خاص هيئة علماء فلسطين
28/7/2024
الكاتبة: رانية محمد نصر/ ماجستير صحافة إذاعية وتلفزيونية / مسؤولة اللجنة الإعلامية في قسم المرأة هيئة علماء فلسطين
فلسطينية من مواليد الأردن، عضو هيئة علماء فلسطين، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كاتبة في عدة مواقع، باحثة دكتوراه في الاتصال السّياسي، حاصلة على الماجستير في الصحافة الإذاعية والتلفزيونية من جامعة لنكولن في ماليزيا، وعلى البكالوريوس في الصّحافة والإعلام من جامعة القاهرة في مصر، والليسانس في الفقه وأصوله من جامعة اليرموك في الأردن، ناشطة ومحاضرة في المجال الإعلامي والشّرعي والفكر النسوي وقضايا المرأة.
تعريف مختصر بالكتاب:
يناقش الكتاب أهمية الإعلام في عملية التأثير والتغير الفكري والسلوكي فضلاً عن أثره في الإعداد والإسناد وصولاً للتمكين،
جمع الكتاب ما بين الجانب الشرعي والإعلامي في تحليل معركة “طوفان الأقصى” التي لم تكن حرباً كغيرها من الحروب؛ فلقد قلَبَت قواعد اللعبة السّياسية وأثّرت في الرّأي العام الإقليمي والعالمي، وصنعت حالةً فريدةً ونموذجية في تاريخ المقاومة والقضيّة الفلسطينيّة، وجاءت نتائجها صادمةً للعالم بأسره، كانت طوفاناً حقيقياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، طوفاناً فكرياً وتربوياً وإيمانياً وروحياً أعاد بناء المفاهيم وضبْط المعايير، وأعاد بناء الإنسان ومفهوم العالم لمعنى “إنسان”، فمن هو الإنسان الذي ينافح الغرب في الدّفاع عن حقوقه؟ وأين حقوقه في ظل انتهاكها في غزة؟! وهل سقطت الأنظمة العالمية اليوم في اختبار الأخلاق والقيم وتكشّفت سوأتُها في غزة؟!!
نخوض اليوم معركةً شرسةً على المستوى الإعلامي فضلاً عن المستوى العسكري والميداني، لكن المعركة الإعلامية أشد خطراً من غيرها من المعارك؛ ذلك لما للإعلام من أهمية بالغة في التّحكم في العقول والسيطرة على التوجهات والقرارات، وتوظيف ما يُسمى بسياسة الحرب الباردة؛ فتزداد أهميتُه بزيادة خطورة المُهمّة التي يؤدّيها، خاصةً في زمن الحروب، ويناقش هذا الكتاب أهمية الإعلام في عملية التأثير والتغيير الفكري والسلوكي؛ فضلاً عن أثره في الإعداد والإسناد وصولاً إلى النّصر والتّمكين.
وإضافة إلى نظراته الإعلاميّة؛ يأتي هذا الكتاب مُقارباً لبعض القصص من القرآن الكريم والمواقف من السيرة النّبوية التي تُلقي بظلالها على طوفان الأقصى؛ مستخلصاً الدّروس والعِبر والفوائد والفرائد، فالشريعة مُتّكأ الاعتقاد ومبعث الإيمان والأفكار ومنطلق العمل والتطبيق، ومسعى الفلاح في الدنيا والآخرة، إضافةً إلى هذا كلّه رَدّ الكتاب على الشُّبهات التي أثارها المُرجِفون في سياق هذه الحرب من جانب تأصيلي آملاً أن يقدّم إضافة نوعية ومُميّزة للقارئ الكريم.
————-
عدد الصفحات: 120، القياس: 21.5×14.5سم، الطبعة الأولى 1445هـ-2024م، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
ISBN: 978-625-6451-97-1
لتحميل الكتاب نسخة pdf :
https://drive.google.com/file/d/17Of-mwc9z59Ox0WJVpDrBZ9jnbxE3m4f/view?usp=sharing
يطلب من: مكتبة الأسرة العربية / الفاتح إسطنبول
00902126318109 – 00905550281155
https://www.ufuknesriyat.com/ar
———
رابط تحميل جميع الكتب السابقة نسخة pdf:
https://drive.google.com/drive/folders/1ybDHo-ik67M9huwrryQfF49gAVx_2Pj8
معركة
طوفان الأقصى
“نظرة إعلاميّة .. ومقاربة شرعيّة”
رانية محمد نصر
إسطنبول 2024
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
ففلسطين الحاضرة دوماً في وجدان الأمة الإسلامية، لا تكاد تنتهي من حربٍ إلا وتلِج في أخرى، لكن معركة طوفان الأقصى التي وقعت في 7 أكتوبر 2023 لم تكن كبقية المعارك، كانت طوفاناً حقيقياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، طوفاناً فكرياً وطوفاناً تربوياً وطوفاناً إيمانياً وطوفاناً روحياً أعاد بناء المفاهيم وضبْط المعايير.
نخوض اليوم معركةً شرسة على المستوى الإعلامي فضلاً عن المستوى العسكري والميداني، لكن المعركة الإعلامية أشد خطراً من غيرها من المعارك؛ ذلك لما للإعلام من أهمية بالغة في التّحكم في العقول والسيطرة على التوجهات والقرارات والممارسات؛ فتزداد أهميتُه بزيادة خطورة الدّور الذي يؤدّيه، خاصةً في زمن الحروب؛ إذ إنّ الحروب الميدانية عادةً ما تسبقها حروب إعلامية تهدف إلى إيقاع الهزيمة النفسية في وجدان الناس تمهيداً للهزيمة العسكرية، وهذا ما يؤكده الخبراء في المجال العسكري والسياسي والإعلامي والمختصّون في الحروبِ النفسية وبالتالي تأتي عملية النصر الميداني مكمّلة لما يحققه الانتصار الإعلامي.
وكثيرة هي أدوات الإعلام التي تُوَظَّف في السيطرة على العقل الباطن والحالة الوجدانية للجماهير، منها نشر الشائعات والبروباجندا والأكاذيب والتّشكيك والتكرار والتّخويف والاستعطاف وافتعال الأزمات وغيرُها من الأساليب المعروفة إعلامياً.
واليوم يجيّش العدو كل إمكاناته الإعلامية في خدمة مشروعه، وعندما نتحدث عن الإعلام لا نقصد به هنا الأدوات والوسائل من تلفزيون وإذاعة ومنصات تواصل رقمي فحسب؛ وإنما نريد الإعلام بمفهومه الواسع القادر على تشكيل الرأي العام وتوجيهه والمؤثِّر في العقول والقناعات لإحداث التغيير في التّوجهات والسلوك.
ففي الوقت الذي يقوم به العدو بتقييد الرواية الفلسطينية وحظرها مقابل تكريس الرواية الصهيونية -كما شاهدنا في معركة طوفان الأقصى عبر الإعلام وأدواته-؛ يقوم كذلك بجهود حثيثة لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي عبر الجهود الدبلوماسية الرقمية وغيرها من خلال الإعلام وأذرعه للتّخفيف من حدّة معارضة الرأي العام تجاه ما يمارسه من جرائم حرب وإبادة جماعية.
نعيش اليوم عصر الحرب بالإعلام، ومن الضرورة بمكان الوعي بمدى قدرة الإعلام على تغيير موازيين المعادلة، لا ننكر أن إخواننا في أرض المعركة قد أبدعوا في الجانب الإعلامي من خلال توثيق العمليات النّوعيّة وكشف كذب ادعاءات العدو وخداعه، وبالرغم من الإمكانات والقدرات المحدودة، لكنه ولأول مرة يُشعِرنا وكأننا نشاركُه المعركة من خلال تلك التوثيقات البارعة التي زادت من رفع معنويات الجماهير وأظهرت الجانب الإيجابي من الحرب، فهذه التوثيقات بالرغم من أنها لا تُشكّل إلا نسبة ضئيلة من واقع ما يحدث من إنجازات حقيقية وأسطورية من صمود وثبات وإثخان في العدو في غزة؛ إلا أن هذه النسبة استطاعت التأثير إيجابياً في جماهير الأمة مما حقّق النصر النفسي، وهذا بحد ذاته كان وقوداً ودافعاً لتقديم المزيد من الدعم والإسناد والاستمرار.
ومن جانب آخر؛ لا نستطيع إغفال جهود الصحفيين والمراسلين والمذيعين الإعلامية في أرض المعركة والمتجسدة في التغطيات الحيّة والمرئية لصور المعاناة من قتل وجوع وإبادة ودمار مما ساعدت في زيادة كسبِ تأييد الرأي العام العالمي لصالح الرواية الفلسطينية حتى من قِبل الشعوب غير المسلمة.
نقف اليوم على الثغر الإعلامي والذي يُعد من أهم الثغور وأشدِها خطراً في التّحكم في النتائج والسّيطرة على المشهد؛ ولا سيّما إذا تم فهم لغته وامتلاك أدواته ووُظِّفَ بشكل صحيح وحصيف لصالح قضايانا العادلة وعلى رأسها المقدسات والمسجد الأقصى تكريساً للرواية الفلسطينية التي لطالما تم محاربتها وحجبها عن الناس بل وتجنيد الطاقات والأموال الطائلة لهذا الغرض.
وجاء هذا الكتاب – وكثير من مقالاته تم نشرها في مواقع مختلفة- ليُلقي نظراته الإعلامية ومقارباته الشرعية على معركة طوفان الأقصى متناولاً إيّاها بالتفسير والتحليل في محاولة لتسليط الضوء على أهمية الإعلام ودوره في الإعداد والإسناد وصناعة النصر أداةً رئيسة في عملية التأثير والتغيير الفكري والسلوكي، ومُقارِباً لبعض المواقف النبوية التي سبقت إلى هذا العلم وكانت رائدة في هذا الفن من قبل حتى أن يُنظِّر له الغرب ويُدّون فيه.
ومن جهة أخرى جاءت بعض مباحثه لتناقش أسباب خفوت الأصوات المنادية بحقوق الإنسان في ظل معركة طوفان الأقصى! هذا الطوفان المُقدّس الذي أعاد بناء الإنسان ومفهوم العالم لمعنى “إنسان”، فهل مفهوم الإنسان في المخيال الغربي مُتغير ومعاييره غير ثابتة؟؟ فمن هو الإنسان الذي ينافح الغرب في الدفاع عن حقوقه؟ وأين حقوقه في ظل انتهاكها في غزة؟! وهل مفهوم الإنسانية يختلف من عقل إلى آخر ومن نطاق إلى آخر؟ وهل تؤثر في معنى الإنسانية اليوم المصالح السياسية والدولية والأنظمة العالمية؟!! وهل سقطت هذه الأنظمة في اختبار الأخلاق والقيم وتكشّفت سوأتُها في غزة؟!!
لقد صدرت عدة إصدارات وأبحاث عن معركة طوفان الأقصى منذ بداية الطوفان وإلى تاريخ إصدار هذا المؤَّلَف، لكن أحداً لم يتناولها من الجانبين الإعلامي والشرعي معاً -على الأقل فيما اطّلعت عليه-، وهي زاوية جديدة تمزج ما بين الجانب الشرعي وهو من الأهمية بمكان؛ حيث إنه مبعث الإيمان ومُتّكأ المعتقدات والأفكار ومنطلق العمل والتطبيق، ومسعى الفلاح في الدنيا والآخرة، والجانب الإعلامي وهو الجانب الأشد خطورة اليوم؛ إذ يعتمد على سياسة الحروب الباردة لتشكيل ثقافة الناس ومعارفهم، فضلاً عن تناول بعض الزوايا الأخرى مثل الجانب التربوي والقيمي والحقوقي؛
وبهذا أرجو الله أن يقدّم هذا الكتاب إضافة قيّمة ونوعيّة للقارئ، تزيد من دافعيّته للتفاعل مع قضايا الأمة العادلة أولاً ومع قضية فلسطين والمسجد الأقصى ثانياً، فإن وُفِّقت لما فيه؛ فمن الله وحده، وإن اعتراه شيء من الزّلل والشّطط؛ فمن نفسي القاصرة عن الكمال سائلةً المولى الإخلاص والقبول.
رانية محمد نصر
24/4/ 2024م
إسطنبول
فهرس الموضوعات | ||
ر.م | الموضوع | رقم الصفحة |
1 | تقديم الدكتور …. | |
2 | تقديم الدكتور ….. | |
3 | مقدمة المؤلف | |
4 | فهرس الموضوعات | |
5 | فقه الاشتباك الإعلامي ومشروعيّته في مقاومة الاحتلال | |
6 | طوفان الأقصى وفلسفة التّجديد | |
7 | تجليّات النّصر والفتح في معركة طوفان الأقصى | |
8 | الحصاد التربويّ والقيميّ لطوفان الأقصى | |
9 | معركة الطوفان والقانون الدولي لحقوق الإنسان | |
10 | الشّامخات برغم القهر والألم | |
11 | الرأي العام والحروب النّفسية بين الرّاهب والغلام ومعركة الطّوفان | |
12 | المراسل الحربي والعمليات النفسية بين معركة الطوفان وحذيفة بن اليمان | |
13 | دور الخطاب الإعلامي العسكري في إسناد معركة الطوفان “المنهج النّبوي نموذجاً” | |
14 | معركة الطوفان و”الإدارة بالأزمات”! | |
15 | شُبُهات حول طوفان الأقصى والرّد عليها | |
16 | مظاهرات الجامعات الأمريكية؛ مأزق فكري وأخلاقي وأزمة واقع!! | |
17 | تجليّات التّسليم الرّاشد في مواقف الخليل -عليه السلام- “وفي حضرة الطّوفان” | |
18 | كلمـــــــــــــــــــــة أخـــــــيرة |
فقه الاشتباك الإعلامي ومشروعيّته في مقاومة الاحتلال
في هذا المبحث أستعرض التأصيل لمشروعية الاشتباك؛ وهو أحد وسائل الجهاد بمفهومة الواسع، وقد لا نحتاج للاستطراد في الحديث عن مشروعية الجهاد إذ إنه من قطعيّات الشريعة؛ لكن نحتاج للتّأسيس لبعض المفاهيم ابتداءً التي سينبني عليها ما سيأتي لاحقاً من تأصيلٍ لمشروعية الاشتباك الإعلامي والرّقمي.
لم تذكُر كتبُ الفقه والتراث الإسلامي مصطلح “فقه الاشتباك” كمركّب لفظي مكون من كلمتي “الفقه” التي تختصّ بالأحكام العملية الشرعية و”اشتباك” والتي كثيراً ما تُستخدم في كتب العلوم العسكرية والأمنية والسياسية، لكن مستجدات الأحداث على أرض الواقع تؤسِّس لمصطلحاتٍ مفاهيمية حاضرة في أذهان الناس وعقولهم ابتداءً.
وبالرغم من أن هذا المفهوم ليس بجديد كاستراتيجية تطبيقية؛ حيث إنه أحد الأدوات الدفاعية والهجومية -بحسب ما يستدعيه الموقف-؛ إلا أنه جديد كمصطلح لفظي مُركّب، فما معناه وما مدى مشروعيّته وما أهدافه التكتيكية والاستراتيجية؟
معنى الاشتباك
الفقه بمعناه الاصطلاحي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المُكتسبة من أدلتها التفصيلية، والاشتباك بمعناه اللغوي هو التّداخل والتّشابك وهو الالتحام والتضارب بالأيدي، والاشتباك في الحديث؛ هو الدخول في نقاش حادٍ، واشتبك مع العدو: أي التَحم أو شَرعَ معه في حرب.
والاشتباك بمعناه العسكري؛ هو تداخل المتحاربين واختلاطهم هجوماً ودفاعاً كراً وفراً لاعتقادهم بأحقية ما يقومون بالدفاع عنه سواء كان حقاً مادياً أو معنوياً.
وعندما توضع كلمة “فقه” بإزاء كلمة اشتباك يتشكّل لدينا مفهوم أو تصوّر حادثٌ مقتضاه مشروعية الاشتباك مع العدو، وفي هذا المقام نتحدث عن الاشتباك الإعلامي تحديداً دون المعاني الأخرى وسيأتي تفصيله -بإذن الله-.
الألفاظ ذات الصلة
المناورة؛ والمناورة هي عملية عسكرية فيها فِرقٌ من الجيش يقاتل بعضها بعضاً على سبيل التدريب، وهي إحدى الأعمال التي يتم من خلالها إحباط خصمٍ أو العمل على كسب العديد من المميزات، واستَعمَل هذا اللفظ المنظّرون العسكريون للتّعبير عن خوض حرب بهدف تحقيق هزيمة الخصم من خلال شَلّ قدرته على اتخاذ القرار عبر الصدمة المفاجئة والإرباك الذي تجلبه الحركة باستخدام أساليب استراتيجية مدروسة، وهي كذلك التّحرك السريع لإبقاء العدو غير متوازن، والاشتباك والمناورة يتفقان في هدف التّغلب على العدو من خلال مباغتَتِه لإرباكه والسيطرة عليه ويختلفان في أنّ الاشتباك قد يكون جماعياً أو فردياً أما المناورة فغالباً ما تكون جماعية.
الالتحام؛ التحام الجيشين أي: اشتباكهما واختلاطهما وتداخلهما وتقاتلهما، واِلْتَحَمَ أي التصق، والْتحمَتِ الحرب أي: اشتدت، وتتشابه كلمة الالتحام مع التشابك في هدف مقاتلة العدو وهزيمته، قال ﷺ: “إن فُسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام” سنن أبي داود، والملحمة هي الحرب العظيمة التي تكون بين المسلمين والكفار، وهو تعبير عن التقاء الصّفّين.
الالتقاء؛ وهو مقابلة العدو في الحرب، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ آل عمران: 155، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ محمد: 4، فعبّر الشّارع عن نشوب الحرب بين المؤمنين والكافرين بكلمة “اللقاء”، وجاء في الحديث النبوي “لا تتمنّوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية”صحيح البخاري، ونخلص مما سبق إلى أن كلمة الاشتباك هي جزء من منظومة الالتقاء بالعدو في ساح المعركة، بل هي مقدمة الالتقاء وما يستتبعه من مناوشات، وبدون هذا الاشتباك لا يكون الالتقاء والالتحام!
وجدير بالذكر أن كلمات مثل: مناورة، والتحام، واشتباك قد نجد لها جذوراً في المعنى اللغوي؛ إلا أنها لم تُذكر في النصوص القرآنية كمصطلحات شرعية لها دلالات فقهية بخلاف كلمة الالتقاء التي ذُكرت أكثر من مرة في القرآن الكريم للتعبير عن دلالة إقامة الحرب مع العدو.
مشروعية الاشتباك
الاشتباك بكل ألفاظه ومفاهيمه هو أحد الأدوات المعينة على إرباك خطط العدو الباغي، قال علي –كرم الله وجهه- لابنه: “لا تَدعُ أحداً إلى المبارزة، ومن دعاك لها فاخرج إليه؛ لأنه باغٍ، وقد ضمن الله نصر من بُغِيَ عليه”، إذن فالخروج والاشتباك مع العدو واستدراجه للالتحام مع أبناء المقاومة عمل فيه طاعة لله، بل هو واجب شرعي على كل مُستطيع قال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ البقرة:194، والأمر هنا للوجوب ما لم تصرفه صارفة، والاعتداء يجب أن يقابَل باعتداء مماثل -إذا غلب على الظّن تحقيق مصلحة راجحة مُتحققة الوقوع- دفعاً للظلم ورداً للعدوان والطغيان والبغي، ويُعدّ الاشتباك جزءاً من منظومة الجهاد في الإسلام؛ حيث شُرِع للدفاع عن الأنفس والحقوق، ولا تُشرع المباشرة به لمَن سالَمَنا والذين تربطنا بهم عهود ومواثيق حسب المبادئ الدستورية العليا في الإسلام، قال تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ النساء: 90.
أهداف الاشتباك التكتيكية والاستراتيجية:
الأهداف التي يحققها الاشتباك على المستوى التكتيكي كثيرة ومطلوبة منها: إرباك العدو وإرهابه، وقذف الرّعب في قلبه وزعزعة أمنه، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال 60، وأيضاً من أهدافه إظهار القوة والتّماسك في صفوف المسلمين، وتحقيق عبادة الإغاظة والنّيل منهم بأي شكل من أشكال الإصابة والأذى، والنّكاية به من المقاصد الشرعية المُعتبرة ومن العبادات الأصيلة، قال تعالى: ﴿ولا يطئونَ مَوطِئاً يَغيْظُ الكفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عدوٍّ نَيْلاً إلا كُتبَ لهُمْ بهِ عَمَلٌ صَالح﴾ التوبة:120، فإزعاج الظالمين والتنغيص عليهم وإرهاقهم يعتبر عبادة من العبادات الجليلة، لما تحمل في طيَّاتها من تأكيد الولاء لله تعالى ولرسوله ﷺ وللمؤمنين، وتعزيز البراء التّام من أعداء الله المجرمين والمُعتدين، وبهذه العبادة يشفي الله صدور قوم مؤمنين، ويجلب غيظ المجرمين، وإن من الواجب إزاء هذه العبادة الكريمة أن يُعدَّ المسلم لها عُدتها وأن يحّضر للإغاظة والنيل تحضيراً مناسباً، ولعل من صُور الإغاظة هذه ما فعله إبراهيم عليه السلام يوم أغاظ قومه وأزعجهم بتحطيم أصنامهم وتحدي كبريائهم، قال تعالى: ﴿قال تالله لأكيدنَّ أصنامَكُمْ بعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدبرين﴾ الأنبياء: 57.
وهكذا يُطلب من المسلم إزاء عبادة الإغاظة هذه أن يُحطم كبرياء الطواغيت والمجرمين، وأن يأتي على عروشهم الزائفة باليد أو بالكلمة أو بالإشارة أو بالحال والمال، أو بأيِّ شيء يُنكِّس به أعلامهم وراياتهم، ويُعرّفهم بحقيقة أنفسهم الصغيرة.
أما على المستوى الاستراتيجي فكذلك الأهداف تُعدّ معتبرة ووجيهة مثل إفشال مخططاته، والضغط على القرارت السياسية والدولية، وإخضاعها لإرادة الحق، وكسب الرأي العام وإعادة توجيهه ليصب في مصالح أصحاب الاستحقاقات وصولاً لرفع الظلم والطّغيان وتحقيق العدالة على الأرض.
الاشتباك والضروريات الكلية الخمسة:
حِفظ النّفس ليس غاية مطلقة في الدّين الإسلامي؛ بالرغم من أنها إحدى الكليات الخمس المشروعة التي اعتبرها الشارع من أعلى مقاصد الشريعة، قال الإمام الغزالي: “إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”، لكن في الوقت ذاته هذه الكليات مُرتّبة حسب الأولويات، فمنها ما هو مُقدّم على الآخر كتقدّيم حفظ الدّين على النفس، فمتى تعذّر حفظ الدّين بُذِلت النفس رخيصة في سبيل الدفاع عنه، ولذلك شُرع الجهاد في سبيل الله، فلا معنى لحفظ النفس والدّين مستباح الجانب!! وهو مقدم في الأولويات على بقية الكليات.
فالاشتباك الفردي مع العدو يحقق مقصد الدفاع عن الدّين حال تعذّر الجهاد الجماعي وحال أحبطت كل الجهود الساعية لتحقيقه، والاشتباك الفردي قد يأخذ أبعاداً أوسع من النطاق العسكري، فقد يكون اشتباكاً إعلامياً ورقمياً أو حقوقياً وقانونياً أو اجتماعياً وهكذا..
الاشتباك الإعلامي وواجب المقاومة به
إذن؛ فالاشتباك نوع من أنواع المقاومة، وتحديداً الاشتباك الإعلامي الذي يستطيعه كل مستخدم للتكنولوجيا، والواجب دعم أهل غزّة وشبابها في صد عدوان الاحتلال لحماية المقدسات الإسلامية وإزالة الاحتلال البغيض، وهذا الواجب مَعنيٌ به كل أبناء الأمة الإسلامية وأحرار العالم، فمتى تعذر الجهاد الميداني لا تتعذر الوسائل الأخرى خاصة في عصر التقنيات الحديثة والتكنولوجيا، فالمقاومة اليوم قد تتحقق من خلال التطبيقات المعاصرة مثل اليوتيوب والفيسبوك والتيك توك والانستغرام والسناب وغيرهم، فلا بد من تثوير القضية الفلسطينية في وجدان النّاس وتصديرها في منصات التواصل الاجتماعي على أنها قضية حقوقية عادلة ذات استحقاق، إضافة إلى نشر الرواية الفلسطينية ودعهما خاصة بعد أن كشفت معركة طوفان الأقصى حجم التواطؤ الرقمي عليها في مقابل تكريس الرواية الصهيونية.
وعليه فإن الاشتباك الإعلامي بشكل عام والرقمي بشكل خاص يقع في دائرة الواجب العيني الذي لا يُعذر به تاركه؛ لا سيّما مع قلة مخاطره ومحاذيره وزيادة فائدته وفعاليته في ظل القيود العالمية على الحراك الميداني وفي ظل القبضة الأمنية وسطوة الحكومات التي تقوم بقمع المظاهرات والاعتصامات فضلاً عن تعذر الجهاد، وإذا كان الجهاد بمفهومه الشرعي -وهو ذروة سنام الإسلام- مُتعَيّناً على كل مسلم قادر -كما أفتى كثير من العلماء اليوم- فمن باب أولى أن يتعيّن ما هو أدنى منه درجة، والقاعدة الفقهية تقول: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، وعليه؛ يَتَعَيّن الاشتباك الإعلامي والرقمي على كل مستطيع.
وقد أمر الله -عز وجل- نبيه ﷺ بتحريض المؤمنين إذ هو أحد أدوات تشكيل الرأي العام قال تعالى:﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا﴾ النساء: 84، فكانت علّة التّحريض ابتداءً كف بأس الذين كفروا، والتّحريض لا يكون إلا بالكلمات والخطابات والبيانات، وبلغة الإعلام التحريض هو “التّعبئة والتّحشيد”.
طوفان الأقصى وفلسفة التّجديد
لم تكن مجرد معركة دفاعيّة أَبْعدُ أهدافها الاستراتيجية تحرير الأرض، ولم تكن منعطفاً مفصلياً هاماً في تاريخ القضية الفلسطينيّة على المستوى السّياسيّ والعسكريّ فحسب، ولم تأتِ نتائجُها صادمةً للعدو وحلفائه والمتواطئين معه فحسب؛ بل كانت كذلك حتى للمؤيّدين والدّاعمين والمُناصرين، ولقد فاقت نتائج هذه المعركة التّوقعات كلها، وبالرّغم من الخسائر الكبيرة المُتكبّدة؛ إلا أنّ المصالح الاستراتيجية الخفيّة التي تمّ تحقيقُها -على مستوى الأمة الإسلامية- أكبر بكثير من المفاسد الظّاهرة بلا شك!
يقف العالم اليوم عاجزاً عن فهم ما جرى بكل أبعاده وسياقاته، فقد أجمع الجميع بمن فيهم المجتمع الدولي والغربي وحكوماته عن صدمته بما حقّقته هذه المعركة الملحمية الكُبرى من نصرٍ نوعيٍّ لعموم الأمة.
وإنّ مِن أبرز تجليّات هذا النّصر دخول أعداد كبيرة في الدين الإسلامي، فلقد لفتَت أنظار العالم أحداث غزةَ وما يجري فيها من عدوان ظالم وانتهاك سافر للكرامة الإنسانيّة، وإنّ ارتكاب هذه الإبادة الجماعية والمجازر الوحشيّة في حق النّساء والأطفال والمدنيين العُزّل جعل أحرار العالم يتساءلون عن سبب هذا الظلم والقهر والإجرام، فأين منظمات حقوق الإنسان الدوليّة؟ وكيف يصمد هذا الشّعب أمام كل هذه المجازر والموت ويبقى ثابتاً متمسكاً بالأرض منافحاً عنها بدمه وروحه وأبنائه؟ ما عقيدة هؤلاء القوم؟ ولأجل ماذا يقاتلون؟
معركة الطوفان كانت فتحاً على هذا العالم، فتحاً معنوياً حقيقياً، فتحاً للعقول وفتحاً للوجدان، وفتحاً للأفهام، يقول رئيس المنظّمات الإسلامية في أوروبا: “لم نرَ إقبالاً على الإسلام كما رأيناه بعد أحداث غزة، كان يدخل الإسلام في اليوم تقريباً ثمانون شخصاً وارتفع هذا العدد بعد طوفان الأقصى إلى أربعمائة شخص في اليوم الواحد وفي البلد الواحد، جُلّهم من الشباب والشابات، وقد وصل عدد الذين دخلوا الإسلام في فرنسا وحدها بعد أحداث الطوفان أكثر من عشرين ألفاً، وعند سؤالهم عن سبب إسلامهم كانوا يُعلّقون السّبب بأحداث غزة، يقولون: لقد رأينا الله في غزة، ورأينا أهل غزة يعبدون الله حق عبادة، رأيناهم يقابلون كل هذا الدمار والموت والفقد والجوع والخوف بالاطمئنان والشكر والحمد!! فهذا استدعانا للسّؤال عن دينهم وعن عقيدتهم، فأمسكنا بالقرآن وبدأنا بقراءته وفهمنا كل القصة”!
نعم غزة ومقاومتها حقّقت ما لم نكن نتوقعه، وإن هذا الحدث أثبت للعالم أنّ قضية المسجد الأقصى وفلسطين قضية مركزية ومرتبطة ارتباطاً عضوياً بالأمة الإسلامية، وهما نقطتا ارتكاز مهمّتان في التأثير على العالم وتغيير وجهته، وهذا هو معنى التّجديد الذي ذكره رسولنا الكريم ﷺ في الحديث حيث قال: “إِنُّ اللهَ يبعَثُ لهذه الأُمّة على رأس كل مائة سنةٍ مَن يُجدد لها دينها” سنن أبي داود، وقد فسّر أهلُ العلم هذا الحديث فقالوا: “إن كلمة (مَن) ههنا اسم موصول تفيد الإطلاق، فيحتمل أن يكون المُجدّد فرداً، ويحتمل أن يكون طائفة مِن النّاس، وبناء عليه فلا يلزم تتبّع أسماء أفراد من العلماء في كل قرن والمفاضلة بينهم لتمييز المُجدِّد فيهم، فقد يكون كلهم ساهم في تجديد هذا الدّين وبعثه في الأمة”.
وقال الإمام الحافظ الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام: “الذي أعتقده من الحديث أن لفظ (مَن يُجَدِّدُ) للجمع لا للمفرد”، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري:”لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة (يعني قد تكون جماعة)، فإنَّ اجتماع الصّفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أنّ جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتّصافه بجميع صفات الخير وتقدّمه فيها، وأما من جاء بعده مثل الشافعي -وإن كان متّصفاً بالصّفات الجميلة- إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان مُتّصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدّد أم لا ” انتهى كلامه.
إن إطلاق وصف التجديد في قوله ﷺ: (يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) لا يلزم منه انتصار الإسلام في زمان هذا المُجدد، فقد يكون التّجديد في العلم أو القيادة والسّياسة أو الدعوة والتربية وهذا هو الراجح عند بعض أهل العلم.
وكلمة الجادّة تعني الطريق الأعظم الذي يجمع الطّرق، ويُقال خرج عن الجادّة بمعنى أخطأ وانحرف عن الحقّ والصّواب والمعنى الشّمولي للكلمة أنه إن انحرف الكثير من الناس عن جادة الدّين؛ أرسل الله لهم مَن يعيدهم إليه ويُرشدهم ويُبصّرهم به.
وجاء في الدُّرر السَّنيّة في شرح الحديث أنّ مِن رحمة الله بالأمة الإسلامية أنه يتعاهدها بوجود العُلماء أو الحُكّام، الذين ينشرون الدّين كما كان على عهد النبي ﷺ وصحابته -رضي الله عنهم-.
وقوله ﷺ: “إن الله يبعث”؛ أي: يرسل، ويُوجِدُ ويُقيّض، “لهذه الأمة”، أي: أمة المسلمين، وقيل: للعالم كله، “على رأس كل مائة سنة”، أي: انتهائها أو أوّلها، عندما يقلّ الدّين وتُهجَر السّنن ويكثر الجهل والبدع، “مَن يُجدد لها دينها”، أي: يُظهر ما نُسِيَ وهُجر العمل به من الدّين، ولفظة “مَن” عامة وتقع على الواحد والجمع، وليس فيها تخصيص المجدّدين بأنهم الفُقهاء أو العلماء فقط؛ فإن انتفاع الأمة بهم وإن كان كثيراً فانتفاعهم بأُولي الأمر والصالحين أمر واضح أيضاً، فبهم يُحفظ الدّين ويبث العدل.
وعليه؛ يصحّ حمل لفظ “مَن يجدد لها أمر دينها” على من يدافع عن راية الإسلام ويُقيم العدل والحق على الأرض بمدافعة الظلم والقهر والاستبداد من خلال الجهاد الذي فرضه -عز وجل- على المؤمنين، فبه يعود الناس لجادة الطريق القويم، وبه تكون عزة هذا الإسلام، وبالجهاد يكون الدّين مخوفَ الجناب، حرام الحمى.
معركة طوفان الأقصى أعادت للجهاد مكانته السامية في نفوس الناس بعد أن تمَّ تغييبه تماماً من المناهج التربوية إثر الخطط الممنهجة والدؤوبة لمحوه من عقولهم ووجدانهم!
ومن جهة أخرى تجلّى معنى التّجديد في الأثر الذي أحدثته معركة طوفان الأقصى في نفوس الناس؛ حيث دفعتهم للدخول في الإسلام، ولو بذل المصلحون والعلماء في الأمة -مجتمعين- الطّاقات والإمكانات كلها وذلّلوها؛ لَمَا استطاعوا إدخال هذا العدد الهائل من الناس في الإسلام دفعةً واحدة كما فعلت معركة طوفان الأقصى المباركة.
هذا إضافة للصّحوة الرّاشدة في الشباب المسلم، وعودة الكثير منهم للالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية بعد أن أدركوا الغاية من خلقهم، وأن الله لم يخلقهم عبثاً، فرؤية الموت أيقظتهم من غفلة حقيقية كانوا يعيشونها، أدركوا أن الحياة قصيرة وأنّ الدنيا لا قيمة لها وأن مآلهم إلى الله -عز وجل-.
جدّد رجال الطوفان -بفضل الله وتوفيقه- أمر الدّين لهذه الأمة، هؤلاء الذين كان معظمهم من حفظة كتاب الله، فالقرآن ربَّاهم وعلّمهم وكان لهم نوراً يضيء لهم الطريق، وهذّبت أخلاقهم السُّنة النّبوية مستهدين بها، فتقدموا للجهاد دون تردّدٍ أو تلكّؤ ثابتين على الحق موقنين بعظم مكانة الشهادة وأنها الطريق الأقصر للخلود، فكانوا أهلاً للاصطفاء ولِأن يجري الله على أيديهم هذا التغيير المهم في تاريخ الإسلام، قال تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ الأحزاب:23.
أراد الله -عز وجل- أن تكون غزة وأهلها سبباً في قلب المعادلات الدولية وفي كشف ازدواجية معايير المنظّمات الدولية والحقوقيّة المتشدِّقة بحقوق الإنسان؛ حيث أثبتوا للعالم أنّ الدّين الإسلامي هو دين العدل والحق والأخلاق والرحمة والإنسانية، وأنه الدّين الذي لا يعلوه دين، فالذي نراه اليوم هو تجديد حقيقي لأمر الدّين، ومنعطفٌ مهمٌ في تاريخ الإسلام والمسلمين.
تجليّات النّصر والفتح في معركة طوفان الأقصى
لَمّا تنطفئ نار الحرب بعد؛ ولَمّا تضع معركة طوفان الأقصى أوزارها؛ ومع ذلك تحقق النّصر دون أدنى شك وذلك بتأكيد النّص القرآني، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ النصر: 1-3، وتشير الآيات إلى أن الفتح والنصر منوطان بدخول الناس في دين الله أفواجاً، وهذا بالفعل الذي رأيناه كأثر من آثار طوفان الأقصى؛ حيث انعكست ظلاله على العالم بأسره لا على الفلسطينيين وحدهم.
قالَ الرّازِيُّ: الفَرْقُ بَيْنَ النَّصْرِ والفَتْحِ: أنَّ الفَتْحَ هو تَحْصِيلُ المَطْلُوبِ الَّذِي كانَ مُنْغَلِقًا، والنَّصْرُ كالسَّبَبِ لِلْفَتْحِ، فَلِهَذا بَدَأ بِذِكْرِ النَّصْرِ وعَطَفَ عَلَيْهِ الفَتْحَ، أوْ يُقالُ النَّصْرُ كَمالُ الدِّينِ، والفَتْحُ إقْبالُ الدُّنْيا الَّذِي هو تَمامُ النِّعْمَةِ.
وقال بعض العارفين: “الفتح أن يشرح الله -سبحانه وتعالى- صدر أحدهم، فيرى بعين البصيرة ما قد يكون مخفياً عن الغافلين، يعلم حقيقة الدنيا، وأنها إلى زوال، يتعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى فيرى أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فيكون قد فُتح عليه، انكشف له الحق، انجلت له الحقيقة، رأى بعين البصيرة ما لا يراه الغافلون”.
جاء الفتح؛ إذ هو الغرض الاستراتيجي الأول من تشريع الجهاد، وهو انتشار الإسلام في الأمصار بعدما حال بينه وبين الناس معاهدات السلام ومواثيق الصلح الدولية التي أغلقت المسار وعطّلت الانتشار، فما شُرِع جهاد إلا لتأمين خط الدّعوة حال اعترَضها عارضٌ أو منعها مانع، فعندما تعطّل الجهاد تأخر الفتح!! وكلما تشرّبت العقول والقلوب الفكرة وآمنت بها؛ كلما انتصرت وتحولت لتطبيق وسلوك؛ لقد تجسّد الفتح في معركة طوفان الأقصى بمعناه المادي والمعنوي.
جاء الفتح المتجسّد بدخول آلاف الناس في الدّين الإسلامي من شتى بقاع الأرض بعدما تحقق النّصر في غزة؛ فدخول هذه الأعداد المهولة في دين الله أفواجاً يُثبت أنّ النصر قد تحقق؛ إذ إن الفتح منوطٌ بالنصر ابتداء كما أشارت الآيات الكريمة، ولولا النصر الذي سبق؛ لما كان الفتح الذي لحق!
وإن معايير النّصر بالمعنى الشمولي والاستراتيجي على مستوى الدّين والدّعوة تختلف عن معايير النصر بمعنى الانتصار الظرفي أو الغلبة في أرض المعركة؛ ودليل ذلك من السيرة النبوية أن في غزوة مؤتة -غير المُتكافئة- بين المسلمين والروم وحلفائهم من الأعراب والنصاري كان عدد المسلمين فيها لا يتجاوز ثلاثة آلاف مجاهد مقابل عشرات الآلاف من حلف الروم؛ انسحب سيدنا خالد بن الوليد بالجيش مُقدِّماً المصلحة العليا وهي حفظ دماء المسلمين عن هدرها دون تحقيق الهدف المنشود!
تلقى صبية المدينة الجيش في طرقاتها يرمونهم بالحصى، وينعتونهم بالفُرّار! فصحح رسول الله ﷺ الناطق بالحكمة والمُسدّد بالوحي فَهمهم قائلاً: “بل هم الكُرار”، وسمى انسحاب سيدنا خالد بن الوليد -رضي الله عنه- بالجيش فتحاً، ذلك لأنه حقق المصلحة الغالبة، فالفتح بمعناه الشمولي هو القدرة على تحقيق المصلحة الرّاجحة للمسلمين وتحييد المصلحة المرجوحة، أي تقليل الخسائر وليس فقط مجرد الانتصار في أرض المعركة، وبذلك تكون معركة طوفان الأقصى قد حققت النصر والفتح بالمفهوم الشمولي والعميق.
إن صمود أهل غزة بعد ستة أشهر من العداون يعتبراً نصراً، وتأخير تقدّم المشروع الصهيوني في اقتحامات المسجد الأقصى تمهيداً لبناء الهيكل المزعوم يعتبر نصراً، وانهيار اقتصاده عالمياً يعتبر نصراً، وتعرية القوانين الدولية التي عجزت عن حماية حقوق الإنسان وكرامته يعتبراً نصراً، وكشف ازدواجية معايير هذه الدول والمؤسسات والقائمين عليها يعتبر نصراً، ودخول آلاف الناس دفعة واحدة في الإسلام يعتبر نصراً استراتيجياً لطوفان الأقصى، وإعادة قيمة الجهاد وإعلائها في وجدان الناس بعد خذلان وتواطؤ المُطبّعين ويأس الناس من مقاومة هذا الاحتلال المجرم يعتبر نصراً مؤزّرا .
المكاسب التي تحققت في ظل هذه المعركة أكبر بكثير من الخسائر المُشَاهَدة، بالرغم من فداحة الجرائم الإنسانية والإبادة والتجويع إلا أن هذه التضحيات أرتنا عزة وشموخ أهل الحق، فطريق الدعوة محفوف بالدماء والشهداء والتضحيات، وهو طريق ذات الشوكة الذي أمرنا الله -عز وجل- بخوض غماره لنيل رضوانه وبلوغ الجنان، هو طريق الشرفاء وأصحاب الكرامة.
إن بعض المحن والأذى والظلم من شأنهم إحداث الفرج والنصر والفتح؛ فقد سببت مقاطعة قريش والقبائل لرسول الله ﷺ ومن آمن معه أذىً لا يُحتمل وظلماً شديداً لهم، لكن هذه المحن كانت سبباً في تعاطف قبائل العرب مع رسول الله ﷺ حيث كانوا يأتون لموسم الحج ويسمعون ما يقع بالمسلمين من ظلم وتعذيب وانتهاك للكرامة والحقوق مما دفعهم للتعرف أكثر على هذا الدّين وعن صمود أصحابه وثباتهم على مبادئهم الذي تجلى في الصبر وتحمّل المشاق والألم والابتلاء، هذا كله أثار سخط العرب على كفار مكة وتعاطفهم مع النبي ﷺ، فما إن انتهى الحصار حتى أقبَل الناس على الإسلام وذاع أمره، وهكذا تحولت محنة الحصار الظالم إلى منحة انتشار الإسلام والدخول في دين الله أفواجاً رفضاً للظلم وإنصافاً للمظلومين.
فتح الله -عز وجل- قلوب الناس وشرح صدورهم لهذا الدين العظيم من خلال محنة الظلم التي أصابت المسلمين، وهذا الظلم المشهود في غزة اليوم كان سبباً في تعاطف كثير من الناس في الغرب للتّعرف على الدين الإسلامي الذي يدين به أهل غزة، فكان الصمود الأسطوري سبباً في هذا الفتح والنصر، نسأل الله تعالى أن يرحم شهداء غزة ويداوي جرحاهم ويحقن دماءهم ويُعلي راية الإسلام خفاقة في المسجد الأقصى وأن يرزقنا صلاة على أعتابه إنه نعم الولي ونعم النصير.
كلمة أخيرة، إن فاتورة إعلاء كلمة الدَين تدفعها دماء الشهداء، تُبذل رخيصة في سبيل إرضاء المولى -عز وجل-، ولا حيد عن هذا الطريق مهما بلغت الخسائر وغلتالأثمان!
الحصاد التربويّ والقيميّ لطوفان الأقصى
إن ما يراه العالم من أحداثٍ دموية، وجرائمَ بربرية يوميّة ومجازر مُروّعة على يد هذا الجيش الغاصب بحق أهلنا الصّامدين في غزّة إنما هي جرائم حربٍ وإبادة جماعية تخالف المعاهدات الدولية كلها ومواثيق حقوق الإنسان، وتتنافي وأحكامَ الشرائع السّماوية والوضعيّة، وتسحق الإنسانية والأخلاق والمبادئ والقيم التي اتفق عليها العالم أجمع، لا سيما في ظل الاستهداف الوحشي والمتعمّد للأطفال والنساء والمستشفيات ومراكز إيواء اللاجئين.. لكنه قدر الله ووعده لنا بالنصر .. فالنصر آت لا محالة لكنه تمحيص واختبار للعباد، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ آل عمران:141.
وكعادتها المحن والأزمات تأتي وتأتي معها الدروسُ والعِبَر، وإنّ معركة طوفان الأقصى أفرزت لنا مخرجات تربوية وقيميّة جليّة ما كانت لولا هذا الطوفان العظيم، بعد أن كادت تتلاشى في وجدان الناس إثر الانتكاسات المتوالية التي مَرّت بها الأمة، وإثر اليأسِ الذي تملّك نفوسَ الشباب بعد ثورات الربيع العربي، وجهود التطبيع، والتّواطؤ الدولي والتخاذل الإقليمي.
إن طوفان الأقصى جاء ليجدّد الدماء في عروقنا من جديد، ولِيُبدد راية الطغيان والكفر، فالإسلام لا يموت، قد يمر بمراحل ضعف لكنه لا يموت أبداً، جاء هذا الطوفان ليحيي قلوبنا ولِيُعيد بناء فكرنا ويُعمّر أرواحنا بعد أن حلّ بها الخراب ونخر فيها سوس اليأس، جاء ليبعث لنا رسائل تربوية مركّزة من قلب الخندق، من عُمق الأنفاق ليُنير لنا الآفاق، جاء طوفان الأقصى ليُجَلّي القيم الآتية:
القيمة الأولى: في ترسيخ العقيدة
جاء طوفان الأقصى مُثبّتاً لعقيدة المسلمين بوعد الله لهم بقرب زوال هذا الكيان الغاصب، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ الإسراء:7، ولقد أساءت المقاومة الباسلة وجه العدو بكل براعة واقتدار من خلال كسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وأصابت كبرياءه وغطرسته في مقتل، ونحن في أمَسّ الحاجة اليوم لترسيخ العقيدة من جديد في زمن انتشرت فيه الشُّبهات والأباطيل حول الإسلام.
القيمة الثانية: في ترسيخ الإيمان
قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال:60، فغزّة التي خرّجت منذ شهورٍ قليلة أكثرَ من ثلاثةِ آلاف حافظٍ وحافظةٍ؛ هي غزة التي حقّق رجالها مجدَ العبور العظيم في 7 أكتوبر، فكان الإعداد النّفسيّ والروحيّ والإيماني سبيلاً راشداً وطريقاً منيراً لتحقيق النّصر على أرض المعركة؛ فالنصر يأتي مع التزام المحاريب والجِدّيّة في الإقبال والإخلاص في العمل.
القيمة الثالثة: في الصبر والثبات والقوة
إن الله تعالى امتحن المؤمنين بحبهم لهذا الدّين بالابتلاءات والفتن، امتحن ثباتهم وصبرهم وتصدّيهم للظلم والباطل، ولقد أثبت هذا الشعب حبَّه لهذا الدّين وسطّر بالدماء تاريخاً مجيداً وجديداً لعز وعزة هذه الأمة؛ فقد تشربوا معاني القرآن الكريم وكان متجلياً في عقولهم ووجدانهم وسلوكهم في تحمل هذا الابتلاء؛ فالحرب والدماء والهدم والمآسي لم تزدهم إلا إيماناً وثباتاً وعزماً وإرادة أقوى لمواصلة المسير، فطوفان الأقصى أثبت أنّ شعب فلسطين هو الشعب الذي لا يُقهر -بإذن الله-.
القيمة الرابعة: في إعادة إحياء قيمة الجهاد
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ آل عمران:142، معركة طوفان الأقصى أحْيَت قيمةَ الجهاد والاستشهاد في نفوس الأمة، صحّحت المفاهيم وأعادت توجيه بوصلة الإيمان في قلوبنا بعد أن كادت تتلاشى بتشويه المناهج التربوية في كثير من الدول العربية والإسلامية ومحوِ باب الجهاد من الكتب، بل وجعْل التربيةِ الإسلاميةِ مادةً غير أساسية، قال رسول الله ﷺ: ﴿إذا فسدَ أَهْلُ الشَّامِ فلا خيرَ فيكم﴾ صحيح الترمذي، وفسّر أهل العلم أن مُقتضى الفساد يعني ترك الجهاد بالضرورة، فأعاد طوفان الأقصى قيمة الجهاد إلى مكانه الصحيح في العقل والوجدان ثم تجسّد سلوكاً، فلا نصر بلا جهاد، وهو ذروة سنام الإسلام وعموده ومن أحبّ الأعمال إلى الله، فعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “سَأَلْتُ النبيَّ ﷺ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ، قالَ: حدَّثَني بهِنَّ، ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزادَنِي” صحيح البخاري.
القيمة الخامسة: في إعادة إحياء ضمير الأمة
طوفان الأقصى أحيا ضمير الأمة وشحذ الهِمم نحو الانتصار للمسجد الأقصى، حيث كانت تُدنَّس باحاته من خلال القرابين التّوراتيّة على يد الجماعات اليهودية المتشدّدة بهدف فرض التقسيم المكاني والزماني في صمت دولي وإقليمي ومحلي مخزٍ ومَعيب، فطوفان الأقصى حقق مقاصد عليا للإسلام عبر تعزيز هذه القيم المنسيّة.
القيمة السادسة: في العودة للدين والدخول في الإسلام
لقد رأينا دخولَ عددٍ كبير من الأجانب إلى الإسلام بعد طوفان الأقصى والتزامَ كثيرٍ من الشباب المسلم وتمسكهم بالدين أكثر وأكثر، فطوفان الدماء قد جدد دماء الإيمان في عروق الشعوب، وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه-: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”، ففائدة الموت أنه يحيي الناس ويوقظ ضمائرهم، ويحثهم على العمل والجد أكثر لأنهم أدركوا حقيقة قصر الحياة وسرعان زوالها.
القيمة السابعة: في المعاملة الأخلاقية مع الأسرى
إنّ خوض المعركة وأسر الأعداء لا يتنافى مع مبادئ الدّين الإسلامي في التّعامل بأخلاق الإسلام واحترام كرامة الإنسان حتى لو كان أسيراً، فالأسير له حقوق وليس “حيواناً” كما وصف جيش الاحتلال -اللاأخلاقي- شعب غزة وأطفالها وأبطالها، فدين الإسلام دين الإنسانية والأخلاق والرحمة، لذا حُق لهذا الدّين العظيم أن يسود وينتشر وأن يكون خاتم الرسالات لخاتم الرسل والنبيّين ﷺ.
القيمة الثامنة: في بث الوعي ولفت الإدراك
طوفان الأقصى بث الوعي في وجدان المسلمين نحو حقيقة الصراع بيننا وبين الصهاينة بأنه صراع ما بين حق وباطل بالدرجة الأولى وليس بين أحزاب وتكتلات، وأنه صراع الأمة الإسلامية مع الباطل، وأنه صراع ما بين خير وشر، وأنه صراع عقدي وديني أصيل وكم تحتاج الأمة اليوم هذا الوعي في الشباب ليحدد بوصلته بدقّة وليقوم بمسؤولياته تجاه قضايا أمته ومقدساتها.
القيمة التاسعة: في تلاحم شعوب الأمة وتعاضدها
إن الخير في هذه الأمة باق إلى قيام الساعة، فقلوب الأمة تحركت مع هذا الطوفان بطوفان النُّصرة والحرقة دفاعاً عن راية الإسلام، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى﴾ رواه مسلم، فمهما تكالبت علينا الأمم؛ تبقى هذه الأمة متعاضدة ومتلاحمة في الدفاع عن عقيدتها ودينها وإسلامها، ومن هذه القيمة اكتسبت خيريتها وأفضليتها على سائر الأمم.
القيمة العاشرة: في أنّ الحق لا يُستجدى
كرّس طوفان الأقصى لقيمة أن الحق لا يُستجدى، إنما يُنتزع انتزاعاً، وأن المطالبة بالحق مشروعة بل وواجبة شرعياً وإنسانياً وأخلاقياً، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ الحج: 39.
كل هذه القيم وغيرها كانت حصاد معركة طوفان الأقصى التربوي والقيمي، هذه المعركة التي لم تضع أوزارها بعد تمخّض عنها مئات الدروس والعِبَر، وكم نحن بحاجة لهذه الدروس اليوم في تربية أولادنا لإخراج جيل قادر على تحمل مسؤولياته وواجباته، وتحمل أمانة حمل راية الإسلام والدعوة والجهاد، نسأل الله تعالى النّصر العاجل والمُؤزّر لإخواننا في غزة وعموم فلسطين، وأن يُظهِرهم على الدين كله، وأن يكرمنا بصلاة فتح على أعتاب المسجد الأقصى.
اللهم آمين.. اللهم آمين
معركة الطوفان والقانون الدولي لحقوق الإنسان
لقد تم تخصيص العاشر من كانون الأول/ديسمبر مِن كل عام ليكون يوماً عالمياً يعبّر عن كرامة الإنسان وأحقيّته في الاعتقاد والحريّة والممارسات، وهذه الحقوق كما ذكرَتها منظمة الأمم المتحدة؛ حقوق مُتأصّلة في البشر جميعهم مهما كانت جنسيتهم أو مكان إقامتهم أو نوع جنسهم أو أصلهم الوطني أو العرقي أو لونهم أو دينهم أو لغتهم أو أي وضع آخر، فالجميع متساوون في هذه الحقوق الإنسانيّة دون تمييز، كما أنّ هذه الحقوق مترابطة وشمولية وغير قابلة للتجزئة!
وكما تدّعي منظمة الأمم المتحدة بأن القانون الدولي لحقوق الإنسان على الصعيد الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي قانون مُلزِم للدول الأعضاء وتتقيّد به وباحترامه، وتدّعي كذلك بأن قوانين حقوق الإنسان واحدة من الإنجازات العظيمة التي حققتها الأمم المتحدة، وأنها مدونة شاملة ومحمية دولياً بآليات تضمن تطبيقها على أرض الواقع!
ويُذكر أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول/ ديسمبر عام 1948 ليترجم تلك القوانين كتابياً في وثيقة حقوقية، وحسب الأمم المتحدة أن هذه الوثيقة هي الأكثر ترجمة في العالم حيث تُرجِمت إلى أكثر من 500 لغة.
ومن الجدير بالذكر أن القانون الدولي لحقوق الإنسان لحقته سلسلة من المعاهدات الدولية كرّست لمبدأ حقوق الإنسان، ومنها اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية (1948)، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1965)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979) واتفاقية حقوق الطفل (1989)، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (2006) وغيرها.
وأكثر من هذا كله تم تخصيص لجان لخبراء تراقب الالتزام بتطبيق المعاهدات يترأسها مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان ويضطلع بمهام المراقبة على الأنشطة الميدانية في هذا المجال!
جاءت معركة طوفان الأقصى لتُعرّي زيف هذه الادعاءات، ولتكشف إزوداجية المعايير في التطبيق، فهذه القوانين والمعاهدات الدولية أثبتت فشلها الذريع وانحيازها الفجّ ضد كرامة الإنسان المسلم، وأنها قابلة للتطبيق في نطاق دون آخر؛ مما يشي بعنصريّة القائمين عليها وتحيّزهم لأيدلوجيات دون أخرى، وأكدت أنّ مبدأ الحيادية غير قابل للتطبيق على المجتمعات الإسلامية، وأبطلت ادعاء تطبيق هذه القوانين دون تمييز ديني أو عرقي أو غيره، فهذه القوانين التي تمنع وتُحرّم الإبادة الجماعية وتعاقِب عليها؛ أقرّت -بسكوتها هذا- تلك الإبادة والمجازر الضخمة، وأثبتت الاتفاقية الدولية التي صادقت على القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري أنها عاجزة عن العمل في غزة، وأكدت اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل أن المرأة الفلسطينية والطفل الفلسطيني غير مشمولين بتلك الاتفاقيات!
طوفان الأقصى جاء كاشفاً لزيف تلك الأنظمة المُدّعية العدل والقيم والحرية والمبادئ، وجاء فاضحاً لخلل تطبيق تلك القوانين والمعاهدات العرجاء، هي ليست إلا شعارات رنّانة يراد خداعنا بها، فضلاً عن أنها تخضع لأجندات مخفيّة يقودها محور الشر في العالم.
فعن أي إنسان تتحدث هذه الاتفاقيات؟ وعن أي حقوق تتشدق بها هذه المنظمات؟!!
تُباد غزة اليوم إبادة جماعية على الهواء مباشرة أمام أعين العالم وتُنتَهك كرامة الإنسان فيها دون أن يحرك العالم ساكناً، يقف العالم صامتاً أمام المجازر المُروّعة التي تُرتكب يومياً بحق الشعب الذي يدافع عن أرضه وعرضه وكرامته، وتُستهدف مراكز إيواء اللاجئين والمستشفيات بطريقة وحشية في ظل ردود أفعال باردة لا ترقى لمستوى الردود الفاعلة القادرة على تغير الواقع الكارثي!! الذي يحدث في غزة اليوم لا تقبله أخلاق ولا شرائع ولا قيم ولا إنسانية.
إن ما يحدث في غزة اليوم جريمة حرب بشعة بحق البشرية جمعاء دون استثناء، وقد كشفت معركة طوفان الأقصى نفاق المجتمع الدولي وعدم مصداقية القوانين الدولية المعنية بالحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته وحريته، وأثبتت أن الحرب بيننا وبينهم هي حرب عقيدة ودين، فهذه الأنظمة تحارب الإسلام وتعاديه بكل ما تستطيع من قوة.
لا بد أن تدرك شعوب العالم الإسلامي اليوم أن حكومات الدول الغربية لا تعرف معنى الإنسانية ولا القيم ولا الأخلاق، وعليها ألا تثق بتلك القوانين والمواثيق الدولية، فهي لم توضع لنا نحن المسلمين، وأن اللغة الوحيدة التي يجيدها هي لغة المصالح والقوة، وفي المقابل لا بد أن نفهم قوانين القرآن الكريم وسنن الله الكونية في الأرض، لأنها هي المصدر الوحيد الموثوق والصادق والمُنضبط والضابط والثابت، قال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ البقرة:120، وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾ الأنفال:60، وأول مراحل الإعداد الوعي الفكري والبناء الثقافي نحو معرفة عدونا الحقيقي وآلية التعامل معه، وأنّ مَن يقف مع عدونا ويواليه ويعادينا هو أيضاً عدونا وحتى إن كان من بني جلدتنا ويتكلم بلساننا، بل هو أشد وطأة علينا من عدونا الظاهر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ المائدة: 51!
معركة طوفان الأقصى أعادت فينا بناء الإنسان وأحيته بداخلنا من جديد، وفي ذات الوقت أماتت مصداقية المنظمات الدولية الغربية التي صدّعت رؤوسنا بحقوق الإنسان!
الشّامخات برغم القهر والألم
عُرِفت المرأة الفلسطينية على امتداد تاريخ القضية الفلسطينية برباطة الجأش والقوة والصمود والثبات فضلاً عن توازنها النّفسي والسّلوكي أمام التّحديات والصعوبات التي مرّت وما زالت تمر بها حتى غدت أيقونة الشموخ وسنديانة الصّبر وعنوان الإباء والعِز في تاريخ النساء عامة وتاريخ النضال النسائي على وجه الخصوص؛ وذلك لم يكن لولا التنشئة والتربية العقدية الصحيحة والراسخة رسوخ الجبال، فهذا الصمود والثبات حصاد تربية سنوات طويلة من الإعداد والتربية والتزكية؛ فكان القرآن الكريم النبراس الذي استهدت به وكانت السُّنة النبوية منهج حياة أنارت لها عتمات الليالي، وكان حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله هو الغاية الكبرى التي لا تعلوها غايات.
عندما تسمو الغايات في وجدان الطّالب تهون الصّعاب وتُذَلّل التحديّات في سبيل بلوغها، والمرأة الفلسطينية أيقنت هذه الحقيقة منذ بداية مشوارها، فالطريق واضحة والغاية تشرّبتها العقول؛ فهان المسير وتقازم كل نفيس أمام تعاظم المُبتغى، ولا أعظم ولا أعلى من مبتغى رضا الله -عزوجل-، وبهذا استطاعت المرأة الفلسطينية أن تكون مثالاً يُحتذى به لمثيلاتها من النساء، فكلما اشتدّت المحن والابتلاءات اشتدت نفسها صلابةً وقوةً وعزيمةً وإصراراً على المواصلة والمسير، فهذه النفوس التي عاشت معاني القرآن الكريم وجعلته يحيا في حياتها وقلوبها؛ أنى لها أن تتوه، ومن استمسك بالعُروة الوثقى كيف له أي يضيع، فنعمة الثبات لا يمنحها الله -عز وجل- إلا لمن استمسك بحبله المتين.
لا يخفى على الناس وضع المرأة الفلسطينية اليوم في ظل الحرب على غزة، وضع مأساوي يندى له الجبين، وضعها كارثي بكل ما تحمل الكلمات من معنى..
مع دخول الحرب شهرها السابع تعاني المرأة الفلسطينية اليوم الفقد والألم والحزن والقلة والحاجة، فهذا الاحتلال الغاشم الذي أجبرها على النزوح وترك بيتها والعيش في خيمة لا تكاد تدثر بردها هي وأسرتها، وفي ظل الحصار اللاإنساني ومنع الغذاء والدواء وأقل مقومات الحياة الطبيعية للبشر، وفي ظل الغلاء الفاحش للأسعار، حتى وصل إلى أكثر من خمسة أضعاف في بعض الأحيان، والذي أدى لزيادة عدد الوفيات وإصابة الناس بالأمراض والضعف والوهن لسوء التغذية؛ فالمرأة الفلسطينية مع كل هذه المعاناة معنيّة أن تُكابر على جرحها ووجعها وحزنها وأن تجتاز هذه التحديات والصعاب بكل ما تستطيع من قوة وصمود، وأن توفر أقل القليل لأبنائها أنّى وجدت لذلك سبيلا، فهي الأمل الباعث على الثبات والمقاومة والصّمود.
استحقت المرأة الفلسطينية بهذا الصمود الأسطوري والصبر الأيوبي أن تكون أيقونة ومثلاً أعلى لنساء العالم، وإن مساندتها ودعمها اليوم في نضالها من أوجب الواجبات الحقوقية والدينينة والأخلاقية والإنسانية فضلا عن مساندة رجالها وشيوخها وأطفالها..
وواجب المساندة يكون باستنقاذ المرأة الفلسطينية من آلة العدو الصهيوني وفضح جرائمه بحق الإنسانية وحق المرأة الفلسطينية، والتوعية باستحقاقاتها ابتداءً من حق العيش بكرامة وانتهاءً بفضح ازدواجية المعايير الدولية لحقوق المرأة والكفاح من أجلها.
فمنذ أيام كان العالم يحتفي بيوم المرأة العالمي، ونتساءل أين حقوق المرأة الفلسطينية؛ حقها في الكرامة والحياة والعيش بأمان واستقرار وحرية.. أم أن نساء المسلمين ونساء فلسطين لا بواكي لهن!
كلمة أخيرة: لولا صمود المرأة الفلسطينية؛ لما رأينا الثبات في رجالها وشبابها، فهي الأم الصابرة التي زرعت في أبنائها حب الله ونبيه وحب الوطن وحب العيش بكرامة وعزّة وإباء.
الرأي العام والحروب النّفسية
بين الرّاهب والغلام ومعركة الطّوفان
لا تستطيع الحكومات والدول الاستغناء عن الحاضنة الجماهيرية الشّعبية -حتى في أكثر الدول استبداداً- نظراً لأهمية الرأي العام في تدعيم وتأييد سياساتها، أو على الأقل لرغبتها في تحييد المواقف المعارضة أو المعادية لها، إذ يُكسبها تأييد الرأي العام نوعاً من الشّرعية -في نظرها- تجاه ما تتخذه من قرارات وسياسات عامة وإن كانت شكلية! فتلجأ هذه الحكومات إلى عملية التأثير في الرأي العام عبر ذراعها الإعلامي المؤدلج وقنواتها المُسَيّسة من خلال برامج ممنهجة تَستخدِم فيها فن وعلم نَفْسِ الجمهور وهو ما يُسمى في الإعلام الغربي بعلم نفس الاتصال الجماهيري “Mass Communication Psychology“؛ وهي عملية مُمنهجة شديدة التعقيد والتركيب، وتحتاج لبرامج عمل مشتركة وجهود متضافرة بين مراكز أبحاث مختصّة في علم النفس والاجتماع والانثربولوجيا ودوائر صنع القرار السياسي والإعلام.
وإن دراسة نفسيّة الجمهور وقياس توجهاته لتغيير أفكاره ومن ثم سلوكه نحو قضية ما لصناعة رأي عام قوي؛ هو عمل تراكمي طويل الأمد، لا يتحقق في ليلة وضحاها، بل يحتاج لجهود مستمرة لتحصيل النتائج المرجوّة، فالرأي العام حسب معجم المصطلحات السّياسية للرأي العام هو: “وجهة نظر الأغلبية تجاه قضية عامة معيّنة، في زمن معيّن، تهم الجماهير، وتكون مطروحة للنقاش والجدل بحثاً عن حل يحقق الصالح العام”.
الرأي العام والدوائر المرجعية الثقافية
تعد صناعة الرأي العام من أهم أهداف الإعلام قديماً وحديثاً، ولطالما استُخدِم الإعلام أداة لتشكيل أو تغيير الرأي العام السائد في البيئة الثقافة للأفراد والجماعات؛ حيث تُعتبَر الدوائر الثقافية هي المرجعية الأصيلة التي تشكل هويتهم الفكرية والسلوكية؛ وذلك لما جُبِل عليه العقل البشري من ميلٍ للاصطفاف مع رأي الجماعة “الأغلبي” حيث مظنة قلة الخطأ معه، على حين يزداد مع القرارات المبنية على فرديّة التّصوّر والتي تكون مظنة الشطط والزلل، وفي الحقيقة؛ إن هذه القاعدة تستند إلى منطق عقلي قوي، فضلاً عن كونها قاعدة شرعية أصيلة أقرها الشّارع الحكيم حين اعتبر الأعراف والعادات وطريقة التفكير من مصادر التّشريع التبعيّة المساعِدة في التّوصّل لأحكام فقهية في المسائل المُستجدّة -حال استوفت شروطها-. فتأتي جهود الرأي العام محاولةً تغيير هذه المعتقدات أو الأفكار أو السلوكيات موَظِفةً الإعلام وأدواته لخدمة هذه الأهداف!
الرأي العام بين الصواب والخطأ
تجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة، هي أنّ الرأي العام قد ينحرف بالرغم من كونه جمعياً، وذلك إذا انحرفت الفِطَر السليمة، مما يعني أنّ الرأي العام ليس بالضرورة أن يكون صائباً دائماً، ولقد ذكر القرآن الكريم نماذج من الرأي العام المُعَبَّر عنه بلفظ “الملأ” في كثير من الآيات والقصص، حيث كان “الملأ” في أغلب المواقف هم البطانة الفاسدة للملوك والحكام والسّلاطين، وفي المقابل كان الأنبياء والمصلحون يواجهون طواغيت الكفر وأعوانهم والرأي العام الجاهلي الأغلبي الفاسد فُرادى، وكذلك العلماء والمصلحون والمؤثرون هم قلّة أمام الجماهير الغفيرة من الناس التي تحتاج إلى التعليم والتوجيه والإرشاد، لذلك لا يعد الرأي العام صائباً دائماً، وإنما يحتاج لدراسة ومراقبة شديدة مستنِدة إلى مرجعية التشريع الإسلامي والسُّنة النبوية وهدي الصحابة والتابعين والمصلحين.
وأما عن العلاقة بين الرأي العام والحروب النفسية؛ فهي أن الحروب النفسية عادة ما تُسلَّط على الرأي العام للتأثير والتغيير فيه خدمةً لأصحاب المصالح، وكثيرة هي أساليبها وأدواتها، حتى أنّ ألفاظها تتنوّع فمنهم من يطلق عليها العمليات النفسية أو حرب العقول أو الحرب الباردة أو حرب الأعصاب فكلها ألفاظ مشتركة لحمولة دلالية واحدة، وإن تنوعت تعبيراتها واختلفت؛ إلا أنها واحدة من حيث وظائفها وأهدافها.
قصة الرّاهب والغلام والرّأي العام
أراد الغلام صناعة رأي عام يؤيد ما يعتقده، ولقد نجح في نيل مُبتغاه مقابل حياته التي دفعها ثمناً لهذه الغاية، جاء في الحديث الصحيح أن ملكاً كان له ساحر، وعندما تقدّمت به السّن طلب من الملك أن يرسل له غلاماً يُعلمّه السحر، فكان هذا الغلام كلما ذهب للساحر مرّ على راهب في طريقه وجلس يسمع كلامه ويأخذ عنه، وكلما تأخر على الساحر لمكوثه عند الراهب؛ ضربه، فشكا الغلام ذلك للراهب، فقال له: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو على ذلك؛ إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟ (وكان في شك من أمره أيهما على الحق!)، فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك مِن أمر الساحر؛ فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره بما حدث معه، فقال الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلَى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فكان لهذا الغلام كرامات خاصّة من الله -عز وجل- حتى كُشِفَ أمره عند الملك، فأمره أن يرجع عن دينه فأبى، فأمر الملك جنوده بقتله، وفي كل مرة يحاولون قتله فيها؛ فشلوا! فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فيقول: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتضع السهم في كبد القوس ثم تقول: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ما طلبه الغلام منه وبالفعل رماه فقتله، فقال الناس: آمنا برب الغلام، وحينئذ غضب الملك غضباً شديداً، فأمر بالأخدود وأضرم فيه النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحِموه فيها، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيه، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وهنا أريد أن أتوقف عند مسألتين في حديث الغلام وفيهما الشّاهد؛
الأولى: قوله “تجمع الناس في صعيد واحد”، أراد الغلام بهذا الطلب صناعة رأي عام مؤيد له من خلال تجميع الناس لحضور مشهد قتله الذي سيكون سبباً في تغيير قناعاتهم وتوجهاتهم، فليس هدفه الملك ولا نفسه إنما هدفه التأثير والتغيير في عقيدة الناس وصناعة رأي عام مؤيد، -وهذا ديدن عموم المُصلحين أنهم يتطلّعون إلى هداية الناس حتى وإن كانت على حساب مصالحهم الشخصية-، وقد تحقق ما كان يصبو إليه هذا الغلام، وبالرغم من يقينه أنه لن يرى أثر فعله في حياته إلا أن يقينه وإيمانه العميق بالله أنار بصيرته للمضي في طريق الحق ثابت الخطى راسخ العقيدة.
الثانية: حين قال “ثم قل: بسم الله رب الغلام”، فقد اشترط الغلام على الملك أن يصدح أمام الملأ بشعار عقيدته “بسم الله” لبلوغ مرامه، وفي النّطق إقرار من الملك بهذه العقيدة وحجة بالغة عليه حال أصاب السهمُ الغلام، وبالفعل تحقق الهدف المنشود بكرامة الصدح بشعار “بسم الله”؛ فآمن الناس بعد هذا المشهد العظيم فوراً؛ بل وكان إيمانهم صادقاً حقيقاً راسخاً إذ صبروا على التعذيب والموت مقبلين على الله بعقيدة واثقة أنهم على الحق.
إن قوة إيمان الغلام ورسوخ عقيدته وعدم خوفه مما ينتظره انعكس تأثيره في وجدان النّاس وفكرهم، فلم يُثنهم عن المضي في طريق الحق طغيانُ الملك وجبروته، بالرغم من أنه استخدم الحرب النفسية معهم من خلال ترهيبهم بالتعذيب والقتل، لكنهم أيقنوا أن الحق مع رب الغلام فلم يتراجعوا عن هذا الحق ولم يضعفوا قيد أُنملة.
معركة الطوفان وتزييف الرأي العام
يستخدم الكيان الصهيوني اليوم نفْس طُرق الطواغيت سابقاً بأساليب وأدوات مختلفة في توجيه الرأي العام لصرفه عما يمارسه من وحشية طاغية وممارسات لاإنسانية من قتل لم تشهده البشرية في غزة، محاولاً تزييف الحقائق ومستخدماً الحرب النفسية ذاتها ومن ذلك؛ ترهيب الناس بالقوة العسكرية “الدولية” التي تسانده، وممارسة التضليل الإعلامي الممنهج لإخفاء جرائمه، وتحييد الرواية الفلسطينية عبر الحظر والتقييد الرقمي مقابل الترويج للرواية والدعاية الصهيونية، وحصار الناس وتجويعهم وتخويفهم بالقتل والموت!! وهو لا يعلم أن عقيدتهم راسخة وأنهم لا يهابون الموت بل هم يطلبونه ويتسابقون إليه عندما يكون في سبيل الله، فلا يحيدون عن هذا الطريق؛ طريق رسولهم الكريم ﷺ، طريق الأنبياء والشهداء والصالحين إلى يوم القيامة، واهم هذا العدو إذا اعتقد غير ذلك!
تبقى كلمة أخيرة في هذا المقام؛ أن الحروب النفسية مع تنوعها وكثرتها وقدرة تأثيرها في توجهات الرأي العام؛ إلا أنه لا يقوى على مواجهتها إلا أصحاب الإيمان العميق والعقيدة الراسخة الواثقة بأن هذه الحياة رخيصة جداً، ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، الأنفاس فيها معدودة، والحياة بطولها لا تعدو سوى لحظات، يستظل عابرها المُنهك بشجرة بعض الوقت ثم يمضى إلى طريقه، هي مرحلة قصيرة، ليست إلا مرحلة اختبار وأن الحياة الحقيقة في الجنة حيث الخلود الأبدى.
المراسل الحربي والعمليات النفسية بين معركة الطوفان وحذيفة بن اليمان
مع تطور وسائل الإعلام وتنامي أساليب الحروب الإعلامية الفكريّة والنّفسيّة اليوم؛ لم تعُد تقتصر وظيفة المراسل الإعلامي على نقل الخبر وتوثيق الأحداث والمشاهد والقصص الخبرية ومراقبة البيئة فحسب؛ إنما تعدّت ذلك لتصبح أحد أهم مرتكزات توجيه الرأي العام بل وصناعته، في مضمار يتّسم بشدة التّنافس والتّدافع والاستقطاب على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي خدمةً لمصالح الحكومات والسياسات والحركات والمؤسسات، وقد ينخرط هذا المراسل في عمليّة صناعة الوعي الجماهيري أدرك ذلك أم لم يدرك! بل ويشارك بشكل فاعل في صناعة وصياغة القرارت المصيرية على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، فخطورة عمل المراسل الإعلامي وحساسيّته دفعت المتنفّذين وأصحاب المصالح من السياسيين والعسكريين للاهتمام بعلم الإعلام وفنّ إدارته وبدوره الخطير في الحروب النّفسية بشكل عام وبالإعلاميين على وجه الخصوص؛ إذ يُعتَبَرون الوسائل الأهم في تأدية وظيفة تشكيل الوعي والإدراك.
بين المراسل التقليدي والمراسل العارف
مما لا شكّ فيه أنّ الإعلامي العفوي أو التّقليدي الذي لم يتلقَ علم الإعلام كأداة للتّحكم في العقول والسيطرة على التوجهات والممارسات، ولم يتمرّس فنون كشف خداع وحِيَل الضالعين في علم البرمجيات الّلغوية والعصبية ومخاطبة العقل الباطن للسيطرة عليه بالإقناع وتبني الأفكار؛ قد يقع في أخطاء جسيمة تعود عليه وعلى من يعمل لصالحه بالويلات مما يؤثر في موازين المعادلة في المواجهة لصالح العدو.
وقد تزداد أهمية المراسل الإعلامي بزيادة خطورة الدّور الذي يؤدّيه، خاصةً في زمن الحروب، فيعد دور المراسل الحربي أشد خطراً من المراسل النّمطي، إذ إنّ الحروب الميدانية عادةً ما يسبقها حروب إعلامية هدفها إيقاع الهزيمة النفسية بالناس تمهيداً للهزيمة العسكرية، وكثيرة هي أدواتها، منها نشر الشائعات والبروباجندا والكذب والتّشكيك والتخويف والاستعطاف وغيرها من الأساليب المعروفة إعلامياً.
حرمة دماء “المراسلين”
لقد أولى الإسلام اهتماماً كبيراً بالرسل، رُسل الله -تبارك وتعالى- ورُسل رسوله ﷺ، ورُسل البشر، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ المائدة: 70، ولقد جاء ذكر قتل الرسل هنا في معرض التّقريع والتّبكيت لفداحة الفعل وجسامته؛ حيث عُرف عن بني اسرائيل أنهم كانوا يقتّلون أنبياء الله؛ الأمر الذي استوجب عقابهم على هذا الفعل القبيح، فللرسول حرمة مُعتبرة إسلامياً وإنسانياً لأنه ليس إلا ناقلاً للخبر، وعن سلمة ابن نعيم بن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب الذي ادّعى فيه النّبوة، قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله ﷺ: “والله لولا أنّ الرُّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما” أخرجه أحمد في مسنده، وقد جرتَ العادةُ عند الملوك والزُّعماء أنَّ الرُّسُل لا تُقْتَل، فلما جاء الإسلام أقَرَّ هذا المبدأ وعَمِل به، فحِفْظُ دماء الرُّسل قانون اتّفقت عليه الأعراف الإنسانية والقيم الأخلاقية بين بني البشر، بل إنّ الرسول ﷺ جهّز جيشاً للاقتصاص لرسوله الصحابي الجليل حبيب بن زيد -رضي الله عنه- من مُسيلمة الكذّاب حيث قتله لرفضه الإقرار له بأنه شريك رسول الله ﷺ في النّبوّة.
ومع فارق التّشبيه بين رُسل الله ورُسل البشر؛ حيث إن رُسل الله تكتسب قُدسيّتها من قيمة مضامين الرسائل المنقولة ومِن المُرسِل سبحانه -عز وجل- ومن أفضلية الرُّسل عند الله على بني البشر؛ إلا أنهما يشتركان في قدسية الوظيفة والمُهمة المنوطة بهم وهي إيصال الأخبار والحقائق، وإلا لما حرّك رسول الله ﷺ جيشاً للاقتصاص لرسوله!
عِظم المُهمّة وجسامة الدّور
يُذكر أن في غزوة الأحزاب قام النبيُّ ﷺ، فصلَّى من الليل، وبعد أن فرغَ من صلاتِه؛ اِلتفت إلى أصحابه قائلاً: ألا رجل يأتيني بخبرِ القوم، جعلَه الله معي يوم القيامة؟ فسكت الجميع، ثم أعاد: مَنْ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع؟! يشترِط له رسولُ الله ﷺ الرجعَة، (أسأل الله أن يكون رفيقِي في الجنة)، فسكت القومُ، فلم يُجِبْه أحد!
فلمَّا لم يقُم أحد؛ دعا رسول الله ﷺ حذيفةَ -رضي الله عنه-، وفي بعض الرِّوايات: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أتى حذيفةَ -رضي الله عنه-، وهو جاثٍ على ركبتيه، فقال: من هذا؟ قال حذيفة: فتقاصرتُ بالأرض كراهية أن أقوم. فقال ﷺ: (حذيفة؟) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: (قُمْ يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، انظر ما يفعلون، ولا تذعرهُم عليَّ)، قال حذيفة -رضي الله عنه-: فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال -رضي الله عنه-: (وأنا من أشدِّ الرجال فزعًا، وأشدِّهم قُرًّا) يعني: بردًا.
صحابة رسول الله الذين بايعوه على المنشط والمكره وعلى السمع والطاعة والذين كانوا يتواثبون لتلبية أوامر رسولهم الحبيب ﷺ، بل كانوا مستعدين لبذل الغالي والنّفيس والأرواح رخيصة طمعاً في نيل شرف مرافقته في الجنة؛ يسكتون في موقف كهذا!!! بل ويضمن لهم الجنة والعودة من عند القوم سالمين!! ويلتزمون الصّمت!!
إنّ تأخرهم عن إجابة رسولهم لم يكن عن تكاسلٍ أو تراخٍ بل إن الأمرَ كان في غاية الصعوبة، والمُهمّة تحتاج لشجاعة وبسالة مُتناهية فالجو شديد البرودة، والظلام حالك في تلك الليلة، إن صعوبة المُهمة وجسامة الدور دعتهم للسكوت وللتفكير مليّاً قبل الاندفاع -غير الرّاشد- الذي قد يعود على المجموع بالخسائر والفشل! ولِعلم رسول الله ﷺ بعِظم هذه المهمة وخطورتها؛ قدّم الجنة ثمناً غالياً لها.
تمّ تكليف سيدنا حذيفة بن اليمان للقيام بهذه المُهمة الإعلامية الاستخباراتية بطلب مباشر من القائد الأعلى ﷺ فما كان من المراسل الحربي إلا التنفيذ الفوري دون تلكّؤ أو مماطلة، وكذا كانت وما زالت الحال في معركة طوفان الأقصى حيث يلاقي مراسلو الحرب هناك من المشاق والصعاب والفقد والوجع ما يلاقونه وبالرغم من ذلك هم صامدون على هذا الثغر لإدراكهم عظم هذه المسؤولية وقدسيّة المهنة، إنهم يؤدون وظيفةً مهمةً في تحقيق عملية التّطمين النفسي من خلال نقل أخبار بطولات المقاومين وإنجازاتهم الأسطورية، وتثبيت الناس وتأميلهم بالنصر، وفي المقابل يقومون بنقل جرائم العدو في حق الأبرياء لفضحه وتعريته أمام العالم.
المراسل الإعلامي الحربي الرسالي مراسل مُتفرّد بما حباه الله من خصوصية الوقوف على ثغور الدفاع بمواجهة الحرب النفسية بأدوات المُتمكن الماهر والخبير باللعبة الإعلامية وحيلها.
المُراسل الحربي؛ ذكاء وسرعة بديهة
اختار رسول الله ﷺ حذيفةَ بن اليمان -رضي الله عنه- خاصة دون غيره من الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا- لعلمه المُسبق بكفاءته، ونباهتِه، وذكائه ومُناسبته للمهمة الموكلَة إليه، فالاختيار مدروس وليس عفوياً.
انطلقَ حذيفة -رضي الله عنه- من عند النَّبِيِّ ﷺ وهو في بردٍ شديدٍ، فلمَّا بدأ السير جعل كأنما يمشي في حمَّام دافئ حار، لقد أبدل الله خوفَه طمأنينةً، وبرده دفئًا، ويسَّر له أمرَه، وذلَّل له الصعاب.
سار حذيفة -رضي الله عنه- وعناية ربِّه تحرسُه، فتخفّى ثم دخل وسط معسكرِ المشركين، وإذا ريح شديدة قد أتَتْ عليهم، فأطفأت نيرانهم، وأكفأت قدورهم، واهتزَّت خيمُهم وكادت تطير مع الريح العاصف، فنظرَ فإذا هو بأبي سفيان بن حرب قائدِ جيشِ المشركين في عُصبَة حوله، وقد تفرَّق الجنود عنه لما حلَّ بهم من الكرب، فدخل حذيفة وجلسَ بينهم، وأحسّ أبو سفيان أنَّه قد دخلَ بينهم مَنْ ليس منهم، فقال لأصحابِه: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد جليسه، لينظر مَنْ جليسُه حتى يتأكد من عدم وجود مَن ليس منهم.
فقال سيدنا حذيفة -رضي الله عنه-: فأخذت بيد الرجل الذي عن يميني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان.
قال: وأخذت بيد الرجل الذي عن يساري، فقلت: مَنْ أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان.
وهنا تجلّى ذكاء سيدنا حذيفة ونباهته، كان عبقريًّا فذًّا؛ فاستبقهم وباغتهم بالسؤال قبل أن يسألوه! ولهذا اختاره النبي ﷺ لهذه المهمة العظيمة التي تحتاج لسرعة بديهة وحضور ذهن وحُسن تصرف.
وتجلّى هذا المطلب حقيقة في مراسلي معركة الطّوفان في كثير من المواقف، أذكر منها على سبيل المثال موقفاً كان رد المراسل فيه مبدعاً وحصيفاً، فعندما سأل مذيع الاستوديو مراسل القناة في أرض المعركة؛ “مِن أين تطلق المقاومة الصواريخ” فرد فوراً تنطلق الصواريخ من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب ومن كل اتجاه وصوب، قاصداً بذلك تعمية العدو -الذي يتابع إعلامنا- وتشتيته عن أماكن تواجد المقاومة، والموقف الثاني للمُحلل العسكري على قناة الجزيرة “فايز الدويري” الذي فهم لعبة الحرب النفسية فكانت تحليلاته حاذقة رافعة للمعنويات ومشحونة بنبرة الانتصار ومؤكِّدة على قوة المقاومة القتالية الفائقة، وعلى انهزام العدو الحتمي نفسياً وعسكرياً، المراسل الحربي مراسل فذ ألمعي يمتلك القدرة والكفاءة القتالية بالألفاظ والكلمات والتعبيرات.
المراسل الحربي؛ طاعة للمركزية ولا اجتهاد مع الأوامر!
كانت الفرصة مواتية لسيدنا حذيفة -رضي الله عنه- لقتل أبي سفيان حيث كان شديد الاقتراب منه ومع ذلك تذكر قولَ رسول الله ﷺ: ((لا تذعرْهم عليَّ))، فامتنع عن قتله وامتثل لأوامر الرسول ﷺ، فدوره اقتصر على نقل المعلومات الاستخباراتية فقط في هذا المقام لا على المباغتة والقتال، بالرغم من أن قتل أبي سفيان كان هدفاً لهزيمة الجيش، وهنا تتجلى قيمة السمع والطاعة والامتثال لأوامر الإدارة المركزية العُليا؛ فكل عنصر منوط به دور محدد لا يتجاوزه حتى لو غلب على ظنه غير ذلك، فالنجاح الحقيقي والنصر لا يكون إلا من خلال العمل الجماعي المتضافر، شديد التنظيم دقيق التّنفيذ.
لقد جسد سيدنا حذيفة شخصية المراسل الحربي وهو أمين سر رسول الله ﷺ، تم انتقاؤه لمعايير مدروسة ودقيقة لتأدية مهمة خطيرة على مستوى مصير الأمة، فكان كاتم السر مطيعاً؛ أطاع ونفذ الأوامر بدقة متناهية ثم عاد سالماً كما وعده رسول الله ﷺ.
المراسل الحربي أخلاقي صاحب مبادئ، فالرغبة في تحقيق النصر لا تتنافى والحفاظ على الأخلاق والقيم في تغطية الأخبار من مصداقية وموضوعية وتوازن وضبط للنفس وللتصرفات، وهذا ما عاينّاه في طريقة تعامل أبطال طوفان الأقصى مع أسرى العدو؛ فقد التزموا بأحكام شريعتهم الإسلامية فيما يخصّ التعامل مع الأسرى فضلاً عن التزامهم بقوانين أسرى الحرب الدولية المُقرّرة في معاهدة جينيف للسّلام 1929م ولم يخرقوها كما فعل ويفعل الاحتلال مع الأبرياء في غزة!
إن مهمة المراسل الحربي لا تقل أهمية عن مهمّة المحارب في أرض المعركة، والنجاح والانتصار لا يتحققان إلا بتكامل المهام جميعها، وحسن الوقوف والدفاع عن الثغور يجلب النصر والتمكين والفوز بالجنان.
دور الخطاب الإعلامي العسكري في إسناد معركة الطوفان
“المنهج النّبوي نموذجاً”
يتم استخدام الإعلام اليوم في تشكيل عقائد الناس وتوجيه أراءهم، فلم يعد مُتجلبباً بثوبه التقليدي كما سابق عهده؛ بل غدا أحد دعائم النهوض الحضاري والتنمية الفكرية والثقافية والتعليمية للمجتمعات، وفي صراعات الدول والأنظمة لا سيما في النطاق السياسي والعسكري وأوقات الحروب والأزمات وفيما يُسمى بالحروب الباردة والحروب النفسية.
الإعداد الإعلامي
قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال: 60، بدلالة “ما” في الآية إذ إنها من ألفاظ العموم المُستغرِقة لجميع أفرادها من غير حصر؛ يتّضح أن الإعداد يشمل كل إعدادٍ بما في ذلك الإعداد الإعلامي، قال السّعدي في تفسيره: “ما استطعتم من قوة؛ أي كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة جميعها، والرأي والسياسية التي يتقدم بها المسلمون ويندفع به شر أعدائهم”، وجاء في تفسير القرطبي: “وقوله ﷺ: (القوة هي الرمي) لا ينفى كون غير الرّمي معتبراً؛ لأن الرّمي كان في ذلك الوقت أقوى ما يتقوى به”.
ومن أدوات الإعداد المُعاصِرة اليوم القوة الإعلامية، وهذا ما أكده العالم الجليل الشيخ محمد الحسن ولد الدّدو وغيره من المعاصرين، يقول الدكتور محمد الصّلابي: “وإعداد القوة لفظ عام يشمل كل قوة سواء معنوية أو مادية، علمية أو فقهية وذلك على مستوى الأفراد والجماعات، ويدخل في طياتها الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري… إلخ”، فالإعداد الإعلامي أحد أهم مجالات منظومة الإعداد بمفهومه الواسع.
أهمية الخطاب الإعلامي العسكري وقت الأزمات
ونحن نتحدث عن الإعلام فإننا لا غرو نتحدث عن أدواته وقنواته الاتصاليه، وأهمها الخطاب الإعلامي الشخصي والجماهيري فلا يمكن تصور الإعلام دون خطاب وحوار وتأثير لتحقيق رسائله، وقد اعتنى المنهج النبوي بالخطاب الإعلامي الجماهيري بشكل عام والعسكري بشكل خاص لتعزيز الجهود الاتصالية في إطار إقامة شبكة علاقات محلية ودولية لتحشيد الرأي العام في خطوةٍ لتمكين المشروع الإسلامي.
وحتى يؤدي الخطاب الإعلامي العسكري رسائله ويحقق أهدافه الاتصالية -وهو ما يعنينا في هذا المقام-؛ لا بد أن يعمل على محورين:
الأول: محور داخلي ويقوم بوظيفة تعزيز التّأييد مع الجماهير المؤيِّدة والموالية.
والثاني: خارجي ويقوم بوظيفة التّشكيك وزعزعة اليقين مع الجماهير المُعارضة أو المُقاوِمة؛ مُحققاً بذلك أهدافه الاستراتيجية.
وتزداد أهميّة هذا الخطاب الإعلامي العسكري في أوقات الحروب والأزمات، فهو يُثبّت المؤمنين من خلال تأكيده على مشروعيته في الحق في الدفاع عن وجوده، وفي لغة الفُقهاء عن الكليات الضرورية الخمس؛ الدّين والنفس والعقل والنسب والمال، فضلاً عن رد دعاية العدو ودحض أكاذيبه وألاعيبه وحروبه النفسية تجاه خصمه؛ إذ يتكئ ابتداءً على عنصر الإقناع، فيبدأ بعرض المسلمات العقدية المُشتركة بينه وبين المُتلَقّي ماراً بتفنيد الأسباب والبواعث الدّافعة للسلوك “الحرب” ومنتهياً بالتذكير بالواجبات والمسؤوليات في الدعم والمساندة، وبهذا تتضح خطة الطريق في عقل الجموع المؤيدة، فتزداد إيماناً بقيادتها العسكرية وتترسخ المبادئ وتُحشَد الطاقات وتوجّه الإمكانات لخدمة المشروع.
وظائف الخطاب الإعلامي العسكري وقت الأزمات
الخطاب هو عملية نقل الأفكار والآراء والمشاعر المُعبَّر عنها بالكلمات من المُرسل إلى المتلقي والتي بالضرورة ستحمل هوية المُرسل الفكرية والثقافية والعقدية والأيدلوجية بُغيّة التأثير فيه سواء كان فرداً أو جماعة، ويُعد الخطاب وسيلة الاتصال الأهم بين البشر، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل:125، وقال:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ الأنفال:65، والدعوة والجدال والتحريض يستندون على الخطاب بالضرورة؛ إذ هو أداة الحوار وبناء الأفكار ومحركها الأول والمؤثر فيها لتحويلها لسلوك وتطبيق.
وإن الخطاب الإلهي الموجه لرسوله الكريم ﷺ تضَمّن تكليف بأوامر منها: ادعُ، جادل، حرِّض، ثم عرض الأساليب الواجب اتباعها لتنفيذ هذه التكليفات منها: الحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلة بالإحسان، وهذا يشير إلى وجوب اتباع منهج التّدرج مع الناس مراعاة لتباين أفهامهم وتفاوت إدراكهم، وكان الّتحريض من الأساليب النفسية النبوية الخطابية في دفع المؤمنين للفعل، وسيأتي لاحقاً بيان نماذج من الحروب النفسية التي استخدمها نبينا الكريم ﷺ منهجاً في التعامل مع الجبهة الداخلية.
الخصائص الذاتية للخطاب الإعلامي العسكري
إن إعداد خطاب جماهيري عميق التأثير حَسن البيان قوي الإقناع لحشد الرأي العام ليس بالعمل الارتجالي العفويّ ولا بالعملية السّهلة والبسيطة؛ إذا إنه يحتاج لمعرفة وخبرة بنفسيّة الجمهور واحتياجاته والظرف المكاني والزماني والسّياقي المُعاش وأجدى الطرق وأقصرها وأنجع الوسائل وأسرعها وأنفع الرسائل وأنسبها الضامنة لتحقيق أفضل النتائج.
وكذلك إن بناء الخطاب الإعلامي العسكري يحتاج لاستراتيجيات وتكتيات فكرية يرتكز عليها القائم بالاتصال لتزداد فاعليّته وتأثيره في الجمهور المُتلقي، مثل التأكيد والتكرار والتذكير وبيان الآثار وإبراز الأسباب والتحذير من المخاطر والمآلات والتخويف ورفع معنويات الجند وشحذ همته وتحريضه على المضي والمواصلة والاستمرار وتثبيت الناس، ودحض دعاية الخصم وشائعاته وكسر عزيمته، إضافة إلى الاستشهاد بالأدلة النّصّية التي تضفي الشّرعيّة على العمل ككل.
بين طريق ذات الشوكة والجهود الدبلوماسية
لا يَفُلّ الحديد إلا الحديد، والجهاد ذروة سنام الإسلام وعموده، ولا طريق لاستظهار الحق إلا بالجهاد الذي فرضه رب العزّة لتحقيق التّمكين والاستعلاء في الأرض -حال تعذر الطرق السلميّة-، والتباطؤ عنه يُنبئ بنذير الهلاك وبتأخير تقدم المشروع الإسلامي لكن؛ هذا لا يعني بالضرورة إغفال الجهود الناعمة الأخرى، مثل الجهود السياسية والدبلوماسية والعلاقات الدولية والقانونية والإعلامية كدعائم إسناد تُقوّي شوكة المسلمين، خاصة وأن الرسول ﷺ اِرتكز على تلك الوسائل لتمكين المشروع الإسلامي ولدعوة النّاس، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ الإسراء:15، فمهمة الرُّسل والأنبياء والمُصلحين التّبيان والشرح والتعليل والإقناع والتعليم والإيضاح قبل حمل السّلاح وكل هذا لا يكون إلا من خلال الخطاب الإقناعي والحوار.
وإن ما يحدث في غزة اليوم من جرائم حرب وإبادة مُمنهجة وتواطؤ دولي وتخاذل إقليمي ومحلي ضد الفلسطينيين أدى بالبعض إلى التقليل من أهمية تلك الجهود على اعتبار أنها لم تصنع الفارق عندما تحولت المسألة من الحالة النظرية إلى الحالة العملية، ولم تؤتِ ثمارها بعد انكشاف عورة المجتمع الدولي وسكوته المشين عمّا يجري في غزة، لكن لا بد في هذا المقام من التفرقة بين الحكومات والشعوب، فعلى المستوى الأول فنعم أما على المستوى الثاني فلا، لأن الشعوب قراراتها حرة ولا تعمل ضمن أجندات ومصالح، فنبقى بحاجة إلى دعمها وحاضنتها لأنها قادرة على الضغط والتأثير في قرارات حكوماتها السياسية حال تم إدارة هذا الحراك ودفعه في الاتجاه الصحيح، فقد ربما تستغرق وقتاً طويلاً حتى يظهر تأثيرها وفاعليتها، لكنها بلا شك تؤثر تأثيراً كبيراً في بيئاتها.
الخطاب الإعلامي العسكري النبوي
المُتتبع لسيرة رسولنا الحبيب ﷺ يجد أنّ الخطاب النّبوي الإعلامي العسكري كان حاضراً ومُتجلياً بقوة وبرز كسلوك نبوي ضمن منهج العمليّات النفسية من خلال الاتصال المباشر مع الجُند لرفع معنوياته وتقوية عزيمته وتبشيره بالنّصر، وإرجافاً للعدو وإرباكه، وتجلى هذا عندما كان يُشير إلى مصارع القوم، فالجند يحتاج إلى التثبيت النفسي والمعنوي باستمرار وتطمينه من مجهولٍ يتربص به.
إن الخطاب الإعلامي العسكري النبوي حقّق أهدافاً مُهمة على المستوى العسكري؛ فها هو ﷺ يُبشّر أصحابه بعد غزوة الخندق قائلاً: “الآن نغزوهم ولا يَغزُوننا”، وقال في سياق نشر الرّعب في قلوب المشركين: “نحن نسير إليهم”، وقال في سياق تطمين المسلمين بأن النصر بيد الله: “لا إله إلا الله وحده، أعزّ جُنده، ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده”، وقال في سياق رفع المعنويات وشحذها بعد غزوة خيبر: “الله أكبر.. خَرِبَت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المُنذَرِين”.
وهذه الشواهد من السيرة النبوية تدل على أهمية الخطاب الإعلامي العسكري وتأثيرها البالغ في الإسناد المعنوي المرتكز على العمليات النفسية الرافعة للعزيمة على الجبهة الداخلية والخافضة للمعنويات على الجبهة الخارجية.
خطاب المقاومة الإعلامي العسكري في غزة
لقد فطنت المقاومة منذ بداية السابع من أكتوبر وقبله لأهمية الخطاب الإعلامي العسكري، حيث كان خطابها في كل مرة متوافقاً مع المنهج الخطاب الإعلامي العسكري النبوي، وتجلى هذا من خلال الظهور المستمر على الشاشات -بالرغم شدة وطأة الحرب والحصار الخانق على قطاع غزة-، فقد حرصت على البقاء على تواصل دائم مع جماهير الأمة الإسلامية فضلاً عن الجماهير الحرة للتأكيد مراراً وتكراراً على مشروعية جهادها باعتبارها حركة مقاومة شرعية تحارب المُغتصب دفاعاً عن النّفس والأرض والمقدسات وهو واجب شرعي غير معذورة بتركه، وباعتبارها حركة تحرر وطنية تدافع عن نفسها ووجودها حسب عُرف القوانين الدولية.
كذلك جاءت الخطابات متزنة رصينة وموضوعية بعيدة عن التّهويل والبروباجندا، تذكُر المعلومات بمصداقية وتدحض أكاذيب ودعاية العدو بالأدلة، وتذكر أرقاماً واحصائيات في أغلب الأحيان للتوثيق، تحدثت عن الأسباب والمنطلقات وعن شرعية قتالها، استخدمت أسلوب المحاججات العقلية والمنطقية، والاستمالات العاطفية والعتب واللوم في أحايين كثيرة مع شعوب الأمة لاستنفارها وتعبئتها وتذكيرها بواجبها الديني والأخلاقي والإنساني مع الإبقاء على شعرة معاوية، وفي المقابل استخدمت التهديد والترهيب مع الجبهة الخارجية وتحذيرها مما ينتظرها من عواقب ومفاجآت مُحدقة بها.
اتّزان الخطاب الإعلامي العسكري للمقاومة أعلى من ثقة الجماهير فيها في حين تراجعت كثيراً هذه الثقة في سردية المحتل والتي كانت كثيراً ما تعتمد على الكذب والتّدليس وإخفاء حجم الخسائر المُتكَبّدة.
يصنع الخطاب الإعلامي العسكري فارقاً كبيراً كأداة من أدوات الحرب النفسية على الجبهتين الداخلية لاستقرارها والخارجية لإرجافها استكمالاً للجهود الأخرى، فالنصر يعمل ضمن منظومة متكاملة ومُتفاعلة ولا يتحقق إلا باستيفائها جميعها.
معركة الطوفان و”الإدارة بالأزمات”!
ما زلنا في خضمّ الحديث عن نفوذ الإعلام كأداة رئيسة في عملية الحروب النفسية، وكثيراً ما تلجأ الدول التي تدّعي أنها تتمتع بأفق كبير من الحرّيات والدّيمقراطيات؛ إلى الحروب النفسية لتقويض الرّأي العام وتوجيهه؛كنوع من التّحايل والتّغلّب على الأساليب التقليدية -والتي باتت مكشوفة- في السيطرة على الشعوب وللتّحكّم فيها، وهذه الحروب النّفسيّة ما هي إلا نوع من أنواع الممارسات الاستبدادية الخفية وصولاً للهيمنة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية.
وضمن سياسة حرب الأفكار والكلمات؛ تُسلّط هذه الأنظمة أذرعها الإعلامية الخبيثة لصالح أجندتها، ومن ذلك ذراع الدّعاية Propaganda ، والبروباجندا كلمة لاتينية الأصل وتعنى عرض المعلومات بهدف التأثير على المُتلقّي، وتُستخدم اليوم في السياسة والحرب والتّسوق والحملات الدّعائية، وتُعرف كذلك بأنها نشر المعلومات بطريقة موجّهة أحادية المنظور للتأثير على أفكار وسلوك أكبر عدد من الأشخاص، وتتصف ببعدها كل البعد عن الموضوعية، وغالباً ما تعتمد على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
وعرّفها مؤسس الاتجاه السياسي في علوم الاتصال هارولد لازويل: “بأنها التّعبير المدروس عن الآراء أو أفعال أفراد أو جماعات أخرى، وذلك من أجل أهداف محدّدة مسبقاً ومن خلال تحكّم نفسي”، فهي تعتمد على الجانب النفسي ابتداءً وأساساً، وعادةً ما ترتكز على التّضخيم والتّضليل والكذب واجتزاء الحقائق، ويتفرّع عن الدعاية أيضاً أساليب مُلتوية تستهدف تهديد مساحة الأمن النفسي والاجتماعي لدى الجمهور، ومن هذه الأساليب ما يُسمى بـ”الإدارة بالأزمات”.
فن “الإدارة بالأزمات” هو خلق أزمة وهميّة مُفتعلة والعمل على تضخيمها لإثارة مخاوف الناس بما يُهدّد حياتهم وأمنهم واستقرارهم، أو صرف انتباه الجمهور عن أزمة حقيقيّة قائمة تمسّ بمصالح القائم بالدّعاية سواء تمثلت بالحكومات والمؤسسات أو الأشخاص والأفراد؛ إلى أزمة أخرى مُصطنعة وذلك في محاولة للتّغطية عن الأزمة الحقيقة، وهو ما يُعرف كذلك بعلم “صناعة الأزمة”، أو “إفتعال الأزمات”.
تأثر إدوارد بيرينز “العرّاب الأول للخداع الإعلامي” بأفكار خاله عالم النّفس التحليلي سيغموند فرويد، وطورها في مجال الإعلام والّدعاية للسيطرة على الرّأي العام، ويُعد بيرينز أحد أهم المُنظّرين لمنهج هندسة العقل والتحكم في الجمهور والتأثير على العقل الباطن واللاوعي عبر مخاطبة غرائزه من خلال فهم حاجاته النفسيّة والسلوكيّة، يقول إدوارد بيرنيز: “التّلاعب بالجماهير الواعي والذكي بالعادات المُنظمة وبوجهات نظر الجماهير هو عنصر مهم في المجتمع، أولئك الذين يتلاعبون بآلية المجتمع الخفيّة يشكلون حكومة غير مرئية هي القوة الحاكمة الحقيقية لحياتنا”!
وأكثر ما يُنقل عن هذا الرجل نجاح حملاته الإعلامية “الخداعية” وانطلائها على عامة الجماهير من خلال التأثير غير المباشر “توظيف عنصر ثالث مؤثر”، فبسببه انتشر تدخين السجائر بين النساء عام 1929، حيث ساعد في كسر هذا الحاجز الاجتماعي، وحيث كانت تُمنع النساء وقتئذ من التدخين في الأماكن العامة، ومن يُعرف عنها مخالفة هذا القانون -الأخلاقي- تُعرَّض للاعتقال والسجن!
قام بيرنيز بالاتفاق مع بعض العارضات المستأجرات “وهن العنصر الثالث غير المُباشر لعملية التأثير”، على الخروج في عيد الفصح في مدينة نيويورك عام 1929 وهو من أشد الأيام ازدحاماً بالناس وقتئذ، على أن يحملن “مشاعل الحرية” في يد، ويقمن بالتدخين في اليد الأخرى هاتفات بشعارات الحرية للنساء، ولم يكتفِ بذلك بل اتفق مع الصحافة على تغطية هذه المظاهرة والكتابة عنها في اليوم التالي في كافة الجرائد والصحف، وبالفعل تحقق ما أراده، انتشر الخبر بين النساء كانتشار النار في الهشيم، تأثرت الجماهير النسائية بهذا الخبر وتجرأن على الخروج للمطالبة بحقوقهن في حرية الممارسة، وللمناداة بتغيير القوانين المُجحفة بحقهن وطالبنّ بالمساواة بالرجال (وفي هذه الحقبة بدأ ظهور التيار النّسوي)، وتم على إثر هذه الأزمة الكُبرى المُفتعلة تغيير القانون ليسمح للنساء بالتدخين في الأماكن العامة إلى يومنا هذا!
تحققت مكاسب صاحب شركة السجائر الذي لجأ لبيرينز طالباً منه حلاً لتغيير هذا القانون لتزيد أرباحه، وقد حقّق مآربه من خلال خداع النساء بشعارات حرية المرأة والنضال من أجل حقوقها، لكن الهدف الحقيقي وراء ذلك كان العامل الاقتصادي البحت!
فلأي حد كان يتم التّلاعب بالمرأة وممارسة خداعها واستخدامها كوسيلة لتحقيق الأرباح!! ولأي درجة كانت أغلب النساء -وما زلن- ساذجات بانجرارهن وراء تلك الأصوات التي تستغلّهن وتُقحِمْهُنّ في معارك لا ناقةَ لهنّ فيها ولا جمل باسم الحريات والاستحقاقات و شعارات زائفة برّاقة تستهوي المرأة مثل: Strong Independent Women؟!!!!
ما زالت أفكار بيرينز تحيا بيننا، فهذه القنوات التي يتم استخدامها كعنصر غير مباشر “العنصر الثالث” للتأثير في الجماهير تؤدي دوراً مهماً في عملية تشكيل الرأي العام وتزييف الوعي والتلاعب بالعقول من خلال افتعال الأزمات لصرف الناس عن أحداث أكثر أهمية وخطورة.
ونحن نعيش اليوم أزمة من أكبر أزمات الإمة الإسلامية، وأشرسها على مرّ التاريخ على يد العدو الصهيوني بحق أبناء الشعب الفلسطيني، لا نكاد نجد قناة أو إذاعة تلفزيونية إلا وقت امتلأت شاشاتها بالأخبار والتحليلات والمقابلات لتغطية الوضع المأساوي والكارثي في غزة!
تتّحد المؤسسات الإعلامية العالمية والمحلية اليوم على تغطية هذه الأحداث؛ حيث تجاوزت هذه الحرب أفق الاصطفافات والانتماءات الأيدلوجية والحزبية، اتحد العالم على إنسانية الكارثة ومشروعية الشعب الفلسطيني في مقاومته للمُحتل والدّفاع عن أرضه وعن حقه في الوجود، في ظل هذا الإجماع العالمي؛ نجد قنوات عربية “مأجورة” تشذّ وتنحرف عن هذا الائتلاف الوجداني والإنساني والحقوقي مُغردةً خارج السرب من خلال نشر مواضيع لا قيمة حقيقية لها سوى الإثارة وصرف انتباه الناس عن هذا الحدث العالمي الضخم!
تنتهج بعض القنوات سياسة “الإدارة بالأزمات” تلبية لسياساتها التحريرية والتي تُملى عليها ممن يُمولها أو يسيطر عليها؛ سواء من قبل دول أو حكومات أو أشخاص، ففي الوقت الذي تلتفت فيه شعوب العالم إلى غزة المكلومة وأطفالها الذين يموتون كل يوم جوعاً وعطشاً؛ يتم طرح وعرض قضايا هامشية لا تحمل أيّة قيمة فكرية أو معنوية إسلامية أو إنسانية سوى الإثارة الرّخيصة.
ومن ذلك -على سبيل المثال- ما طرحته مؤخراً قناة عربية موجهة -أجندتها السياسية والإعلامية مكشوفة- من مقاطع مصورة لزوجات من يدعى “بالبغدادي”، ضمن سياسة الإدارة بالأزمات لتحقيق أهداف مُزدوجة، منها:
الهدف الأول: إعادة تشويه الدّين الإسلامي بعدما اشتد بريقه في أعين شعوب العالم ولامس نوره قلوبهم بعد أحداث طوفان الأقصى، مما دفع آلاف الناس لاعتناق الإسلام، فعندما تتحدث نساء هذا الرّجل عنه بازدراء واستياء وبوصفه أنه لم يفهم من الدّين سوى الزواج والتعدد واتخاذ السبايا، وأنه كان يسعى لتأسيس دولة النساء لا دولة الخلافة، ويصفنه بالإنسان الوحشي الذي لا يفكر إلا بنفسه، وفي شهادة ابنته المستاءة من زواجها في سن صغيرة باعتباره سلوكاً همجياً مارسته ضدها السُّلطة الأبوية!! فتحاول هذه القناة في هذا الوقت البالغ الحساسية؛ أن تقارب صورة هذا الرجل الذي حاد عن جادة صواب الشريعة بهذه السلوكيات غير المنضبطة والمُشوهة للدين الإسلامي حيث ارتبطت صورته في الذهنية الجمعية الغربية بالإسلام المتطرف؛ تحاول أن تقارب صورته بصورة رجال المقاومة الذين يجاهدون على الثغور دفاعاً عن المقدسات الإسلامية سعياً لصرف الرأي العام عن تضامنه ودعمه للفلسطينيين ومقاومتهم، فهي بذلك تريد اجترار صورة الإسلام الإرهابي في العقلية الغربية، والذي يهين المرأة ولا ينظر إليها إلا باعتبارها مصدراً للمتع والشهوات دون احترام إنسانيتها وكرامتها وفكرها!
الهدف الثاني: إثارة وتحفيز النساء والرجال نحو مسألة التعدد والسّبايا، هذه القضية الجدلية عبر التاريخ، فهي من شأنها إثارة غضب النساء وفضول الرجال لمعرفة المزيد عن حياة هذا الرجل الغامضة لإشغالهم بتفاصيل حياته التي انقضت وانتهت وأُغلق ملفها بموته، وبالتالي تشتيت تركيزهم وصرف انتباههم عن القضية الكبرى والأهم والأساس؛ المسجد الأقصى وفلسطين وغزة.
والنماذج والأمثلة كثيرة التي تنتهجها مثل هذه المؤسسات الإعلامية المُوجّهة لإدارة الأزمة بافتعال أزمات أخرى رديفة تحقق الأهداف من خلال غسل الأدمغة والتلاعب بالوعي الجمعي من خلال إشباع حاجاتهم ورغباتهم النّفسية.
كلمة أخيرة؛ صناعة الوعي وإدراك خبايا هذه الحروب الخفيّة تحتاج ليقظة دائمة واتّقاد ذهن وعمل دؤوب وجهود مشتركة تنطلق من الإحساس بالمسؤولية الدينية أولاً ثم المجتمعية والأخلاقية والوطنية نحو حماية حصون الإسلام لمن يقف على الثّغور الفكرية والإعلامية ويقوم بحمايتها والدفاع عنها.
شُبهات حول طوفان الأقصى والردّ عليها
اِقتضت حكمة الخالق أن تُبنَى فلسفة الوجود على قوانين سُننيّة تضمن عمران الأرض وبناء الإنسان الذي سيُعمّر هذه الأرض ويكون خليفةً فيها على أساس تكوين منهجي متكامل، من جهةٍ يدعو للحق ويسعى لتمكينه، ومن جهةٍ أخرى يدفع الظلم ويسعى لإرجافه حتى تستقيم الحياة على مراد الله -عز وجل-، وهذا يستدعي بالضرورة وجود المصلحين الذين سيدخلون في معارك مواجهة مع المفسدين؛ حيث لن يكون للتّدافع معنى إلا من خلال هذا التّصارع الدائم ما بين النّقيضين الخير والشر والحق والباطل، قال تعالى: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ البقرة: 251.
وكما أنه لا يخلو زمانٌ من أهل الصّلاح والإصلاح؛ فكذلك لا يخلو زمانٌ من أهل الفساد والإفساد، والصّالحون هم الذين يتعاهدون أنفسهم بإصلاحها وتقويمها ويكتفون بذلك، وأما المُصلحون فهم الذين تتجاوز جهودهم هذا الحدّ؛ فيقومون بمهامٍ مزدوجة، يصلحون أنفسهم ويدعون غيرهم للصلاح؛ فأثرهم الإصلاحي يتعدى أنفسهم إلى غيرهم؛ لذلك كان أجرهم ومكانتهم عند الله والناس أعلى وأسمى من غيرهم، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ آل عمران:110، فخيرية هذه الأمّة تكمن في تعدي نفعها للغير، فهي ما بين استجلاب لإحسانٍ واستدفاع لبغيٍّ قائمة، جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ فقال: “أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله -عز وجل-، سرورٌ تُدخِله على مسلم، تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولَأن أمشي مع أخٍ في حاجة، أحبُّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهراً” رواه الطبراني، فالمصلحون إذن هم النُّخب الإصلاحية القادرة على تأسيس الفكر وإقناع العقل وتوجيه السّلوك ودفعه نحو الخير، لتقوية شوكته في مواجهة الشّر والتّصدي له.
وعلى غرار هذا التفصيل يكون الفساد والإفساد؛ فشرُّ المُفسد أشد وأعظم عند الله من شر الفاسد المُقتصر فسادُه على النفس وحسب!
وكما أن المصلحين مراتب ودرجات؛ فإن المفسدين كذلك مراتب ودرجات، قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ آل عمران:163، قال السّعدي في تفسيره: “هم درجات عند الله أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم؛ فالمتّبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدّرجات العاليات، والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وَجُوده على قدر أعمالهم، والمتّبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدّركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب عمله، والله تعالى بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء، بل قد علمها، وأثبتها في اللوح المحفوظ، وَوَكّل ملائكته الأمناء الكرام، أن يكتبوها ويحفظوها”.
ونحن نعيش اليوم أحداث معركة طوفان الأقصى؛ الحدث الأهم في مسار تاريخ القضية الفلسطينية منذ احتلالها عام 1948 ونحلّل ما أفرزته من أفكار ومواقف وردّات أفعال؛ من الأهمية بمكان الحديث عن طائفة المُفسدين الذين أرادوا -بشكل أو بآخر- إرجاف أهل الحق من عامة المسلمين وأهل المقاومة والرّباط بشكل خاص، وتشكيكهم في مشروعيّة جهادهم، سواء كان عن جهلٍ وسوء تقدير وقصر فهم أو عن خبث ولؤم وموالاة للكفار وأعوانهم!
ينقسم هؤلاء إلى فئات ودرجات، منهم من عيّنهم القرآن الكريم، ومِنهم من أشار إليهم إشارة، ونفند فيما يلي هذه الأنواع وما يقومون به من أدوار خطيرة ضمن الحروب النفسيّة؛ التي تخدم مشروع أهل الباطل “العدو الصهيوني” وتساعده في الاستقواء على أهل الحق “أهل الرّباط والثغور” وهم:
أولاً: المُخَذِّلون
وهم المُثبِّطون والمُعوِّقون، وجاء ذكرهم في القرآن الكريم بلفظ المُعوّقين، قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ سورة الأحزاب: 18، وجاء في التفسير المُيسّر في معنى المُعوّقين: “إن الله يعلم المثبّطين عن الجهاد في سبيل الله، والقائلين لإخوانهم: تعالوا وانضموا إلينا، واتركوا محمدًا، فلا تشهدوا معه قتالا؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه، وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا؛ رياءً وسمعةً وخوف الفضيحة”، وجاء في المختصر في التفسير: “إن الله يعلم المُثَبِّطين منكم لغيرهم عن القتال مع رسول الله ﷺ والقائلين لإخوانهم: تعالوا إلينا ولا تقاتلوا معه حتى لا تُقْتَلوا، فإنا نخاف عليكم القتل، وهؤلاء المُخَذِّلون لا يأتون الحرب ولا يشاركون فيها إلا نادرًا؛ ليدفعوا عن أنفسهم العار، لا لينصروا الله ورسوله”.
ثانياً: المنافقون والمُرجِفون
قال تعالى:﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ الأحزاب:60، قال الطنطاوي في التفسير الوسيط: “والمنافقون: جمع منافق، وهو الذي يُظهر الإسلام ويخفى الكفر، والذين في قلوبهم مرض: هم قوم ضعاف الإيمان، قليلو الثبات على الحق، والمرجفون في المدينة: هم الذين كانوا ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الأكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس، وأصل الإرجاف: التّحريك الشديد للشيء، مأخوذ من الرجفة التي هي الزلزلة، ووصف به الأخبار الكاذبة، لكونها في ذاتها متزلزلة غير ثابتة، أو لإحداثها الاضطراب في قلوب الناس”.
وأضاف: “وقد سار بعض المفسرين، على أن هذه الأوصاف الثلاثة، كل وصف منها لطائفة معينة، وسار آخرون على أنّ هذه الأوصاف لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين، وأنّ العطف لتغاير الصّفات مع اتحاد الذات، قال القرطبي: قوله (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ…) أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والواو مُقحمة، وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتّبعون النساء للريبة، وقوم يشككون المسلمين…، وقد سار صاحب الكشاف “الزّمخشري” على أن هذه الأوصاف لطوائف متعددة من الفاسقين، فقال: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قوم كان فيهم ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله ﷺ فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين، والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلّفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم وتنوؤهم” انتهى كلامه.
ثالثاً: المُخلَّفون
وهم الذين تخلّفوا عن الخروج للجهاد مع رسول الله ﷺ بلا عذر شرعي حين سار وأقاموا، قال تعالى:﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ التوبة:81، وبالرغم من أن هذه الطائفة ليس لها تأثير مباشر على الناس حيث إنهم أضروا -بتخلفهم هذا- أنفسهم فقط عندما عصوا أوامر الرسول ﷺ؛ إلا إنهم قد يثبطون النّاس ويضعفون حماسهم عن الخروج للجهاد!!
وهم على مراتب ثلاث:
الأولى: المخلّفون الذين فرحوا بمعصية التّخلف وقد قرنهم النص القرآني بالمنافقين حين قال: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ الفتح:11، فنَعَتهم بالّذين يقولون بألسنتهم ما ليس في صدورهم، وهو وصف المنافقين، فألمح إليهم، وهذا الصنف يجمعهم سوء الطويَّة ولؤْم السَّريرة، والغمْز والدَّسّ، والكيْد لهذا الدّين، والخور عن التّصدي والمواجهة، والجُبن عن المصارحة، تلك سِماتهم الأصيلة.
يقول السّعدي في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى مبيّناً تبجّح المنافقين بتخلّفهم وعدم مبالاتهم بذلك، الدّال على عدم الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ التوبة:81، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرّد التّخلف، فإن هذا تخلف محرّم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجّح به ﴿وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ التوبة:81، ومن هنا تبيّن أن هناك فئة أخرى تخلّفت، لكن تخلّفها أورثها الشعور بالحسرة والنّدامة والألم على عجزها عن الخروج!
الثانية: قد يصدر التّخلف من الصّادقين، يبتليهم الله ثم يتوب عليهم ليتوبوا، فالقرآن لم ينعتهم بالمنافقين، وبالرغم من ارتكابهم للمعصية؛ إلا إنهم ليسوا من المنافقين حتماً، وقعودهم كان مبعثه التّكاسل والتراخي عن أمر رسول الله ﷺ، فلا يتساوون مع الصنف الأول لا حالاً ولا مآلاً وحساباً، ومنهم الصحابة الثلاثة؛ كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، الذين وردت فيهم الآية الكريمة: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التوبة:118.
قال السّعدي في معرض مقارنة المرتبة الأولى مع الثانية: “وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا ـولو لعذرـ؛حزنوا على تخلّفهم وتأسّفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، لما في قلوبهم من الإيمان، ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره وامتنانه”.
الثالثة: وهذه فئة مؤمنة صادقة أقعدها قلة اليد والحيلة، فهي مغلوبة على أمرها ولا يلحقها الإثم؛ بل تؤجَر على صدق نيّتها وحزنها وحسرتها على عدم اللحاق برسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ التوبة:92.
رابعاً: المتواطئون
التّواطؤ: هو التّوافق على الأمر خيراً كان أو شراً، وقيل: هو الاتفاق سراً ضد طرف ثالث، وتواطأ القوم، أي: اتّفقوا، وتواطأ: وذهب به التّهور إلى التّواطؤ مع العدو، أي: إلى التآمر مع نيّة الإضرار، وبالتّبادر فإن التواطؤ غالباً ما يُفهم بدلالة التآمر على فعل الشّر دون الخير، والتّواطؤ على هذا التفسير؛ لا يكون أمراً عفوياً وغير مقصود، ولا يحدث إلا مع دراية وعلم واستجماع نية الإضرار وتعمّد إحداث الأذى بالآخرين، فحكمه ليس كحكم فاعل الفعل جاهلاً بفداحته وحُرمانيّته!
خامساً: المُطبّعون
التّطبيع: هو مصطلح حادث وُصف به من أقام العلاقات مع الصهاينة المغتصبين، يقول الأستاذ الدكتور صالح الرقب: “التّطبيع مصطلح يهودي، يراد منه أن تُقبل (إسرائيل) في المنطقة بكيان مستقل معترف به، وأن يكون لها الحق في العيش بسلام وأمن، مع إزالة روح العداء لهم من جيرانهم، ولا يكون هذا إلا عن طريق إحداث تغيير نفسي وعقلي جذري عند المسلمين، عن طريق القضاء على عقيدة الولاء والبراء وروح الجهاد، أو إضعاف تأثير ذلك عليهم”.
ويضيف: “التَّطبِيع هو مصطلح من مبتكرات الصّراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتّقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السّلمي النّشط في كافة المجالات”.
وقد أقرّ الإسلام مبدأ المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وهو مبدأ مهم في عقيدة الإسلام، نبه إليه الشّارع في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ المجادلة:22، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ النساء:144، وقال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ الممتحنة:1.
حكم التَّطبِيع:
يقول الرّقب: التّطبيع مع اليهود مُحرم شرعاً وهو من كبائر الذّنوب، لما فيه من الاستسلام للكفار وعلو شأنهم، وإضاعة للدّين، وللأراضي والمقدسات الإسلامية، وفي مظاهرة ومعاونة العدو المحتل؛ كفر وردة عن الدّين، ومن يتعاون معه أمنياً؛ برأت منه ذمّة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ، قال رسول الله ﷺ: “مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ” أخرجه الحاكم، وقال الألباني صحيح.
دورهم في وقت الحروب والأزمات
معظم هذه الأصناف وإن اختلفت تسمياتهم؛ إلا أنهم يؤدّون أدواراً مشتركة في زعزعة الصّف المُسلم خاصة في الأزمات والحروب؛ حيث تكون المخاطر أعظم وأشد وطأة على الصف المسلم، فيحاسَبون على قدر مقاصدهم ونواياهم، كما قال رسول الله ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات”، ويستثنى من ذلك من عفا الله عنه وغفر له وتاب عليه ليتوب.
شبهات حول طوفان الأقصى
بعد طول مدة الحرب على غزة وهدر دماء آلاف الأبرياء من المدنيين، وهدم أكثر من 80% من البُنية السكانية في قطاع غزّة؛ ظهرت بعض الأصوات المستنكرة لهجوم السابع من أكتوبر على اعتبار أنها كانت خطوة اندفاعية وغير مدروسة، لم تنظر في الحال ولم تعتبر المآل مُشكّكةً في صوابية الفعل والقرار، ومن هذه الشّبُهات:
شرط اعتبار توازن القوى!
توازن القوى من التّعبيرات الدوليّة المعاصرة التي ظهرت مع بداية ظهور الدولة القوميّة، ولم يتفق علماء الاجتماع والمفكرون والسياسيون على تعريف مشترك وموحد له؛ مما تسبب في إشكالية توظيفه؛ خاصة عند بعض الشرعيين الذين لم يتمكنوا من فهم الواقع مع كثرة تعقيدات العلاقات السياسة والدولية؛ ومما أدى إلى احتدام فكري في الأوساط الإسلامية بين مؤيد لعبور السابع من أكتوبر وبين معارض لانتفاء شرط التكافؤ!
توازن القوى مصطلح سياسي نشأ في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية وله حمولات دلالية يجب فهمها بدقة وفي بيئتها التي خرجت منها، تفادياً للأخطاء التّطبيقية التي قد تنتج عن سوء تصور هذا المفهوم بدقة وإنزاله حيث لا يحتمل التنزيل، وكما يُقال؛ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره!
وهذا التيار ذهب لفهم المصطلح في بابه اللغوي دون النّظر في المعنى الاصطلاحي والسياقات البيئية التي ظهر فيها وتداعياته السياسية، فراح يُقحم هذا المصطلح ليكون جزءاً من المنظومة التشريعية مستشهداً بموقف انسحاب سيدنا خالد بن الوليد في معركة مؤتة، وجاعِله مُرتكزَاً يؤّسس عليه دون التفرقة بين مفهوم توازن القوى بشكل شمولي كاستراتيجية في إقامة التحالفات لردع القوى المُهيمنة وبين المقايسة ما بين المصالح والمفاسد!
فسيدنا خالد بن الوليد -رضي الله عنه- نظر في المصالح والمفاسد وآثر حفظ دماء الجند على هدرها عندما غلب على ظنه عدم تحقيق النصر، فأعمل ميزان المصالح والمفاسد، ولم يكن انسحابه من منطلق عدم توازن القوى كما يدّعي بعضُهم؛ إذ بلغ عدد المسلمين في هذه المعركة ثلاثة آلاف جندي مقابل مائتي ألف مقاتل من المشركين، ومع ذلك أمر الرسول ﷺ بإنفاذ الجيش، فهل غفل الرسول ﷺ -المُسدّد بالوحي- عن هذه المسألة!!!! فضلاً عن أن عدد المسلمين في كثير من المعارك مع المشركين كان أقل بكثير من عدد المشركين ومع ذلك كان ينتصر المسلمون فيها، وعليه فإن مسألة اعتبار توازن القوى بهذا المنطق يحتاج إلى إعادة نظر!
ومسألة أخرى؛ أن الله -سبحانه وتعالى- أمر المسلمين بالإعداد بالمقدور عليه حيث قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال:60، ولم يقل أعدوا لهم قوة تكافئ قوة المشركين، لأن النّصر ابتداءً وانتهاءً بيده -عز وجل- لا بيد الناس، هم مأمورون بالأخذ بالأسباب وبالإعداد ثم يأتي النصر من عنده -سبحانه-: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾ٌ الأنفال: 10، لذلك كان ينسب الله -عز وجل- النصر دائماً إلى نفسه في القرآن الكريم.
ولو انتظر المسلمون مسألة تحقيق التكافؤ؛ لما حاربوا أبداً ولتعطّل الجهاد لأنهم لن يصلوا لمرحلة التكافؤ مع كثرة عدة وعتاد العدو وامتلاكه التطورات التكنولوجية فضلاً عن التحالفات الدولية التي يقيمها، فهي تلغي أي فكرة تكافؤ أو توازن مهما بلغت ذروتها!
وفي الحقيقة إنّ مفهوم توازن القوى كما يُفهم في الحقل السياسي لا يتواسق مع ما يتصوره بعض الشرعيين القائلين بوجوب توازن القوى للشروع في المواجهة “الجهاد”؛ ذلك أن منظري فلسفة توازن القوى عرفوها بأنها الحالة التي تتعادل وتتكافأ عندها المقدرات البنائية والسلوكية والقيمية لدولة ما منفردة أو مجموعة من الدول المتحالفة مع غيرها من الوحدات السياسية المتنافسة معها، بحيث تضمن هذه الحالة للدولة أو لمجموعة الدول المتحالفة ردع أو مجابهة التهديدات الموجهة ضدها من دولة أخرى أو أكثر، وبما يمكّنها من التّحرك السريع وحرية العمل في جميع المجالات للعودة إلى هذه الحالة عند حدوث أي خلل فيها بما يحقق الاستقرار.
ومسألة إضافية؛ أن هذا الفريق لم يفرّق بين جهاد الطّلب وجهاد الدّفع في إعمال مبدأ توازن القوى، ففي الأول يصح الكفّ عن جهاد الأعداء مع غلبة ظن عدم تحقيق النصر، أما في الثاني؛ فيتعذر إعمال مبدأ توازن القوى لأنه دفع صائل؛ فالمسلم مأمور بالدفاع عن دينه وعرضه ما أمكن، وإن مات فهو شهيد كما قال ﷺ، ولا يُعقل أن يُقال له انتظر حتى تتكافئ قوتك مع قوة من سرقك لتباشر الدفاع عن نفسك وعرضك ومالك وأرضك!!!
عصمة الدم المُسلم
تعلّل بعض من عارض هجوم السابع من أكتوبر بأحاديث مثل: لهدمُ الكعبةِ حجرًا حجرًا أهونُ مِنْ قتلِ المسلمِ، وهذا الحديث لا يصح وقيل لا أصل له أو بأصله موضوع، وقال السّخاوي في المقاصد الحسنة: لم أقف عليه بهذا اللفظ، وحديث: لزوالُ الدُّنيا أهونُ على اللهِ من قتلِ مسلمٍ، قيل لا يصح عن النبي ﷺ، لكن يصح من قول عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-، وبالرغم من أن هذه الأحاديث تصح معنى حيث عصم الله دماء المسلمين، إلا أن حفظ الدماء ليس غاية مطلقة في الإسلام؛ حيث إنها تبذل رخيصة عندما تكون في سبيل الله وفي سبيل الحفاظ على المقدسات وإعلاء كلمة التّوحيد، ولذلك شُرِعَ الجهاد، وفيه بالضرورة تعريض النفس للهلاك؛ وما كان هجوم السابع من أكتوبر إلا دفاعاً عن المسجد الأقصى الذي كانت تُدنس باحاته وتُنتهك حُرُماته ويُقتحم من قبل عصابات العدوّ، فلا تصدقوا من يدّعي حرمة دماء المسلمين حتى وإن كانت دفاعاً عن الدين!
الفهم القاصر لمعنى النصر
معركة طوفان الأقصى كانت السبب في الفتوحات القلبية، دخل آلاف الناس الإسلام وبدأوا يبحثون عن الإسلام بعد رؤية ثبات أهل غزة، فالنصر بمعناه الشمولي والاستراتيجي تحقق بهذا الفتح العظيم، ولو قام علماء الأمة ودعاتها على صعيد واحد واجتهدوا على إدخال هذا الكم الهائل من الشباب والشابات في هذا الوقت القياسي ما لَمَا استطاعوا، وإن عودة القضية الفلسطينية لمركزيتها في قلوب شعوب الأمة بل العالم أجمع يعدّ من الانتصارات الكبرى، وتأخير تقدم المشروع الصهيوني وبناء الهيكل المزعوم يعد انتصاراً، وكره العالم للكيان الصهيوني وشدة استعدائه له يعد انتصاراً، ودحض جهود التطبيع يعد انتصاراً كبيراً للمسلمين، فالنصر ليس مقصوراً على الانتصار في أرض المعركة وحسب كما يعتقد أصحاب النظرة المحدودة!
شرط الجهاد تحت لواء الدولة الإسلامية
وكما ذُكر سابقاً أن هناك فرق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب، فجهاد الدفع يتعيّن على كل مسلم ومسلمة حتى على المرأة غير المكلفة بالجهاد فتخرج دون استئذان زوجها، وكذلك يخرج العبد دون استئذان سيده، فلا يُشترط الخروج تحت لواء الدولة في جهاد الدفع.
اتفاقيات “حفظ السلام” المبرمة في ظل الدولة القومية!!
في ظل نشوء الدولة القومية والعلاقات الدولية ومعاهدات السلام المبرمة ما بين الدول؛ يدّعي البعض وجوب احترام هذه المعاهدات والالتزام بها، وعدم صحة الدعوى للخروج للجهاد “المعطل” بالضرورة مع سيرورة هذه الاتفاقيات، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، أي معاهدات هذه التي تقوي الأعداء على الصف المسلم، وما مدى مشروعيتها في ظل الآيات التي تتحدث عن براءة الله ورسوله ﷺ ممن يوالي الكفار على المسلمين ويساعد في تقويتهم، وقد أفتى علماء الأمة بُعَيد طوفان الأقصى بفساد كل هذه المعاهدات والاتفاقيات الباطلة التي لا اعتبار لها شرعاً حيث تُقرّ الظلم ولا تُقيم العدل، وتقوي شوكة من حاد الله ورسوله، قال ﷺ “المسلمونَ تتَكافأُ دماؤُهم، يسعَى بذمَّتِهم أدناهُم، ويُجيرُ عليهِم أقصاهُم، وَهم يدٌ علَى مَن سِواهُم، يردُّ مُشدُّهم علَى مُضعفِهم ومُتسرِّيهم علَى قاعدِهم، لا يُقتلُ مؤمنٌ بِكافرٍ ولا ذو عَهدٍ في عَهدِه” حسن صحيح، الألباني.
فقه الحديث وتقدير التّوقيت
من يتحدث في أشد الأوقات خطورة وحساسية في مسائل تُضعف الصف المسلم مع علمه الكامل ووعيه التام بتأثيره السلبي على المجاهدين والرأي العام -لخبث نفسٍ وفساد نيّةٍ وسوء طويّةٍ- فهو ينضم لركب المُخذّلين والمنافقين والمتواطئين، ولا يُعذَر بادّعائه إرادة النّقد البنّاء والنُّصح الرّاشد، فالمراجعات لا تكون إلا بعد انتهاء المعارك وفي دوائر ضيّقة، والنصيحة لا تكون إلا سراً، حفاظاً على وحدة وتلاحم الصف المسلم ولقتل الفتن التي قد تنشط في ظل الحروب والأزمات.
ربما يكون في النقد وجه صحة، لكنه حتماً لن يخدم المشروع الإسلامي حال طغت مفاسده على المصالح المرجوّة؛ خاصة إذا كان سيضر بأهل الثغور الذين يخوضون حروباً دامية وطاحنة مع أعداء الإسلام، بل ربما اقتصر هذا النقد على خدمة مصالح العدو فحسب!! فالحذر الحذر أن نكون مع الخائضين وفي زمرة المنافقين!
مظاهرات الجامعات الأمريكية؛ مأزق فكري وأزمة واقع!!
لعقود طويلة؛ ظلت الأنظمة الغربية تتباهي أمام شعوبها بأنها دول حريّات وديمقراطيات، وبأنها دول حضارية تؤمن بالرأي والرأي الآخر بلا حدود، وتسمح بالتعبير وبالنقد حتى لو طال أعلى سلطة في البلاد! لعهود طويلة ظلت تنادي تلك الأنظمة بحرية الفكر والمُعتقد والتعبير والممارسات وتدافع عن حقوق الإنسان وكرامته وتنبذ العنصرية على أساس الدين واللون والعرق عبر من يمثلها من منظمات مجتمعية وحقوقية وقانونية، إلى أن استيقظت تلك المجتمعات والشعوب بعد حرب غزة 2023 لتواجه الحقيقة المُرّة، استيقظت على كابوس وخدعة الحريات الكبرى، فأين حرية التعبير التي تربّت عليها تلك الأجيال في ظل قمع المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية اليوم؟!!
مأزق فكري وواقع مأزوم
إن كل ما قام به الشباب في الجامعات الأمريكية هو ممارسة حرية التعبير عن رأيهم في تعاطفهم مع شعب غزة وعن رفضهم للظلم منادياً بوقف جرائم الحرب والإبادة المستمرة منذ أكثر من نصف عام، خرجت المظاهرات الطلابية من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، من أجل القيم التي نشأ عليها هذا الجيل، إنه يعيش اليوم صدمةً حقيقية، وواقعاً مأزوماً مُتهماً بالتناقضات والانفصام والكذب والخداع!!
الجيل الذي تربى على الحرية المطلقة في كل شيء، حرية الفكر والممارسات، حرية الرأي والتعبير، حرية المرأة، حرية اختيار الجنس وتغييره، حرية ممارسة الأطفال للجنس، حرية بلا قيد في كل شيء، كيف سيواجه الواقع المأزوم المشحون بالتناقضات وازدواجية المعايير؟!!
هذا الجيل الذي تربى على أفكار فلاسفة الغرب التنويريين ومفكريهم المنافحين عن كرامة الإنسان وحريته، مثل مونتسكيو وجون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو، هذا الجيل الذي تربى على مقولة فولتير الشهيرة: “قد أختلف معك بالرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك”!!
لقد سقطت تلك الأنظمة سقوطاً مُدوياً في اختبار الديمقراطية والتي كانت تتشدق وتتعالى بها على الأمم الأخرى، اتضح أنها لا تؤمن إلا بمصالحها وأن لا قيمة حقيقية لشعارات القيم والأخلاق والمبادئ إلا ما وافق مصالحها.
لن تقف التحركات الطلابية اليوم عند حد المطالبة بحرية التعبير وحسب؛ بل ستنتقل لمرحلة أعقد؛ وهي الدفاع عن حقهم في التعبير عن الرأي، بل والمطالبة بمحاسبة الحكومة التي أطلقت يد الشرطة لتعتقلهم بكل همجية ووحشية، اكتشف هذا الجيل أنه عاجز عن الدفاع عن حرية فكره هو نفسه فضلاً عن عجزه عن حماية حرية الآخرين!!
حرّية تعبير أم سياسة “تنفيس”؟!!
يدّعي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن الذي يدعم الكيان الصهيوني منذ بداية 7 من أكتوبر وحتى اليوم معنوياً ومادياً، حيث استخدم حق الفيتو لمرات عديدة للتصويت ضد قرار وقف إطلاق النار وقتل المدنيين في غزة، والذي أرسل ملايين الأطنان من المتفجرات والآليات الثقيلة والأسلحة لقتل أطفال غزة؛ يدّعي أنه يدعم حرية التعبير والنقاش وعدم التمييز في حرم الجامعات كما جاء في بيان المتحدثة باسم البيت الأبيض؛ كارين جان بيار، والحقيقة أنه يريد بذلك امتصاص غضب واحتقان الشباب في الجامعات الأمريكية ليس إلا، لتهدئة الوضع والالتفاف على الحراك الطلابي الذي أصبح يشكل توتراً عالياً وفوضى عارمة حيث أحرجت هذه التحركات الحكومة الأمريكية أمام جمهورها والمجتمع الدولي، مما دفعها لاستخدام سياسة ما يسمى “بالتنفيس” تفادياً للتصعيد المتوقع إذ ما قوبل بقمع وصد أكبر!
حرية التعبير وخطاب الكراهية
غالباً ما يتم التأطير الإعلامي للقصص الخبرية عبر الإعلام المؤدلج من خلال التركيز على معنى معين ومحدد وتكراره باستمرار، فعندما يتحدثون عن الإيمان بحرية التعبير يتم إقرانه مباشرة بمفهوم آخر والتركيز عليه مثل “خطاب الكراهية”، فيتم توجيه رسائل مُبطنة للجمهور بأننا دولة ديمقراطية تؤمن بحرية التعبير وفي نفس الوقت ننبذ خطاب الكراهية والتعبئة ضد فئة بعينها، لكن المشكلة أن هذا التأطير يتم توظيفه تبعاً لمصالح السياسة الخارجية للحكومة وبما يخدم تحالفاتها مع الدول الأخرى، فخطاب الكراهية لا يتم استعارته إلا عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.
“فزّاعة” معاداة السامية
فزاعة الطّيور هي تمثال على شكل إنسان مصنوع من القش والثوب، يُنصب في المزارع لتخويف الطيور والحيوانات من الاقتراب من الحقول، وكذلك فزاعة “معاداة السامية” يتم استخدامها مع كل من يتجرأ على نقد جرائم الصهاينة واليهود بشكل عام، وأول من استعمل مصطلح “اللاسامية” أو “ضد السامية” Anti-Semitism الألماني ولهلم مار لوصف موجة العداء لليهود في أوروبا الوسطى في أواسط القرن التاسع عشر على اعتبارها تعد شكلاً من أشكال العنصرية، وأصبح يستخدم المصطلح كمفهوم لكراهية اليهود بشكل عام على أساس دينهم وعرقهم.
واليوم أكثر ما يتم تداوله واستخدامه في تبرير قمع المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية هو التحذير من خطاب الكراهية وتخويف الناس بفزّاعة “معاداة السامية” لصرف انتباههم عن جريمة قمع حرية التّعبير في أكثر دول العالم “ديمقراطية وحرية” وفي أكثر الدول مناداة بحرية الرأي والتعبير!
سقوط في اختبار الأخلاق والقيم
إن التحركات الطلابية في الجامعات الأمريكية هو بداية انفراط العقد، لقد سقطت تلك الأنظمة في اختبار الحريات والديمقراطيات والأخلاق والمبادئ على يد “طوفان الأقصى” وأثبتت أنها منافقة ومزدوجة المعايير، وإن أول من سيقوم بمحاسبة هذه الأنظمة والدول هم الأحرار من شبابها وشعبها.
الواجبات والمسؤوليات
إن ما يحدث اليوم في المجتمع الأمريكي لا بد من استثماره بشكل صحيح في خدمة قضايانا العادلة، يجب ألا نضيّع فرصة استثمار تلك الأصوات الحُرّة في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا الحدث النوعي لن يتكرر، ولذلك لا بد من استثماره في المناشط الدعوية لإبراز قيم الإسلام الحقيقة ومبادئه السامية والتي تم تشويهها -بشكل ممنهج- في العقلية الغربية، لا بد من استثماره في خدمة قضايا الأمة الإسلامية وعلى رأسها فلسطين والأقصى وغزة، وهذا يقع بالضرورة على عاتق الجاليات الإسلامية في الدول الغربية فضلاً عن الجهود الرقمية لكل مستطيع.
تجليّات التّسليم الرّاشد في مواقف الخليل –عليه السلام–
“وفي حضرة الطّوفان”
إن الحالة التي نعيشها اليوم من ألمٍ وإحباط في ظل أحداث طوفان الأقصى جسّدها البيان القرآني في سورة الأحزاب في قوله تعالى:﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ الأحزاب:10، وبالفعل لقد بَلَغت فينا الحربُ مبلَغها، وضاقت علينا الأرضُ بما رحُبت، وجاؤونا من فوقِنا ومن أسفلنا، وزاغت الأبصار، وبلغت القُلوب الحناجر، وزُلزِلت الأنفس زلزالاً شديداً؛ حتى قال الذين آمنوا متى نصرُ الله؟، وقال الذين هم دونهم أين الله؟ لماذا يتركُنا؟ ألم يعِدنا بالنّصر؟ فأين النّصر؟ ولماذا كل هذا الظّلم؟!!
ويأتي الجواب: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ البقرة: 214 نعم إن نصر الله قريب لكننا نستعجل، كما قال رسول الله ﷺ لصحابته عندما استبطؤوا النصر: “ولكنكم تستعجلون”.
هو الحيّ القيّوم الذي لا يعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، هو الله الجبار القهّار المنتقم العادل القادر على استظهار دينه وإقامة الحق حالاً، أو إرجائه لحين يشاء قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ الأنبياء: 23 نعم لا يُسأل العظيم عمّا يفعل لأن عقولنا قاصرة عن إدراك غاية حِكمته ومُنتهى مُراده في خلقه، فليس لنا التّدخّل في مشيئته، نعم إن الابتلاء شديد والكرب عظيم، وليس لنا إلا التسليم في هذه الشّدّة، مُتّصلين بحبل الله المتين، لاجئين لكتابه الكريم شافياً للقلوب، وبلسماً للجروح، ومُعلّلاً للنّفوس، جابراً للانكسار، مَعِيناً للواردين، ومُعيناً للسّالكين، صابرين عليه ومرابطين على ثغور الحق إلى أن نلقاه مع التّسليم الرّاشد بيقين النصر والاستعلاء!
عندما نقرأ القرآن قراءة استرشاد واستهداء، نجده مُطبّباً لأوجاعنا، سلوى لأرواحنا التي أنهكتها غُربة الدنيا ونكدها، وملاذاً لتِيه أفكارنا، ودليلاً لحيْرتنا، فيهدأ القلب ويسكُن الرّوع، ويزداد اليقين فيكون التسلّيم لقضاء الله وقدره وسُنَنِه الكونية؛ سنّة الصّراع الدائم والدائر بين الحق والباطل وبين الخير والشّر، لكن التسليم لا يعني أبداً الاستسلام، ولا يعفينا بالضرورة من النّهوض بمقتضيات النّصر وإعمال قوانينه المُستقرأة من نصوص الوحي، ولا يُسقط عنا وِزر الخذلان أو إثم التّقاعد عن الأخذ بالأسباب والتّمكن من أدوات القوة والمنعة المعنوية والمادية وصولاً للغلبة والتّمكين!
يأتي التّسليم الرّاشد والرضا الواعي والمُبصِر بالنتائج -أياً كانت- بعد هذه المراحل المُتكاملة والمُتفاعلة من الإعداد الطويل والتخطيط والعمل الدؤوب واستفراغ المقدور، فنحن مطالبون بالسّعي لا بالبلوغ، فقد سَأل نبينا إبراهيم -عليه السلام- ربَّه -عندما أمره بالأذان في الناس للحج- قائلاً: “يارب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعلي البلاغ”، فالنتجة أمرٌ خارج عن قدرة المُكلّف المحدودة، وأمرها إلى الله بخلاف السعي الذي تناط به مصائر العباد.
يُعد التّسليم الرّاشد أحد أدوات التّمكين النّفسي الذي يستقوِي به المؤمن على مصائب ومصاعب الحياة والابتلاءات، لكن كيف نعيش معاني التّسليم الرّاشد من هدي القرآن ونجعله سلوكاً مُختَاراً في حياتنا لا واقعاً مفروضاً؛ كرافعة روحية تنتشل النّفس مِن نوبات اليأس وتستنقذها من طوارق القنوط؟!!!
بونٌ شاسع بين التّسليم مع رضوخ وضعف وعجز، والتسليم مع إباءٍ وقوة وعزم، والذي يفصل بينهما صلابة العقيدة ووضوح الرؤية ورباطة الجأش واشتداد البأس وعزم المُضيّ، وما يسمو بهذه المعاني؛ صدق النّية وعلو الهّمة للعمل دون كلل مهما اشتطت بنا سُّفُن الضلال والظلام واشتدت علينا المحن والآلام طالما أنّ الرّحمة الإلهية تظلّلنا والمعيّة الرّبّانية ترعانا وتصنعنا على أعينها!
وبين عبادة الله على حرفٍ ورهبةٍ وعبادته عن حبٍ ورغبةٍ درجات ومراتب، يرقى فيها العبد بحسب ارتقائه في مراتب الإيمان واليقين والقرب يكللهم توفيق الله وهدايته بلوغاً لمُنتهى الرّشد في التسليم؛ فهو عملية عقلية وجدانية ابتداء تظهر آثارها سلوكاً مملوءاً بالدافعية لمزيد عمل وعطاء مع اطمئنان عميق، ويتجلّى معنى التّسليم الرّاشد في مواقف سيدنا إبراهيم -عليه السلام- مع ربه؛ ومن صوره التي جسّدها القرآن الكريم:
أولاً: لما همّ الخليل بتنفيذ أمر ربّه بذبح ابنه؛ سلّم فوراً دون تلكّؤ أو مراجعة واستفسار، فشدة وقع الخبر عليه وجسامته لم تؤخّره عن فور الاستجابة والتّنفيذ بالرغم من أن إسماعيل كان دعوة أبيه لربه ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الصافات: 100، فاختبار سيدنا إبراهيم لم يكن اختباراً عادياً مما يُمتَحن به عوام البشر وكأن هذا الاختبار الصعب وَافَقَ مرتبة النّبوة السّامية وزادها مرتبةُ الأُوْلي عزميّة، فضلاً عن مرتبة الخليليّة التي زادته صعوبةً في أن يكون هو المُكلف بذبح ابنه؛ فعلى قدر الحب والقرب يكون الاختبار، فما أشدّه من اختبار على النفس البشرية أن يقتل الرجل ولده الذي كان أمنيةً ورجاءً ودعاءً بعد طول اصطبار وانتظار، وقيل: “لما تعلّقت شُعبةٌ من قلب إبراهيم بمحبة ولده؛ أُمِرَ بذبح المحبوب ليظهر صفاء الخُلّة”، وإنّ المُحب لَأَن تنازعه الرّوح ألف مرة أهون عليه من التّخلي عن محبوبه الذي ملك شغاف القلب وكان له النبض والحياة، فما بالنا بذبحه عن طواعية وتسليم رغبةً في استوداد الودود!!!
ثانياً: عندما ترك السيدة هاجر -عليها السلام- وابنها في وادٍ غير ذي زرعٍ تعجبت ثم تبعته قائلة: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا ربه أن يحفظهم ويرزقهم، والمُلفت أن التسليم الرّاشد لم يكن من إبراهيم -عليه السلام- فحسب؛ بل قوبل كذلك من السيدة العظيمة أم إسماعيل فأجابته إجابة الموقن بربه وأنه الخالق والرّازق والمُحيي والمُميت وليس البشر إلا أسباباً ووسائل، فلم تتعلق بالزوج رغم وحشة المكان وانقطاع الأُنْس والإنْس، ورغم حاجتها الماسة لمن يقوم على رعايتها وحمايتها هي وابنها.
ثالثاً: حطَّم إبراهيم -عليه السلام- أصنام قومه حتى يبيِّن لهم سوء صنيعهم في عبادة آلهة لا تضر ولا تنفع، فلما تبينوا سوء فعلهم وقلة حيلتهم عن دفع حججه؛ قالوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء: 68، فجمعوا حطبًا كثيرًا ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض وأضرموها نارًا فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقَدْ قط نارٌ مثلها، وجعلوا إبراهيم -عليه السلام- في كفة المنجنيق، فلما ألقَوه قال: “حسبي الله ونعم الوكيل”، وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأما من الله فبلى، قال الله – عز وجل-: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الأنبياء: 69، قال: لم يبقَ نار في الأرض إلا طفئت، وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحدٌ يومئذ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وَثاقِه.
فهكذا يكون نصرُ الله لأوليائه بصدق التّوكّل وبالتسليم التّام الرّاشد عن وعي ويقين، فإنه سبحانه قد قضى في قضائه، أنه من عادى له وليًّا فقد آذنه بالحرب.
إن ما يُعيننا على بلوغ الرشد في التسليم؛ الإيمان باليوم الآخر حيث يجعلنا أكثر اطمئناناً بأن الموت ليس نهاية المشهد وأن المظلومين سيُقتَصّ لهم من الظالمين وستتحقق فيهم العدالة الإلهية إما في الدنيا أو في الآخرة، وهذا الشعور سيستجلب بالضرورة التسليم الراشد والرضا بما كتب الله، فما أشق الحياة على من لا يؤمن بهذه العقيدة ويُنكرها!!!
وإن عميق الإيمان بالقضاء والقدر واستحضاره في كل لحظة، يجنّبنا كذلك التّسخّط على الله؛ فنرقى من درجة التسليم الاضطراري إلى مرتبة التسليم الاختياري، ومن تسليم المُكْرَه إلى تسليم المُحب، ومن تسليم الساخط إلى تسليم الراغب، ومن تسليم التّائه إلى تسليم العارف، وإن استحضار علّة الوجود والاستخلاف في الدنيا؛ يهوّن علينا المصائب ويُقِزّم في عيوننا الخسائر أمام عظم مقصد استرضاء الخالق ويحوّل تسليمنا من تسليم اعتياد العوام إلى تسليم رُشد الخواص.
إن الابتلاءات المتوالية على شعب غزة وضعتهم في اختبار لا يقوى عليه إلا من وَطّن نفسه على تلك المعاني وعاش حياته لله، صابراً على قضائه وقدره مهما اشتدت الابتلاءات، مُنتظراً لقاءه، محتسباً أنفاسه لله، متوكلاً عليه، فهذا هو معنى التّسليم الرّاشد.
كلمة أخيرة
هي حرب الطوفان التي غيّرت موازين اللعبة السياسية والدولية، غيّرت الحكومات، غيّرت الدول، غيّرت الناس، غيّرت الأفكار والسلوكيات، غيرتنا جميعاً، أحيَت ضمير الأمة، بعَثَتنا مِن مرقدنا، معركة الطوفان قدمت آلاف الشهداء لتقول للعالم وتثبت له بالدليل القاطع .. وبالدماء أن الفلسطينيين لم يبيعوا أرضهم يوماً.. يموتون على ثراها مدافعين عنها بالدماء والأولاد.. هم متجذّرون في أرضهم .. كشجر زيتونها .. لم يتركوها ولن يتركوها أبداً.. وأن المحتل الجبان الذي فر هارباً خارج الأراضي المحتلة مع سماع دوي أول رصاصة؛ هو الذي سرق الأرض واغتصبها، فصاحب الأرض متجذر فيها؛ وإن اقتلعوا روحه منها!! صامدٌ على أرضه .. ثابتٌ على الحق لا تزعزعه حرب ولا تحالفات وقوى.. بقوة عقيدته الرّاسخة وإيمانه العميق، بحبه للجهاد والاستشهاد ثابت على هذه الأرض حتى النصر والتّحرير وهذا دأب ودرب الأنبياء والشهداء والصّديقين والأبطال ومن سار على هديهم إلى يوم الدين!!
إنه طوفان الوعي.. إنه طوفان الحياة ..
إنه البعث الجديد..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين