حوار مع د. محمود النفار حول سبل الإفادة من طوفان الأقصى في سياقات متعددة: فكرية وحضارية ودعوية
10/7/2024
الدكتور محمود النفار أكاديمي فلسطيني متخصص في السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة، ويشغل عضوية هيئة علماء فلسطين والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ويعمل حاليا أستاذا في كلية الإلهيات في جامعة وان بتركيا. وللنفار اشتغال معروف بالقضية الفلسطينية من منظور حضاري إسلامي، وله العديد من الدراسات والمقالات والمشاركات في هذا المجال كان آخرها كتابه: الأرض المقدسة من منظور فقه السنن عند الشيخ محمد الغزالي.
وتحدث لموقع هيئة علماء فلسطين عن عدد من القضايا الفكرية والدعوية المرتبطة بطوفان الأقصى، وسبل الارتحال إلى طور حضاري جديد عبره، فإلى الحوار:
1. ما دلالات معركة طوفان الأقصى بالنظر إلى مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر؟في البداية أشكر لكم هذه الاستضافة، وأسأل المولى العلي القدير أن يبارك في سعيكم هذا، وأؤكد على أهمية السؤال والحوار كأفق للتجديد المنشود؛ ذلك أن طوفان الأقصى قد طرح جملة وافية وضافية من الأسئلة المعرفية والمنهجية، وإذا تخلفت المؤسسات الشرعية عن تدبر تلك الأسئلة ثم محاولة الإجابة عليها فإنها ستتكلس وتجمد وتتراجع.بالنسبة إلى سؤالكم المهم أقول: إن طوفان الأقصى لحظة فارقة في الفكر الإسلامي بشكل عام لا في الفكر الإسلامي المعاصر فحسب، وهو يوم من أيام الله التي يجدر بالأمة وخاصة روادها من أهل العلم والفكر والرأي أن يحسنوا فقهها والتعامل معها وعيا وسعيا، تفكيرا وتثميرا.وقد مرت أمتنا بالعديد من اللحظات المفصلية على المستوى الفكري فاستثمرتها تارة فترقت وارتحلت نحو العلياء، كما هو حال الأمة في استثمار إسهامات الشافعي في الأصول، والأشعري في الكلام، والغزالي في التزكية، وضيعتها تارة فجمدت وانحطت إلى سفول، كما هو حالها في التعامل مع إسهامات ابن خلدون في فقه العمران، والشاطبي في مقاصد الشريعة.ونحسب أن طوفان الأقصى من أيام الله التي ينبغي معها وفيها تجديد الفكر الإسلامي المعاصر، وبث روح الجهاد والثورة فيه، من حيث هو ذروة سنام الإسلام، ومن حيث قيام أسبابه كما لم تقم مرة في التاريخ.إن هناك العديد من الأمارات على انتهاض كثير من المفكرين في الغرب بمراجعة نظرياتهم المعرفية ومقارباتهم المنهجية بسبب هذه الحرب، وإن رواد الفكرة الإسلامية هم أولى بهذا النهوض وأجدر بهذا القيام لجلب المصالح إلى الأمة والإنسانية ودرء المفاسد عنهما.
2. هل تمثل هذه المعركة نقطة تحول في تاريخ هذه الأمة بعد عقود من غيابها عن مسرح الشهود الحضاري؟إن التاريخ كما يقول مالك بن نبي رحمه الله يجب أن ينتهي التاريخ في نقظة ما كي يتجدد من نقطة جديدة، وإني أحسب أننا اليوم أمام حين استثنائي من الدهر طرأت فيه تغيرات كثيرة في النظام الدولي والشأن العالمي، فأمتنا تستعيد شهودها الحضاري من خلال هذا الطوفان الذي اهتزت له أركان العالم، وترك آثاره في بناه السياسية والفكرية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تزاحم الغربَ الصينُ معرفيا وتقنيا، وروسيا عسكريا وإستراتيجيا، وهناك الكثير من القوى الناهضة في الشرق والوسط، وهكذا اجتمعت فيها روافد التاريخ المنحدرة من علٍ لتلتقي في مصبٍّ منتظر، وبدت وكأنها تذلل الطريق لأمتنا لتسجل نفسها من جديد في سجلات التاريخ وذاكرات الإنسانية.وإن اختيارنا لمعاصرة طوفان الأقصى وهذه الأحداث الكبار بما يترتب عليها من نتائج وتغيرات اختبار وأي اختبار، وامتحان وأي امتحان، يوجب علينا فعلاً حضارياً استثنائيا كذلك، استجابة لنداء الكتاب الخالد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].وعلى من يستكثرون وصف واقعة الطوفان بالحين الاستثنائي أن يرجعوا أبصارهم إلى قضاء الله المبرم بأنه {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، فحينما تنزلت هذه الآية كانت في نظر ذوي الجاهلية من المشركين والمنافقين خرافة لا نبوءة، ووهما لا حقيقة، ومن سخّف تحدي الفرس والروم ذات يوم، ها هو اليوم يسخف تحدي الغرب وقاعدته المتقدمة في الشرق “دولة الكيان الصهيوني”.
3. كيف تنظر إلى حرب الإبادة على غزة في سياق علاقة العالم الإسلامي بالغرب؟لقد أعادت معركة طوفان الأقصى تعريف كثير من المفاهيم، ومن ذلك مفهوم الغرب كما يرى بعض المفكرين، فالغرب لم يعد غربا واحدا، فهناك الغرب الذي بات أقرب إلى السردية الفلسطينية وأبعد عن الرواية الصهيونية، وقد تمثل هذا الغرب على المستوى الرسمي في صعود بعض التيارات السياسية اليسارية إلى إدارة بعض الدول الغربية، وعلى المستوى الشعبي بخروج الملايين في تظاهرات غير مسبوقة، وحراك طلابي حيوي وفاعل.يشعر هذا الغرب بأن دولة الاحتلال عبء داخلي على أوروبا إذ يهدد القيم الغربية، وعبء خارجي إذ يهدد المصالح الغربية، وأحسب أن علاقة الجاليات المسلمة بهذا الغرب الذي يزاحم للحضور ويسعى لليقظة ستكون أقوى خلال السنوات القادمة، وإن واجب قادة الرأي وعلماء الشرع أن يذللوا الطريق نحو تحالفات عميقة مع هذه التيارات في الغرب.وهناك الغرب الذي أفصح عن وجهه القبيح بالدعم غير المحدود لدولة الاحتلال وحربه في إبادة الشعب الفلسطيني، وقد تمثل هذا الغرب على المستويين الرسمي والشعبي كذلك.ونحسب أن هذا الغرب سيكون معزولا عن الشعوب العربية والإسلامية خلال السنوات القادمة، وهو ما تنبأت به تقارير رسمية تحذر من خسارة جيل كامل، وإن واجب الأمة وجالياتها في الغرب تجاه هذا التيار فرض مزيد من العزلة عليه ومساءلته القيمية والأخلاقية كي تزداد الهوة بينه وبين دولة الاحتلال واللوبيات الصهيونية.لقد غيّر طوفان الأقصى منحنيات العلاقة مع الغرب بحسب الموقف من القضية الفلسطينية باعتبارها قضية ذات أبعاد قيمية وأخلاقية لا يمكن عزلها عن أي موقف سياسي أو دعم عسكري.
4. هناك الكثير من الفاعلية على مستوى الوعي العربي والإسلامي والعالمي بالقضية الفلسطينية. هل يشير ذلك برأيكم إلى طور جديد في العمل الإسلامي؟أتفق معكم، فهذا الوعي والسعي المنفسح مكانا يوشك مع رحابة الزمان أن يرسخ في الأذهان حتى لا تجدي معه الدعاية الصهيونية والتطبيعية، ثم إنه بدأ يأخذ أشكالا عملية ومؤسسية، تركت أثرها الضاغط ولا تزال في انتخابات أوروبا الأخيرة.وفي سياق العمل الإسلامي تحديدا أحسب أن هذا الوعي سيفضي إلى أشكال من التجديد في البنى السياسية والفكرية والاجتماعية القائمة؛ والسبب وراء ذلك أن طوفان الأقصى قدم نموذجا جديدا للمعرفة والخبرة التي ينبغي أن يتحلى بها قادة المشروع الإسلامي، ونموذجا آخر للعمل والسعي الجاد الذي لا يعرف المستحيل، وهذا الأمر يفرض على العاملين ضمن هذا المشروع مواكبة هذا الوعي والسعي النموذجي، وإلا فإن التغيير سينال البنى التي يقومون عليها أو سيتم إنشاء بنى جديدة.وفي كل الأحوال يلوح في الأفق ارتحال العمل الإسلامي من طور إلى آخر أكثر فاعلية، وأرسخ قدما، وأبقى مآلا، والله وحده الموفق.
5. إلى أين يتجه العالم الإسلامي بعد هذه المعركة والتي جاءت في ذروة التطبيع الديني والسياسي مع دولة الاحتلال فيما عرف باتفاقيات أبراهام؟إن انعتاق العالم الإسلامي من القيم السلبية في اللحظة الراهنة رهن بمسالك وخطط الإفادة من طوفان الأقصى محليا وإقليميا ودوليا، فالنظام الدولي يعاني من اضطراب حقيقي، والترتيبات الأمريكية للمنطقة باتت مأزومة بعد حرب الإبادة و”تجميد التطبيع”، وهناك استعداد نفسي واجتماعي حقيقي للتغيير في المنطقة، وهي معطيات لا ينبغي أن يغفل عن تثميرها رواد العالم الإسلامي من الدول والشعوب والأحزاب والمنظمات، وأنا أحذر من الذهول عن تثميرها؛ لأن مآل ذلك دورة عنف جديدة يستفيد منها أصحاب الفكر المتطرف في تجنيد الشباب بعد أن دب فيهم لهيب النار وخذلهم العلماء وأصحاب الفكر الوسطي بلا مسارات ودروب جهادية راشدة.أما التطبيع فإنني أعتقد أن المعركة معه لا تزال سارية، وهي وإن استتر ظهوره بسبب ظروف الحرب إلا أنها ستعود من جديد وإن بشكل أبطأ من ذي قبل، وهو ما يتطلب يقظة كبيرة وسعيا كبيرا لمراغمة هذا المنكر الكبير، إذ ” منع المبادي أهون من قطع التمادي” كما يقول إمام الحرمين.
6. بالنظر إلى خبرتكم السابقة في العمل في قطاعات العمل الديني في غزة: هناك من يقول بأن غزة قدمت نموذجا فريدا في العمل التربوي وأنماط التدين في المنطقة. هل تتفق مع هذا القول؟أتفق مع هذا الرأي، فقد أكرمني الله تعالى بأنني عملت في مختلف الأعمال الدينية والدعوية والتربوية: إماما وخطيبا وواعظا ومعلما ومحفظا ومربيا، كما تجولت في عدد من البلاد الإسلامية ورقبت نظامها التربوي وإدارتها للشأن الديني، وباحثت آخرين من غير الدول التي تجولت فيها، والحقيقة التي خلصت إليها أن التدين الذي يظهر اليوم للعالمين في غزة هو بحق تدين عميق وفريد، لا يقف عند ظواهر التعبد كما هو عند بعض التيارات الإسلامية التي تقصر العبادة على بعض المأثورات، ولا طقوس التصوف التي تحبس طلاقة الروح في بعض الأوراد.إن التدين الغزي الذي تكشف في هذه الحرب هو أقرب أنماط التدين المعاصر إلى تدين الصحابة، فهو يوازن بين الدنيا والآخرة، ويوسع مفهوم العبادة لتسع ضروب الفاعلية والحيوية المجتمعية، ويمزج معاني الروح الصوفي بشروط القوة ومقومات الحضارة ومقتضيات الجهاد، مع اتصال بالأمة وارتباط بالمقدسات ووضوح في الهوية، وإلى جانب ذلك استعداد للشهادة ورغبة فيها.ويقف وراء هذا النمط توفيق الله تعالى وإلهامه أولًا، ثم رجالات من الدعاة ذوي التخصصات الدينية والدنيوية المختلفة الذين انتصبوا في مخيال الشارع الغزي كقدوات وأبطال قدموا أوقاتهم وأعمارهم وممتلكاتهم وأبناءهم في سبيل الله فقضوا حياتهم في الأسر والتفاني في رعاية مصالح القضية والمجتمع، ثم إنهم أنشأوا مؤسسات راسخة مثل المسجد والمدرسة والجمعية الخيرية والنادي الرياضي والمخيم الثقافي والقناة التلفزيونية والموقع الإلكتروني والصفحات الاجتماعية والحسابات الشخصية، أسهمت هذه المؤسسات والفعاليات بالشراكة مع الأسرة بطريق التضام والتعاون المباشر وغير المباشر في بناء الفرد والمجتمع ليكون صلب الإيمان وقوي المعتقد وعظيم الجهاد.وإن واجب الدعاة اليوم الإفادة من هذا النموذج في صناعة نماذجهم الخاصة كي يستطيعوا بها مغالبة الإلحاد ومراغمة الشذوذ ومطاولة الإحباط.
7. أظهر طوفان الأقصى بعض الخطابات الدينية التي حمّلت المقاومة مسئولية الآثار الناجمة عن العدوان الصهيوني على غزة. كيف تقرؤون ذلك؟قسم طوفان الأقصى العلماء والدعاة إلى ثلاثة أقسام: علماء الطوفان، الذين أفصحوا عن دعم المقاومة ورأوا في اللحظة الراهنة فرصة لتجديد مواقف علماء الأمة الراسخين، وعلماء السلطان الذين حدوا ألسنتهم للنيل من المقاومة وتسخيف فعلها، وعلماء مترددون ينقصهم الوعي السياسي والعمق الإستراتيجي لذا تراهم يسارعون إلى رصد المفاسد والتحذير مما يفضي إليها.ويظن الصنفان الثاني والثالث أنهم يخترعون العجلة حين يحصون بعض المفاسد المترتبة على معركة السابع من أكتوبر، والله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فنسألهم: لماذا يكون الجهاد مكروها إذا كان خيرا كله، ومصلحة كله؟! ويقول الله أيضًا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: 24]، ونسألهم: إذا شرطت سلامة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والمساكن والأموال والتجارات في الجهاد. فلم المفاضلة في الآية إذن؟! إنّ الجهاد بذاته شاهد على فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، فهو مصلحة راجحة في سياق الموازنة مع مفاسد مصاحبة مرجوحة في نظر الشارع، ولذا أمر به كفاية وعيناً.إن جلّ هؤلاء من المخذلين الذين تقف وراء معظمهم أنظمة خائنة أو أهواء مستحكمة أو جهالات مركبة، وهم إنما يرقبون المصالح والمفاسد الواقعة ويغفلون عن المصالح والمفاسد المتوقعة، والتي كثير منها ذات طابع إستراتيجي، وهذه المصالح والمفاسد الإستراتيجية هي الأرجح في ميزان الشرع، ولذا دائما ما يلفت القرآن الكريم أنظار المؤمنين إلى العاقبة والمآل.وإنّ الحديث عن المستقبل يجر الحديث عن التقديرات المتعلقة به، يتعامل البعض مع هذه الحسابات وكأن المقاومة تعلم الغيب أو أنه مطلوب منها أن تفعل ذلك. إنّ الجهاد ضرب من الاجتهاد، وكلاهما بذل أقصى الوسع في التقدير والتدبير، وتبقى يد الله تعالى هي الغالبة، {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الأنفال: 7، 8]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 21].
8. ما هي المعايير التي ينبغي أن يحتكم إليها في تقويم جهود المؤسسات العلمية والشرعية في مساندة الطوفان؟أشكركم على هذا السؤال المهم، بالفعل نحن أحوج من نكون أن ضوابط دقيقة منهجية نحاكم إليها أعمالنا، ذلك أن كثيرًا في الدعاة من يبالغ في تقريظ سعيه وتقدير جهده حتى يرى نفسه مقيمًا الحجج على العالمين، وهو موغل في القصور ومُقْصِر عن الفاعلية.وأذكر هنا خمسة من المعايير أحسب أنه يمكن من خلالها اختبار صدقية الإرادة وجدية الاستعداد وحقيقة السعي.أول هذه المعايير هو الشورى، وأعني بها مشورة الخبراء وأهل الشأن، وهؤلاء متنوعو الخلفية المعرفية والتجربة العملية وليس بالضرورة من أهل الفقه، ذلك أن وجوه النصرة المنشودة للطوفان ذات طبيعة مركبة وتواجهها عوائق معقدة، وكلاهما يتطلب الرجوع إلى الخبراء على جهة الوجوب لتبصر الواقع، وتنزيل الواجب الشرعي عليه، وهذا الفقه يسميه أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بالفقه الإستراتيجي.والوجه الآخر للشورى هو شورى قادة المقاومة باعتبارهم القوام على ثغر هذه القضية والمؤتمنون على رباطاتها، وسيجد العلماء عندهم ما يرشد السعي العلمائي ليكون مواكبا للمعركة ومشاركا للمقاومة.وثانيها هو التعاون والتكامل، وأعني به: تضامن الدعاة والعلماء، أو المؤسسات العلمية والهيئات الدعوية وتعاونها فيما بينها لتتكامل فيما بينها في أداء واجب الإسناد والإمداد للمجاهدين. وثالثها هو التأثير، وأعني به: إفضاء هذه الفعاليات إلى إيقاف العدوان ورفع الظلم أو تقليله من خلال جملة من الوسائل المؤثرة والأدوات الفاعلة، ومن المعلوم أن الوسائل في النظر الشرعي إنما تعتبر من حيث إفضاؤها إلى مقاصدها، وتتعين رتبها بحسب المصالح التي تفضي إليها والمفاسد التي تدرؤها.ورابعها هو الجدة، وأعني به: أن تكون هذه الوسائل المؤثرة جديدة، ذلك أن هذه الحرب غير مسبوقة إجراما من قبل العدو، وإبداعا من جهة المقاومة، ولا يكافئ الجديد إلا الجديد، ولا يقابل الإبداع إلا الإبداع، وهذا التجديد مظنة المصلحة وأمارة على بذل الجهد غالبًا، أما استنساخ الجهود، وتكرار الأعمال فهو مظنة التقصير في بذل الوسع غالبًا، ومن الأمثلة على الجهود الفارغة والمخالفة لفقه الأولويات بناء الوعي بالقضية على معلومات جغرافية وتاريخية مثل عدد أبواب المسجد الأقصى وأورقته وبوائكه، وهي أمور على أهميتها لا تبني وعيا عميقا بالقضية الفلسطينية، ودراية وافية بالعدو وإستراتيجياته العسكرية والأمنية والاستيطانية، ومصالحه الإستراتيجية في المنطقة، ومستقبله في ضوء سنن العمران وقوانين التاريخ، ودراسة تحليلية لتجارب حركات التحرر المعاصرة ونقاط قوتها وضعفها، ومعرفة دقيقة لواقع المقاومة الفلسطينية وعوامل بقائها ومقومات صمودها، وأمارات تطورها، ونحو ذلك من الحقائق التي تبني وعيا إستراتيجيا وإرادة واعية بجدوى المقاومة وحسن عاقبتها بإذن الله تعالى.وخامسها هو الجودة، وأعني به: إتقان وإحكام الأعمال المناصرة للقضية الفلسطينية بحيث يسبقها التخطيط الطويل، ويصاحبها الحوار العميق، ويتبعها التقويم الصادق، أما إذا شاع في هذه الفعاليات الفوضى، واحتكار الكلام، وذاع فيها الثناء والتقريظ والمجاملة والمصانعة فهيهات أن تثمر شيئا ذا بال، فضلا عن خطة تحدد المصير.من شأن التزام هذه المعايير تجويد التفاعل العلمائي مع هذه المعركة الوجودية للقضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة العربية والإسلامية، والله الموفق.
.9. قدمت المرأة الفلسطينية في هذه الحرب نموذجا مدهشا على مستوى الصمود والشراكة في المقاومة. كيف تابعتم هذا الحضور وكيف يمكن تثميره في تجديد العمل النسائي الشرعي والدعوي؟تجلى في هذه المعركة الإمكانات الهائلة التي يختزنها الدين الإسلامي، والتي ظهرت في نساء وفتيات وطفلات غزة، فظهرن للإنسانية في هذه الصور: (شهيدة وجريحة وأسيرة)، أو (أم شهيد وزوجة جريح وابنة أسير)، أو (ثائرة ومجاهدة ومرابطة)، أو (صابرة على الجبروت والجراح والجوع)، أو (محركة للحياة وصانعة للمستحيل وراعية للأسرة) أو (حافظة لشرف الأمة وحارسة لمقدساتها وراعية لمصالحها)، وهكذا ظهرت إمكانات المرأة في النموذج الإسلامي كأظهر وأجمل وأقوى ما تكون.وينبغي اليوم على رائدات العمل النسائي الإسلامي أن يجددن خطابهن في سياقات الاعتراك مع التيارات النسوية وإعداد المرأة القوية المكافحة مستفيدين من هذا النموذج المدهش الحي والفاعل.
10. كيف تعلقون على شهادة عشرات من العلماء والدعاة في غزة من أساتذتكم وزملائكم؟فقدت في هذه المعركة كما سائر أهل غزة العزة ما لا يحصى من الأساتذة والطلاب والزملاء الذين كان لهم أثر كبير في الحالة العلمية والدعوية والتربوية في قطاع غزة، وامتد تأثير بعضهم في العالمين العربي والإسلامي، ولكن العزاء أنهم تمثلوا ذلك النموذج الذي لطالما سعى لتمثله الربانيون من العلماء وهو نموذج العالم المجاهد الذي يتقدم الصفوف وينافس الشبيبة على الموت، وتجسدوا تلك الصفة الشريفة الجامعة بين مداد العلم ودم الشهادة. إن الفقد كبير والجرح بليغ والألم عظيم ولكن العزاء أنهم نالوا ما تمنوا ورقوا إلى خير ما يرتقي إليه مؤمن، متابعين دروب الأنبياء والربيين والآمرين بالقسط الذين قتل منهم من قتل لأجل إرضاء الرحمان، وإصلاح الإنسان، وإقامة العمران، وتحقيق الشهود، وتأدية الأمانة، وإنجاز الخلافة، وتوفية الميثاق.واسمح لي في الختام أن أشكركم على هذه المقابلة سائلا المولى عز وجل أن يكون فيها النفع الدائم الماكث في الأرض لي وللسادة القراء الكرام.
11. ما رسالتك إلى طلبة العلم الشرعي المشتغلين بالعمل الدعوي والتربوي خاصة الشباب؟أقول للشباب من الدعاة إن هذا الطوفان فرصتكم لاختبار إرادتكم، وتجديد خطابكم، واستقطاب نشء وجيل جديد وإعداده بحسب مدخلات ومخرجات هذه المعركة المباركة، إن الزمان لا يجود بمثل هذه الفرص دوما، وإن الجيل الجديد من الأطفال والشباب قد تفتحت عيونهم على أبطال حقيقيين، وتفتقت قرائحهم عن مفاهيم جديدة، وقدمت أيديهم استعدادات جديدة، وحري بالدعاة، بل واجب وقتهم: اهتبال هذه الفرصة.وليحذروا كل الحذر من متابعة نفر من العلماء والدعاة الهاربين من الواجبات أو الهاربين نحو الأعطيات ممن ضاقت نفوسهم بنموذج علماء ودعاة وعوام غزة الذين قدموا المعنى للشباب والإنسانية، فاغتاظوا لذلك فبدأوا يحاولون لفت الأنظار واستقطاب الدعاة بقضايا أكل الدهر عليها وشرب، منصرفين عن مشاهد الجراح، ومشاهد البطولة، ومشاهد التدين الحي، والعلم النافع، والعمل الصالح.