خاص هيئة علماء فلسطين
29/7/2025

صدر في بداية شهر رمضان المبارك 1446ه عن دار إقدام كتاب “الصيام والقيام حكم وأحكام” برعاية هيئة علماء فلسطين لمؤلفه العلامة المقاصدي الدكتور يونس الأسطل، وهو أحد أعلام وعلماء غزة، والكتاب سلسلة مقالات نشرها الدكتور قبل ذلك في مناسبات مختلفة وأوقات متباعدة، تتعلق بشهر رمضان وصيامه وقيامه.
وقد تميزت هذه المقالات بأفكارها العميقة، وعبارتها الجزلة، وكلماتها الأنيقة، وأسلوبها الأَخَّاذ المحاكي للغة القرآن، المؤثر في النفوس والسلوك، الباعث على العمل والانعتاق من الكسل.
وعمدة الكتاب ما انطوت عليه عبادة الصوم من أسرار، واحتف بها من أنوار، فالصيام رابع أركان الإسلام وفريضة في كل الشرائع السابقة لما له من مقاصد عظيمة مؤثرة في النفس والسلوك، وقيم وحكم مساهمة في بناء المجتمع ونهضة الحياة الطيبة في الدنيا، وأجور وثواب عميم في الآخرة.
والحكمة الكبرى والمقصد الأسمى لهذه الشعيرة هي التقوى، وهي مفسرة في صدر سورة البقرة بالذين يؤمنون بالعيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقهم ربهم ينفقون، كما يؤمنون بالكتب والرسل، وبالآخرة هم يوقنون، والتقوى تعني الوقاية، من السقوط في الآثام، والانحراف عن جادة الصواب، ووقاية النفس من الشح والبخل، ووقايتها من الأثرة، والاستغناء بحيازة المال، والصوم عن المحرمات حجابٌ من كثير من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، ذلك أن شهوتي البطون والأبضاع كانتا السبب الأول في شقاء البشرية، ولا زالتا كذلك، فإن إخراج الشيطان لآدم وزوجه كان إثر الأكل من الشجرة التي نهاهما ربهما عن قُربانها، وإن قابيل ابن آدم الأول قد أصبح من الخاسرين، إذ قتل أخاه هابيل حسداً أن تكون مخطوبته وضيئة، ليظفر بها، وبذلك فقد سَنَّ القتل في الأرض.
وإن بني إسرائيل الذين كانوا يوماً مفضَّلين على العالمين، إذ كان فيهم أمة يهدون بالحق، وبه يعدلون، غير أنهم قد هَوَت بهم هاتان الشهوتان في وادٍ سحيق، حتى ضرب لهم المثل بالكلاب والحمير، وجعل منهم ربهم القردة والخنازير، فإنهم لم يصبروا على الطعام واحد. واعتدوا في السبت، لما عوقبوا بالحرمان من الحيتان، وقد أخذوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل، ولم يكونوا يتناهون عن منكر فعلوه، وكانت أولى فتنتهم في النساء.
والصوم دورة تدريبية على خلق الصبر الذي هو نصف الإيمان والصوم نصف الصبر، كما جاء في الحديث، وقد ورد الصبر ومشتقاته في أكثر من ثمانين آية، ويرى كثير من المفسرين أن الصوم هو المعني في الأمر بالاستعانة بالصبر مع الصلاة في الآيتين ( 45-153) من سورة البقرة، كما فسروا به وصف السياحة في الآيتين (١١٢) من سورة التوبة، (٥) من سورة التحريم .
ومن أهم ما ركز عليه الكتاب كون الصوم تدريب على أعباء الجهاد والتعبئة بها؛ ليكون الصائمون أكثرَ القوم ثباتاً وصموداً؛ بل جهاداً وجلاداً، حتى لو انقطع المدد، وأَمْضَوْا أياماً معدوداتٍ من غير ماءٍ أو أقوات، كما حصل في بعض الغزوات، حين شَحَّتِ الأمداد، وكان نصيب الواحد منهم تمرةً واحدة في كل أربعٍ وعشرين ساعة، لكنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضَعُفُوا، وما استكانوا، والله يحب الصابرين.
فالصوم تدريب على احتمال ما يصيب المجاهدين من الظمأ والنصب والمخمصة، فيكونون أقدر على التجلد لها؛ فإن جيوش الجوع والعطش أَفْتَكُ بالجيوش من عدوهم، ذلك أن الذي لا يصبر على شهوة الطعام والشراب لا يصبر على شهوة الحياة، فإذا حَمِيَ الوَطيس، واحْمَرَّ البأس، رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشيِّ عليه من الموت، حتى لكأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون.
ألم تروا إلى طالوت الذي أُوتي بسطة في العلم والجسم كيف يقول للجنود: إن الله مبتليكم بنهرٍ، فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني؛ إلا من اغترف غرفةً بيده، فشربوا منه إلا قليلاً منهم، فلم يجدْ لهم عزماً، ورضوا أن يكونوا مع القاعدين، فكان مثلهم كالذين قالوا لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربُّك فقاتلا؛ إنا ههنا قاعدون.
ومن معاني الجهاد في الصوم أنه معركة تُخاض مع النفس الأمَّارة بالسوء، والنفسُ كالطفل في حُبِّ الشَبِّ على الرضاع، وإن تفطمه ينفطم، وفطام النفس بالصوم، وإذا كان الله لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم؛ فإن الصيام سبيل نقلها من اهتمامات الطفولة إلى الشعور بالرجولة، فإذا صارت النفوس كباراً تَعِبَتْ في مُرادها الأجسام.
ثم إنه معركة مع الشيطان الذي يُزَيِّنُ للإنسان سوء عمله، فيراه حسناً، وإن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدواً؛ إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، وهو الذي يخوفكم أولياءه، فلا تخافوهم وخافونِ إنْ كنتم مؤمنين، ولا تتبعوا خطوات الشيطان؛ إنه لكم عدوٌّ مبين.
إن من انتصر بالصوم على هؤلاء الأعداء في معركته الداخلية حقيقٌ أن يحقق النصر في معركته الخارجية، حين يجاهد الكفار والمنافقين، ويغلظ عليهم، وحين تقاتلون المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة.
إن الصوم رباط على حدود الله فلا تقربوها، وهو حراسةٌ للنفس من الجنوح أو الجماح للمعصية بقوة الوازع الديني، والهيبة من الله ذي الجلال والجبروت، وحَرِيٌّ بمن دأب على هذا الرباط، فكان ممن صبروا وصابروا ورابطوا، أن يستسهل الرباط في الثغور، فلا تؤتى الأوطان من قِبَلِه.
وستبقى عبادة الصوم بمقاصدها وأبعادها وآثارها تصنع الانتصار، وتحمي من الانكسار، وتصد مداخل الشيطان التي تتسلل من خلال شهوتي البطن والفرج.

إن كتاب “الصيام والقيام حكم وأحكام” جمع أهم مقاصد الصوم وأسراره من خلال التدبر لآيات من القرآن الكريم بأسلوب ماتع، وفكر ناصع، وعبارة جذابة، وقراءة تنزيلية على حوادث سابقة من الواقع الفلسطيني كانت إبان كتابة بعض المقالات، والكتاب يشحذ الهمم، وبربي العزائم، ويحث على اغتنام الأوقات بالطاعات، ولجم النفس عن الانسياق وراء الشهوات التي كانت سبب الشقاء، وهي اليوم سبب الهزائم والنكبات، ويدعو إلى جعل الصوم ميدان تدريب لخوض المعارك، وصناعة النصر، وإعادة المجد السليب.
