28/2/2025
سلاح الوعي
إن مواجهة الباطل والانتصار عليه، والنيلِ منه، وزواله من الأرض، والقضاء على تسلطه على العباد، وتطاوله على الحق، وتسلط الإنسان على أخيه الإنسان، واعتداء بعض الأمم على أرض خيرها وسلب حقوقها، كلّ ذلك يخضع لقوانين وسنن ربانية، لا تحيد ولا تتخلف، ولا يمكن لأحد تجاوزها، ولا القفز من فوقها، وقد عرض القرآن الكريم المرتكزات الأساسية لهذه السنن، وحثّ المؤمنين على السير في الأرض، والاعتبار بأحوال الأمم الغابرة والتفكّر بسبب انقراضها وتداعيها؛ لتكون الأمة المسلمة على بينة من أمرها، وبصيرة بمواضع أقدامها؛ ومن هنا كان لابد من العودة إلى القرآن والتحقق برؤيته في طبيعة الصراع مع الصهاينة، وإدراك السنن التي يخضع لها الصراع بين الحق والباطل لررؤية أبعاد القضية الفلسطينية الضاربة في أعماق التاريخ وحقائقه السننية، وامتداداتها وتشعباتها وتشابكها، وتأثيراتها، ومآلاتها ومستقبلها، فنجد القرآن الكريم يكشف لنا عن جذور القضية وطبيعتها وبعدها العقائدي السنني، ويكشف طبيعة العدو وصفاته الماكرة الخبيثة، ومستقبل الصراع المبني على وعد الله في سورة الإسراء المسمى ب”وعد الآخرة” وفق الرؤية القرآنية بوصفه حتمية سننية، وقانونا إلهيا، ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [ الإسراء:7]، ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: 104] ومعركة وعد الآخرة المذكور في سورة الإسراء مرتين، معركة حاسمة وحدَث عظيم ينتظره المؤمنون، ومواجهة شاملة ودامية بين أهل الإيمان وأهل الكفر، واليهود المحتلون لأرض فلسطين يساقون لفيفاً من مختلف أصقاع العالم لموعد الآخرة بمقتضى هذا القانون الإلهي الذي هو من صميم سنته في الصراع؛ لمواجهة قدرهم المحتوم، وشهود نهاية إفسادهم، وزوال كيانهم عن بيت المقدس في القريب العاجل إن شاء الله.
وقد كشف لنا القرآن الكريم عن الشخصية اليهودية الماكرة، وطبيعتها الخبيثة، وانحرافها، واعوجاج سلوكها وحقدها الدفين على الإسلام، وموقفها العدائي من المؤمنين، فقال: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [ المائدة:82]، ومعرفة العدو عملية استطلاعية متقدمة نخوضها على الأرض، وهي بداية الاشتباك ومقدمة الصدام، والوعي بطبيعة شخصية العدو من أهم الأسلحة في كسب المعركة مع العدو الصهيوني، وهي جزء لا يتجزأ من المعركة، وهي بداية الطريق للانتصار عليه، ومعرفة الجذور التاريخية للصراع، وشخصية العدو، وتركيبته النفسية، ومعرفة قوة الخصم شروط ضرورية لإحداث التغيير الحقيقي الفاعل والمؤثر في تحولات الصراع.
ومن هنا فإن مصير المعركة مع اليهود على أرض فلسطين مرهون بفهم هذا العدو، ومعرفته على حقيقته معرفة محيطة ومستوعبة، ومعرفة تركيبة نفسيته، ومقومات شخصيته، وأخلاقه وصفاته، وأحلامه وطموحاته، ومنطلقاته الفكرية والعقائدية، ومعرفة مخططاته، وأدواته ووسائله، وما الذي يجمع شعبه وما الذي يفرقه، وما هي نقاط قوته وما هي نقاط ضعفه، وما هي أسبابه الذاتية، وما هي أحلافه وأسبابه الخارجية؟ وغير ذلك من الإمكانات والمقومات كي نفهم التفاصيل الدقيقة التي تكشف لنا ماهية هذا العدو المتغطرس، وندرك حقيقته، ونبني استراتيجية المواجهة معه على أساس صحيح يعتمد على المعلومات الأمنية والعسكرية المستمدة من الواقع؛ حتى نتمكن من هزيمته وطرده من أرضنا المقدسة.
ولهذا، فليس عبثا أن تكون المساحة التعبيرية للحديث عن اليهود كبيرة، وقد استغرقت السور الطويلة في القرآن، فتناولت صفاتهم، وأخلاقهم، وجرائمهم في قتلهم الأنبياء، ونكثهم العهود، وأكل أموال الناس بالباطل، والشهادة للكافرين أنهم أهدى من المؤمنين سبيلاً، ومكرهم، وكيدهم، وخيانتهم، وخديعتهم وغيرها، إن هذه الرذائل متأصلة في جبلتهم تنتقل من جيل إلى جيل، ولا يختلف الأحفاد فيها عن الأجداد، ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم أحصى عشرين خلقا وصفة ذميمة لليهود تتوارثها أجيالهم، وتسري في عروقهم، وكأنها جينات لا تنفك عن تكوينهم وفطرتهم( )، فالشخصية اليهودية مجمع الرذائل والقبائح، مجردة من كل خير وفضيلة؛ لذلك يشكّل اليهود خطرا حقيقيا يهدد الإنسانية جمعاء، والأمة الإسلامية على وجه الخصوص، فعداؤهم للمسلمين قديم، ومكرهم عظيم، وصراعهم معنا طويل وممتد منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يخفى عليكم -السادة الأعزاء- أن الوعي بطبيعة الصراع وجذوره وأبعاده ومستقبله وآثاره جزء لا يتجزأ من المعركة، وعنصر أساس في تحريك وتفعيل دور الأمة في المشاركة والنصرة، وقد رافقت عملية الطوفان كتابات علمية سياسية واستراتيجية وإعلامية وتحليلية كثيرة، وبقي الجانب الشرعي والسنني التأصيلي والتنزيلي لهذه المعركة خافتا من الأبحاث الرصينة، والرؤية الاستشرافية المتحققة بالرؤية القرآنية والقراءة السننية للصراع، وقد انبرت مجلة المرقاة لملأ هذا الفراغ، وسد الثغرة العلمية، فخصصنا هذا العدد من مجلتنا ليكون لبنة قوية وإسهاما في التأصيل العلمي، وإثارة الوعي السنني المتحقق بالرؤية القرآنية لطبيعة الصراع وجذوره وخلفياته العقدية والفكرية، وقد شاركَ في إثراء هذا العدد المبارك أساتذة أفاضل منهم الدكتور جميل عدوان الذي تناول موضوع “الصِّرَاعُ عَلَى الْمُصْطَلَحِ مع الكيان الصهيوني”، والدكتور رمزي كريم “دَوْرُ العُلَماءِ فِي نُصْرَةِ مَعْرَكَةِ الطُوفانِ: بَيْنَ الواقِعِ، وَالمَأْمُولِ” والدكتور كمال الصيد الذي تناول “الأبعاد الاستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى رؤية سُننية”، والدكتور علي المر الذي قام بتحليل آيات سورة الإسراء في بحثه “معركة الطوفان ووَعْدُ الآخِرَةِ في ضوء سورة الإسراء ” والأستاذ محمد الرزيقي الذي تحدث عن “دور الشيخ أحمد الخليلي مفتي سلطنة عمان في نصرة القضية الفلسطينية” وعلى أهمية هذه الأبحاث وقيمتها العلمية، وتقديرنا الكبير لأصحابها، فإننا ندعو العلماء والباحثين لمزيد من البحث والتأصيل العلمي الفقهي لمعركة طوفان الأقصى ونوازلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية و العسكرية، وآثارها وانعكاساتها على مستقبل الصراع.
وختاما الله نسأل الفرج القريب لأهلنا في غزة، وأن يقوي صمودهم، ويشدّ عودهم، وينصرهم على عدوهم.