بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله
تمهيد:
احتُلّت أرض فلسطين من قبل الاستعمار البريطاني الذي قرر أن تكون تحت انتدابه، وأصدر وزير خارجيته وعده المشؤوم في 2/11/1917م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
ومنذ ذلك الوقت بدأ الصراع واشتد عند اعتراف الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين أهلها الشرعيين وبين اليهود الوافدين من جميع أنحاء العالم في عام 1947م، ثم الاعتراف بدولة (إسرائيل) في 14/5/1948م، ثم حرب حزيران في 5/6/1967م التي احتلت فيها (إسرائيل) القدس والضفة وغزة وسيناء وجولان.
ومنذ بدء الصراع قام العلماء بدورهم الكبير في التوعية والحضّ على استرداد الحقوق المغصوبة، ومنها الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية التي جعلتها الدول العربية شعارها، كما جعلت اللاءات الثلاث شعارها الثاني منذ مؤتمر الخرطوم عام 1967م.
ولكن في العقود الأخيرة اختُرقت هذه المبادئ والشعارات العربية باتفاقية كامب ديفيد، ثم اتفاقية الأردن، ثم اتفاقية أوسلو..
ولكن في عام 2020م حدث انهيار غريب للصمود العربي، حيث ظهرت دولة لم تكتف بالعلاقات السياسية مع المحتلين، بل فتحت أجواءها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لهم، وهنا بدأت تأتي الأسئلة الكثيرة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حول التعامل مع المنتجات الصهيونية وأحكامه الشرعية.
والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يجد من واجبه بيانَ الحق والنصحَ الرشيد للأمة في جميع مجالات الحياة، امتثالاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب: 39).
ولذلك قرر – بعد التشاور والمدارسة والمراجعة – إصدار الفتوى الآتية:
أولاً: أن القاعدة الإسلامية العامة للعلاقة بين المسلمين وغيرهم هي قاعدة البرّ والإحسان واللين والرحمة والاحترام لجميع الناس، إلا من عادى الإسلام والمسلمين، واحتل أرض والمسلمين واعتدى عليهم.
ثانياً: أن فتوانا هذه خاصة بدولة الاحتلال “إسرائيل” وبضائعها ومنتجاتها، باعتبارها تحتل أرضنا وديارنا وتعتدي وتستولي يوميا على إخواننا وعلى أرضهم وديارهم في فلسطين وفي الجولان السورية، ولا زالت تحتل المسجد الأقصى (أولى القبلتين) ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه، والقدس الشريف.
ثالثاً: وبناء على ما سبق فإن ردع العدوان، وإخراج المعتدين من الأراضي المحتلة ومقاومتهم بجميع الوسائل المشروعة فريضة شرعية وضرورة إنسانية. ومقاومتهم بجميع الوسائل المشروعة تقرها الفطَر السليمة، وتنص عليها القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، والمعاهدات الدولية، ودساتير الدول.
فالنصوص الدينية في جميع الكتب السماوية كثيرة جداً في وجوب مقاومة المحتلين وجهاد المعتدين، بل إن الجهاد في الإسلام شرع لأجل ذلك فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 39-40)، وقال تعالى: }فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ{(البقرة:194).
ونذكر هنا بعض النصوص القانونية، منها المادة 42 من لائحة لاهاي لعام 1907م التي تنص على أنه “تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو…”.
وتنص المادة الثانية المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م على أن هذه الاتفاقيات تسري على أي أرض يتم احتلالها أثناء عمليات عدائية دولية، كما تنص القوانين الدولية على أن الاحتلال حالة مؤقتة، ولا يجوز له مصادرة الممتلكات الخاصة بالمواطنين، أو تدميرها.
وميثاق الأمم المتحدة يؤكد حق المقاومة، حيث نصت مادته (21) على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يضعف، أو ينتقص الحق الطبيعي للدول والشعوب أفراداً أو جماعات في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت عليها قوة مسلحة”.
وهناك عشرات القرارات للأمم المتحدة تدل على حق المقاومة وصد العدوان، وتحرير الأراضي المحتلة.
رابعاً: إن النصوص الشرعية (من الكتاب والسنة الصحيحة) كثيرة في الدلالة على أن مقاطعة المحتلين والمعتدين ومقاطعة مصالحهم ومنتجاتهم مشروعة بل واجبة. وهو ما ينطبق بأقصى الدرجات على الدولة الصهيونية، التي مارست وما زالت تمارس كل أشكال الاغتصاب والقتل والإرهاب والتشريد والاعتقال والتعذيب والعقاب الجماعي..
ومن هذه الأدلة ما يلي:
جميع النصوص الشرعية في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) التي تدل على وجوب جهاد المعتدين والمحتلين، وعلى قتالهم بجميع الإمكانيات والوسائل المشروعة. ومن المعلوم أن الجهاد الاقتصادي بالمقاطعة داخل في الجهاد قطعاً، وكذلك داخل في القتال معنى وعلة.
ومنها قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، وقوله تعالى:}وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا{(النساء:75).
جميع الآيات والأحاديث الثابتة الدالة على وجوب الإعداد الكامل للقوة بجميع أنواعها، مثل قوله تعالى: }وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ{(الأنفال:60)
فهذه الآية تدل أيضاً على وجوب المقاطعة الاقتصادية أيضاً، لأنها تؤدي إلى تخويف العدو المحتل من التمادي في الاحتلال، بل تجعله يفكر في الانسحاب لو تضرر ضرراً اقتصادياً كبيراً.
ومن الأدلة الخاصة على المقاطعة الاقتصادية ما رواه البخاري (4372) ومسلم (1674) وابن حبان (1239) بسندهم عن أبي هريرة: أن ثمامة بن أُثال لما أسلم سافر إلى مكة للعمرة، وقال لأهل مكة: “والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم”[1]، فالحديث واضح في وجوب استخدام المقاطعة الاقتصادية، في الضغط على العدو وإجباره على وقف عدوانه.
جميع الآيات والأحاديث الدالة على وجوب التعاون على البر والتقوى، وحرمة التعاون على الإثم والعدوان، منها قوله تعالى: }وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{(المائدة: 2)، والأحاديث الدالة على حرمة كل ما يساعد المعتدي أو العاصي على عصيانه، وعلى سد الذرائع الموصلة إلى المعاصي، مثل بائع الخمور وصانعها، وإن لم يشربها.
خامساً: إن التكييف الشرعي لأموال المحتلين وثروتهم المكتسبة في البلاد المحتلة، هو أنها أموال منهوبة ومكتسبة من غصب باطل ومحرم شرعا، وبالتالي فهي مكاسب محرمة شرعاً، لا يجوز للمسلمين شراؤها ولا بيعها، ولا استيرادها ولا تسويقها، ولا أي انتفاع بها.
وقد وردت آيات كثيرة وأحاديث صحيحة تدل على ذلك، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم في غصب الأرض: “من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طُوقه من سبع أرضين ” متفق عليه.
وكذلك حكم كل ما بناه الغاصب من مصانع ومبان، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس لعرق ظالم حق” رواه الترمذي.
حتى قال الفقهاء: “إنه لا قيمة للعقود والاتفاقيات الواردة على الأرض المغصوبة، ولذلك تكون الأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان”. وقالوا: “لا يجوز الشراء من السوق المقامة على أرض مغصوبة”، كما أكدوا حرمة أداء الصلوات على أي أرض مغصوبة، وبعضهم قالوا ببطلانها.
وبناء على ذلك فإن كل من يشتري أو يسوق منتجات المحتلين الغاصبين فهو آثم ومشترك في هذه الجريمة[2].
سادساً: أن قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد تقتضي وجوب المقاطعة الاقتصادية على مستوى الأمة الإسلامية أفراداً وجماعات ودولاً، لأنها تؤدي فعلاً إلى إيذاء العدو المحتل وردعه، فيكون تعاوناً على البر والتقوى، في حين أن شراء منتوجات المحتلين عونٌ لهم ودعم لهم، فيكون حراماً قطعاً، وداخلاً في ولاء الكفرة المعتدين، وقد حرّم الله ذلك بأدلة كثرة منها قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ{(الممتحنة:1-2).
وقد ذكر الفقهاء أن إعانة الكفار على المسلمين تشمل الإعانة بالقتال معهم، وإعانتهم بالمال، أو السلاح، أو بالتجسس لهم على المسلمين أو نحو ذلك، وهذه الإعانة على وجهين:
الوجه الأول: أن يعينهم بأي إعانة، محبةً لهم، ورغبة في انتصارهم على المسلمين، فهذه الإعانة كفر مخرج من الملة.
الوجه الثاني: أن يكون الدافع الخوف منهم، أو تحقيق مصلحة شخصية لديهم، ففي هذه الحالة لا يكون عونهم كفراً، ولكنها كبيرة من الكبائر[3].
الخلاصة:
أن الأدلة الشرعية القاطعة، والمقاصد الشرعية، والمصالح المعتبرة، تدل على وجوب المقاطعة الاقتصادية لجميع السلع والبضائع والخدمات والتقنيات التي يُنتجها المحتل الغاصب، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا استيرادها، ولا الانتفاع بها، ولا تسويقها وترويجها؛ لأن هذه المنتجات كلها تدخل ضمن المال المغصوب أو ما ينتج منه، ما دامت متولدة عن اغتصاب الأراضي والمزارع والمنازل والمياه، وناتجة عن دولة الاحتلال وعصابات المستوطنين المحتلين. وإن كل من يشارك في ذلك بالبيع والشراء ونحوهما، فإنه مشارك في جرائم الاحتلال وفي أكل المال المغصوب والسحت، ومشارك في الإثم والعدوان، حسب ما نطقت الأدلة الشرعية.
لذلك فالواجب على المسلمين جميعاً الاستمرار في المقاطعة الاقتصادية التامة، إلى أن ينتهي الاحتلال تماماً على جميع أراضينا المحتلة، وبخاصة قبلتنا الأولى والقدس الشريف.
هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أ.د. علي القره داغي الأمين العام
أ.د. أحمد الريسوني الرئيس

[1] رواه البخاري (4372) ومسلم (1674) وأحمد (12268) وابن حبان في صحيحه (4708)، وقد صححه الكثيرون

[2] ( يراجع بدائع الصنائع (7/143) والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/442) والمهذب (1/367) والمغني لابن قدامة (5/220).

[3] الأحكام السلطانية للماوردي ص 236، ومجموع الفتاوى (18/300، 25/331) واقتضاء الصراط المستقيم (1/241) وأحكام أهل الذمة (1/479) ورسائل علمية في الولاء والبراء .

نقلاً عن موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:
https://www.iumsonline.org/ar/ContentDetails.aspx?ID=12917