيت المقدس يوم أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى، وصلى بهم إماماً ثم تسلم منهم راية الدفاع وحماية ونصرة المسجد الاقصى، فأرست هذه الحادثة مركزية بيت المقدس وأهميته الروحية والدينية وربطت الصحابة به أكثر .فقد كانوا يتابعون أخباره أول بأول ويسألون عنه ويقرأون آيات القرآن ويتدبرونها ليعرفوا قصص الأنبياء ، فتكوّن بذلك رابط معرفي وسياسي ربطهم ببيت المقدس .
وبعد هجرة النبي r استمر ارتباطه وأصحابه بييت المقدس ، وفُرض الجهاد في سبيل الله في السنة الثانية للهجرة وبدأت الغزوات وانتصارات المسلمين وبدأت الغزوات على الخط الشمالي الغربي باتجاه بلاد الشام وقلبها بيت المقدس ودرته المسجد الاقصى المبارك .
ومن هذه الغزوات :
- غزوة دومة الجندل : كانت في السنة الخامسة للهجرة حيث بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه بدومة الجندل وتقع على الحدود بين الحجاز والشام جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم فخرج مع ألف من أصحابه لفض هذا التجمع فكانت هذه الغزوة بمثابة إعلان دعوة الاسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية .
- غزوة مؤتة :
كانت في العام الثامن للهجرة بعد توتر العلاقات مع الروم وقتل ملك بصرى شرحبيل الغساني للرسول الذي ارسله النبي صلى الله عليه وسلم برسائل لدعوة الملوك للاسلام ، ترأسها ثلاثة من الصحابة الفرسان ، فحمل الراية زيد بن حارثة الذي استشهد ثم استلم الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتل حتى استشهد. ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث ، وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وجاهد حتى استشهد فأثبتوا ان الامارة تكليف ومسؤولية .
ثم استلم خالد بن الوليد رضي الله عنه الراية وجاهد جهادًا عظيمًا مع المسلمين الذين لم يتراجعوا ، ووضع خطة حكيمة ليقذف الرعب في قلوب الرومان ثم سحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء ، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالما بعد ان خاف المشركون ورفضوا ان يلحقوا بالمسلمين .
أما في المدينة وأثناء المعركة فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام على منبره يرى ما يحصل على ارض المعركة بفضل ومعجزة من الله عز وجل ، وبشرهم النبي انهم عائدون بعد ان وصفهم اهل المدينة بالفرار.
- غزوة تبوك
كانت بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع للهجرة ، وكان الجهاد واجب على كل مسلم ومن تخلف لقي الجزاء بحقه كما تخلف المنافقون ، فكانت هذه الغزوة كاشفة فاضحة لهم ، انطلق المسلمون وعددهم حوالي ثلاثين ألف مجاهد لمواجهة اقوى جيش آنذاك وهم الروم وكانت الغاية من هذه الغزوة بثّ الرّعب في صفوف الرّومان والإمبراطوريّة البيزنطيّة التي كانت تُسيطر في ذلك الوقت من خلال حلفائها على بلاد الشّام .
وساروا وتعاظمت عليهم المشقة والتعب واشتكوا شدة العطش والجوع والحر فدعا الرسول ربه فأمطرت وروت قلوبهم ، وما أن وصل جيش المسلمين إلى أرض المعركة حتى وصل الخبر إلى جيش الروم فأدخل الله في قلوبهم الرُّعب ولم يجرؤوا على لقاء المسلمين مع أنهم يفوقونهم عدداً وعُدَّة، وبذلك انتهت المعركة وعاد المسلمون إلى ديارهم منتصرين دون قتالٍ أو إراقة دماء.
وعقد النبي اتفاقيات مع قرى على الطريق أن يقدموا العون للمسلمين وذلك لتهيئة الطريق لبيت المقدس اثناء الذهاب لفتحه، ووقف النبي r وقال ( ما ها هنا شام ) ([4]). وعاد المسلمون لمكة
- جيش اسامة
بعد العودة من تبوك جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشا ثالثًا بقيادة الشاب الذي لا يتجاوز الثامنة عشر من العمر وهو اسامة ابن زيد بن الحارثة ورغم معارضة الصحابة لكن النبي عليه الصلاة والسلام بشرهم انه جدير بالامارة ..
وسار جيش اسامة واتجه نحو البلقاء من أرض الشام فسمعوا بمرض الرسول عليه الصلاة والسلام فعاد اسامه ولقي النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصاه أن يغدو على بركة الله فودعه اسامه وخرج الى معسكره ثم توفي عليه السلام وكانت هذه آخر بعثة يرسلها عليه الصلاة والسلام .
وبذلك كانت العلامة الاولى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهي وفاته
ثانياً : فتح بيت المقدس
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتسلم صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة واتخذ القرار الجريء بإرسال جيش اسامة بن زيد رضي الله عنه لقتال الرومان ، وبالفعل انطلق اسامة وعاد بفضل الله عز وجل منتصراً . وابتليت الجزيرة العربية بالردة فقاومها الصديق رضي الله عنه وقمعها بعد سنة كاملة . ثم اتخذ القرار بفتح بلاد فارس وارسل الجيش بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وبدأت رسائل الانتصار والفتوحات تصل من العراق إلى المدينة ، وأثناء ذلك استشار الصديق الصحابة رضي الله عنهم لارسال الجيوش لفتح بلاد الشام فأيدوا ذلك وبدأوا بالاستعداد .
جهز الصديق رضي الله عنه أربعة جيوش يترأسهم يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص ، لكن هذه الجيوش الأربعة واجهت متاعب كثيرة في مواجهة الروم ، عندئذ قرر أبو بكر أن ينقل خالد بن الوليد وفئة ممن معه إلى الشام وقال : والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد ([5]). وبدأت بشريات الانتصارات وفتح قرى ومدن بلاد الشام تصل إلى أبو بكر .
ثم مرض ابو بكررضي الله عنه وسلّم الخلافة الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووصاه ببلاد الشام فتابع عمر رضي الله عنه الخطة ، واستمرت بشريات النصر والفتوحات ، وعندما بلغ خالد بن الوليد ذروة عظمته آتاه كتاب أمير المؤمنين بعزله وتسليم القيادة لابو عبيدة بن الجراح وجاء القرار خشية من عمر أن يفتن الناس وليعلموا أن النصر من الله ، وتابع أبو عبيدة ومعه خالد والصحابة معاركهم فكانت معركة بيسان واليرموك وفتح دمشق وفتح اجنادين وغيرهم حتى وصلوا للمسجد الأقصى المبارك، وجاء عمر بن الخطاب بنفسه ودخل المسجد الأقصى المبارك فاتحا بفضل من الله عز وجل ، وتحقق وعد الله عز وجل بعد أن حقق المسلمون أسباب النصر .
وتم فتح بيت المقدس وتحققت العلامة الثانية بفضل من الله تعالى
ثالثاً : مُوتانِ يأخذ فيكم كقُعاصِ الغنمِ
استمر الحكم الاسلامي في بلاد الشام والقيادة الاسلامية يترأسها أبو عبيدة بن الجراح ، وابتلي أهل الشام في العام الثامن عشر من الهجرة بطاعون مريع خرج من قرية عمواس غرب المدينة المقدسة وانتشر حتى هلك الآلاف المؤلفة من البشر منهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وفقد جل القيادات الكبرى في الشام وأمر الفاروق بتولية معاوية بن أبي سفيان ثم انحسر المرض ولم يتبقى في الشام الا القليل من جنود المسلمون . مع ذلك لم يتجرأ الرومان من العودة لاحتلال بيت المقدس لأن الدولة الاسلامية في المدينة كانت قوية بقيادة الفاروق عمر بن الخطاب وبقي بيت المقدس في أكناف الدولة الاسلامية .
ومعنى موتان : اسم الطاعون والموت الكثير ، وكقعاص الغنم : الموت العَجِل وهو داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق ([6]).
قال ابن حجر : ” يقال أن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس ([7]).
قال البرونجي : ” هذا وقع في زمن عمر رضي الله عنه في طاعون عمواس ، وبعد ذلك في طاعون الجارف ، وفي الطواعين والوباءات الواقعة في أقطار الأرض ” ([8]).
وبعد وقوع طاعون عمواس تدارس الصحابة هذا الحديث ، فقد أخرج الحاكم في المستدرك في حديث عوف وفيه ، فلما كان عام عمواس ( قال عوف بن مالك لمعاذ بن جبل رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي : اعدد ستاً بين يدي الساعة ” فقد كان منهن الثلاث وبقي الثلاث ، فقال معاذ : إن لهذه مدة ) ([9]).
رابعاً : استفاضة المال ، حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطاً
في هذه العلامة عدة أقوال ، فقد قيل أنها ظهرت في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه عند الفتوح ثم في عهد عمر بن عبد العزيز عندما فاض المال فكان يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله .
كما يكثر المال في آخر الزمان ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض ، حتى يُهمّ رب المال من يقبل صدقته ، وحتى يعرضه ، فيقول الذي يعرضه عليه لا أَرَبَ به ” ([10]).
قال ابن حجر : ” وهذا اشارة إلى ما سيقع في زمن عيسى ابن مريم ، فيكون هذا الحديث اشارة إلى ثلاثة أحوال :
الأولى : إلى كثرة المال فقط ، وقد كان ذلك في زمن الصحابة
الثانية : الاشارة إلى فيضه من الكثرة بحيث أن يحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره ، وكان ذلك في عصر الصحابة وأول عصر من بعدهم ، ومن ثم قيل (يهم رب المال) وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز .
الثالثة : فيه اشارة إلى فيضه وحصول الاستغناء لكل أحد حتى يهتم صاحب المال بكونه لا يجد من يقبل صدقته ، ويزداد بأنه يعرضه على غيره ولو كان ممن لا يستحق الصدقة ، فيأبى أخذه فيقول : لا حاجة لي فيه ، وهذا زمن عيسى عليه السلام . ويحتمل أن يكون هذا الأخير عند خروج النار ، واشتغال الناس بأمر الحشر ، فلا يلتفت أحد حينئذ إلى المال ، بل يقصد أن يتخفف ما استطاع ” ([11]).
خامساً : فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته
قد وقعت فتن كثيرة منذ أواخر عهد الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه والقتال الذي دار بين الصحابة في موقعة الجمل وصفين ،وما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، وظهور فرقة الخوارج ، والقدرية الذين أنكروا علم الله تعالى وفتنة خلق القرآن التي باء بإثمها المعتزلة في العهد العباسي ، ولا تزال الفتن تقع وتشتد بأمة النبي صلى الله عليه وسلم ، خصوصا في زماننا ، وانتشار الظلم وفتنة الشهوات والشبهات والمناصب وعدم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك .
فقد قال الدكتور محمد همام : ” من خلال استقراء الروايات المتعلقة بهذه الفتنة العامة الشاملة التي لا تترك أحدا من المسلمين إلا لطمته أنها فتنة سياسية متعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله وانتشار الظلم ، فمن أوجب الواجبات على أتباع الصحابة الكرام في زماننا هذا أن يقاوموا هذه الفتن بنشر العلم وبث الايمان مع الصبر واليقين بالاضافة إلى مقاومة الظالمين والصدع بالحق والوقوف في صف الطائفة المنصورة المرابطة في بيت المقدس وأكنافه وتمكينهم ودعمهم بكل أنواع الدعم ” ([12]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كفراً ، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ” ([13]).
قال النووي رحمه الله : ” معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها ، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة ، المتراكمة كتراكم ظلال الليل المظلم ، وليس كظلام الليل المضيء بالقمر ([14]).
سادساً : هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر
العلامة السادسة ” ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا “
والهدنة تعنى صلح على ترك القتال ، و بنو الأصفر هم الروم كما جاء في حديث أبي سفيان في قصة دخوله على هرقل ملك الروم ( فقلت لأصحابي حين خرجنا : لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة –يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- إنه يخافه ملك بني الأصفر –أي هرقل ملك الروم-)([15]).
لكنهم كعادتهم لا يوفون بعهدهم والميثاق فيغدرون بالمسلمين وينقضون الهدنة ويقاتلوا المسلمين تحت ثمانين غاية أي ثمانين راية ، وتحت كل راية اثنا عشر ألفا من الجند .
روى أبو داود في سننه عن جبير بن نفير عن الهدنة قال ، قال جبير : انطلق بنا إلى ذي مخبر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتيناه فسأله جبير عن الهدنة ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” ستصالحون الروم صلحا آمنا ، فتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم ، فتنصرون وتغنمون وتَسلمون ثم ترجعون ، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول ، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب ، فيقول : غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيدقه ، ، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة “([16]).
قال ابن المنير : ” أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن ، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر هذا العدد ، فهي من الأمور التي لم تقع بعد ، وفيه بشارة ونذارة ، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه اشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه “([17]).
وختاما ً
إن هذه الأمور والاشراط التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث اعدد ستا بين يدي الساعة والتي حصل بعضها وبعضها لم يحصل ، هي من دلائل النبوة وصدقه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم ، فتحققت الأولى وهي موته ، وفتح بيت المقدس الأول والثاني وسيتحقق الثالث إن شاء الله ، اضافة للموت بالأمراض ، واليوم ونحن نعيش ازدهارا اقتصاديا وكثرة التجارة ومحاولات الغرب بشن حروب اقتصادية على بلاد المسلمين لاضعافها ثم استفاضة المال وكثرة الشح وظهور الفتن واتباع الامة لسنن غيرها وتشببهم به .
وواقع الأمة اليوم مع الاحتلال والظلم و الضعف المستمر وضياع الامانة وقبض العلم وظهور الجهل وانتشار الربا والزنا والمعازف والخمر وغير ذلك كثير يبين لنا أن هذا القدر مقدور لا يمكن تغييره، ولكنا إذا أدركنا جيداً ما جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتدارسناها مع أحداث تاريخنا الاسلامي لعلمنا أن هناك طائفة منصورة بوعد من الله تعالى ، هذه الطائفة الثابتة ستمر بمراحل الضيق والابتلاء والتمحيص ثم تصفية الصفوف ، فالفتوحات التي حققها المسلمون لم تكن بين ليلة وضحاها .
فكما قال البروفيسور عبد الفتاح العويسي أنه ما كان لأمير المؤمنين رضي الله عنه أن يحرر بيت المقدس لو لم يسبقه اعداد بما في ذلك التهيئة المعرفية المنظمة والممنهجة ضمن الخطة الاستراتيجية التي وضعها بنفسه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته والتي تقوم على ثلاثة أعمدة معرفية وسياسية وعسكرية وبدأها ثم تابع الصحابة من بعده حتى فتح عمر بيت المقدس .
وكذلك حصل في زمن حروب الصليبيين فقد أعد العلماء وعماد الدين ثم ابنه نور الدين القادة وتوج هذا الاعداد بالتحرير الثاني لبيت المقدس في زمن صلاح الدين الايوبي.
واليوم وفي ظل الواقع العصيب الذي تمر به الأمة الاسلامية واستمرار الاحتلال الغربي الصهيوني للمسجد الأقصى المبارك مع ما يصاحبه من سيطرة فكرية غربية على عقول الشباب المسلم ، وما يحاك من مؤامرات متتالية لضعف الأمة واستمرار مكوثها في مستنقع الفتن والفساد .
هذا الواقع يتطلب منا السعي للبدء بالتغيير الذي يكون بالمعرفة أولاً من خلال بذل الجهود لاعداد جيل واع يدرك ما يحاك ضد الأمة وما يخطَط له لإبقاء هذه الأمة في الحضيض، فيسعى ويعمل على تحريرها من أي احتلال وسيطرة، ويعد العدة لتحرير المسجد الأقصى المبارك والذي يعتبرمعيار نهضة الأمة ، إلا أن هذا يحتاج إلى تكاثف الجهود والتخطيط المسبق ، وأن يتحمل كل مسلم دوره وواجبه اتجاه نفسه وعائلته ومجتمعه وأمته والمقدسات . وأن يكون من الذين يتبعون ما جاء في الكتاب والسنة قولا وعملا .
ونسأل الله أن يثبت قلوبنا وألا تدخل في مستنقع الفتن وأن يعيننا على نصرة ديننا وبيت المقدس ويجعلنا من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ومن أهل الحق وأن يرزقنا السداد والتوفيق والقبول .
([1]) البخاري ، محمد بن اسماعيل ، صحيح البخاري ، كتاب الجزية ، باب ما يحذر من الغدر ، حديث رقم 3176
([2])د. محمد همام ، وقفات مع حديث عوف بن مالك رضي الله عنه ، موقع هيئة علماء فلسطين،https:// palscholars.org
(3)مسلم ، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206-261هـ) ، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ، دار الخير 1416ه/1996م ، ص 310
([4])البيهقي ، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ابو بكر ، كتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي، رقم 1244
([5])راغب السرجاني ، الموسوعة الميسرة في التاريخ الاسلامي ، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع ، ص86
([6])ابن منظور ،محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل ، لسان العرب ، ج7 ، ص 78
([7])ابن حجر العسقلاني ، الامام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852ه) ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، دار المعرفة ، بيروت ، 6/322 .
([8])البرزنجي ، محمد بن رسول البرزنجي الحسيني ، كتاب الاشاعة لأشراط الساعة ، دار المنهاج للنشر والتوزيع ،جدة ، ط3 ، ص120
([9])الحاكم ، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ، كتاب المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 8303 ، ج 4 /469
([10])البخاري ، محمد بن اسماعيل ، صحيح البخاري ، كتاب الفتن ، باب حدثنا مسدد ، حديث رقم 7121 .
([11])ابن حجر العسقلاني ، الامام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852ه) ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، دار المعرفة ، بيروت ، 13/ 87-88 .
([12])د. محمد همام ، مصدر سابق
([13])مسلم ، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206-261هـ) ، صحيح مسلم ، كتاب الايمان ، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن ، رقم 118 ج1 ، ص110 .
([14])النووي ، محي الدين بن شرف النووي الدمشقي ، شرح النووي على صحيح مسلم ، 2/133 .
([15])البخاري ، محمد بن اسماعيل ، صحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر ، حديث رقم 2978
([16])أبو داوود ، سليمان بن الأشعث بن اسحاق بن بشير الازدي السجستاني (ت275هـ) ، سنن أبي داوود ، كتاب الملاحم ، باب ما يذكر من ملاحم الروم ، حديث رقم 3801 صححه الألباني
([17])ابن حجر العسقلاني ، الامام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852ه) ، كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري ، باب ما يحذر من الغدر ، ص272