سيرة، رؤية، ومواقف من الطوفان والأقصى
🖊 حوار : [د. عمر الجيوسي]

السيرة الذاتية والمكانية:
1. إذا أراد علماء وشباب اليوم أن يتعرفوا على د. منذر زيتون حيث مساقط الذكريات الأولى.. فعلينا أن نذهب معك إلى الزمان والمكان والتنشئة وسيرتك؟
الإجابة:
ولدت في مدينة العقبة بجنوب الأردن عام 1967، ونشأت في عائلة ارتحلت من الخليل بفلسطين إلى العقبة عندما كانت الأرض واحدة والجغرافيا ممتدة، ولكن الوالدة كانت تقول دائماً لا أدري لماذا جئنا إلى هنا، من أرض العنب والتين الخصبة الزكية إلى هذه الأرض الصحراوية وأشعة شمسها السليطة، جدّك أراد أن يأتي إلى هنا..
لم يكن جدي في ارتحاله مع أبنائه نازحاً ولا لاجئاً إذ كان ذلك الرحيل في منتصف الخمسينات يعني قبل النكبة وبعد النكسة، وما دعاه إلى أن يأتي إلى هنا هو العمل والبحث عن الرزق، ولذلك عمل والدي في ميناء العقبة بعد أن درس في “قلنديا” الهندسة الميكانيكية وعمل أعمامي مع جدي في التجارة، وشاء الله تعالى أن تمتد العائلة في هذه المدينة حتى صار منها الأولاد والأحفاد وأحفاد الأولاد.
ولم تكن عائلتي هي التي ارتحلت فقط إلى العقبة، وانما عشرات العوائل الفلسطينية والخليلية على وجه الخصوص جاءت إلى هذه المدينة الساحلية، وقد مر وقت على العقبة وأكثر تجارها من الخليل، وأكثر عائلاتها من بئر السبع وغزة.
ما كان يميز العقبة هدوؤها وجمالها على شاطئ البحر، ثم قربها من فلسطين، نحن نشأنا على رؤية مدينة أم الرشراش “إيلات” ونتساءل ما أقرب فلسطين، لماذا لا نستطيع الوصول إليها؟ كنا نراها كحلم لكنه حلم قريب، وهذا جعلنا نتعلق كثيراً بفلسطين.
بالنسبة للمراحل التعليمية فأنا بقيت في العقبة طيلة مراحل الدراسة المدرسية حتى أنهيت التوجيهي، ثم انتقلت إلى عمان لإتمام الدراسة في الجامعة الأردنية، ففي ذلك الوقت لم يوجد في العقبة ولا محافظة معان التابعة لها العقبة أية جامعة مما دفع جميع من أراد إكمال دراسته إلى مفارقة المدينة وهو ما أدى إلى انتقال المئات إلى عمان أو إربد، وقليل منهم من عاد إلى العقبة.
كان طموحي أن أدرس “الشريعة” تنفيذاً لرغبة والدي، فقد كان رحمه الله تعالى يقول إنني يجب أن أدرس في الأزهر الدين لأنني اهتديت إلى الصلاة وإلى المسجد وحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم من عمر مبكر، فاتجهت إلى الجامعة الأردنية لأن السفر إلى مصر كان صعباً في ظل وفاة والدي وعدم وجود أحد في البيت بعد أن خرج أخي إلى عمان، وتزوجت أختي، فلم استسغ البعد عن الوالدة سنوات الدراسة، فسجلت في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية ثم تحولت إلى كلية الشريعة لأنني كنت ما زلت أستذكر وصية الوالد.
درست بكالوريوس شريعة وتخصصت في الفقه وأصوله، ثم أتممت الماجستير والدكتوراه في نفس التخصص، وكتبت في الماجستير عام 1994 رسالتي “مسؤولية الأحداث ورعايتهم في الشريعة الإسلامية والقانون”، وفي الدكتوراه عام 1999 رسالتي “الجريمة السياسية في الفقه والقانون”، وقد أحببت أن أجمع القانون مع الشريعة لأنني اقتنعت بأنه لا غنى عن معرفة القانون، لأنه المطبق في الواقع، فلا بد من معرفته إلى جانب علوم الشريعة، وأمضيت في الجامعة الأردنية حوالي اثني عشر عاماً كانت سنين جميلة في أجمل مكان في الأردن.
2. هل من حدث أثّر في مسار حياتكم وفتح عيونكم على قضية فلسطين ثم جعلها في صلب مشروعكم؟
نشأت وأخوتي في بيت لا يغيب ذكر فلسطين ولا الخليل عنه في يوم، فقد كان الوالد يمني نفسه ويمنينا بالعودة إلى الخليل، وكانت الوالدة تذكر الخليل وأهلها ومرافقها وطرقاتها وذكرياتها فيها كل يوم، حتى كنا دائماً نردد ما كانا يرددانه وكأننا عشنا هناك.
وأكثر ما شدني إلى القضية الفلسطينية دموع أمي التي كانت تنهال كلما بدأ برنامج المراسلات عبر الفترة العربية في التلفزيوني “الإسرائيلي” الذي كانت في مقدمته مغناة “جايبلي سلام عصفور الجناين.. جايبلي سلام من عند الحناين” والذي كان يذيع رسائل من أهل فلسطين في الداخل إلى أهلها في الخارج العكس، وكلما جاء خبر عن مقتل فلسطيني على أيدي الصهاينة تزداد أمي مقتاً وبكاءً، فعشنا لحظات الشوق والحزن والحنين معها.
وكنا نتابع الساعة اليومية لأخبار الثورة الفلسطينية عبر الراديو الذي كان يبث من سوريا، ونسمع أناشيد الجهاد وأغاني الثوار رغم صعوبة التقاط الموجة في ذلك الوقت.
وبما أنني كنت أتقن الخط العربي فلم أبقِ “تي شيرت” ولا “جاكيت” رياضة إلا وكتبت عليه كلمة “فلسطين” حتى قال لي أستاذ الدين حفظه الله “محمد طهبوب” وقد وضع يده على ظهري حيث طبعت كلمة فلسطين، يا ابني: فلسطين، أولها فلس وآخرها طين”، فدار كلامه في ذهني وحاولت كثيراً أن أفهمه، وأتساءل: لماذا قال ذلك، وما الذي قصده.
3. هل ترون أن الأمة مقصّرة في معرفة علمائها المجاهدين؟ من المسؤول؟
الجهل ليس بالعلماء المجاهدين فقط، بل الجهل واقع في كل تاريخنا وتاريخ أمتنا، وكثير مما نعلمه ليس صحيحاً، والذي نجهله أضعاف أضعاف ما نعلمه.. للآن يجهل كثيرون ما الذي حدث في فلسطين، وكيف حصل الاحتلال، وحقيقة مواقف العالم بدوله وسياسيه وجيوشه تجاه ذلك العدوان الغاشم الذي انتهى بإقامة دولة الشر على أرض فلسطين الطاهرة.
برأيي أن النهضة التي ننشد لا بد أن تبدأ من معرفة التاريخ الحقيقي، الذي يجب أن يعلمه الجميع، لا بد من قيام ثلة من المؤرخين بكتابة مناهج تصلح للمستويات المختلفة للطلبة ليتم تدريسها لهم.. لا يجوز أن تبقى جوانب من التاريخ مجهولة أو مزورة.
لن يكون التعليم صحيحاً إلا إذا تضمن المعرفة التامة، بالقرآن الكريم، والسيرة النبوية، واللغة العربية، والتاريخ العربي والإسلامي على وجه الخصوص، والعلوم التي برع فيها العرب وأتقنها المسلمون، ثم بعد ذلك يمكن للطالب أن يدرس ما يشاء، فتلك العلوم أساسية ولا بد من أن تكون قاعدة يبنى عليها.
4. هل زرتم فلسطين سواء الضفة أو غزة؟ وما الذي بقي أو سيبقى متعلقا وعالقًا أو ذكرات قادمة ترجوها؟
زرت فلسطين ثلاث مرات:
الأولى، عام 1978 وقد اصطحبنا جدي إلى الخليل بعد وفاة والدي كنوع من المواساة وتغيير الجو، وقد زرنا الأقارب في الخليل، وزرنا المسجد الأقصى والقدس، واستمرت الزيارة أسبوعا.
الثانية، مع رحلة “الأيتام” التي تشرف عليهم وزارة التنمية الاجتماعية في عمان إلى القدس بدعوى من مطاعم “ازحيمان” في القدس لتناول الإفطار هناك، فرافقت الأيتام لحبي الشديد لزيارة فلسطين مع أنني لم أكن مدعواً، وكان ذلك في رمضان عام 1995 بعد معاهدة وادي عربة، وكانت رحلة جميلة جداً وميسرة، وذهبنا وعدنا في نفس اليوم وقد استمرت الرحلة حوالي 18 ساعة من صباح اليوم إلى منتصف ليله، زرنا فيها الأقصى ويافا.
الثالثة، كانت عام 2010 مع زوجتي التي أوفدها الاتحاد العربي لمنتجي الأدوية للمشاركة في إعطاء دورة للصيادلة في رام الله عن طريق السلطة في فلسطين، واستمرت الرحلة ثلاثة أيام زرت فيها الخليل وبيت لحم ورام الله.
5. القدس… صف علاقتك بها كعالم فلسطيني، خاطبها كأنها ماثلة أمامك، قدم لها عذرك وقهرك؟
صدقاً كلما أرى القدس أو الأقصى أشعر بخجل شديد من نفسي، وألومني لوماً شديداً، لأنني أحسب نفسي واحداً من الأمة التي يجب أن تحمل هم القدس والأقصى، ونحن نعلم أنها أرض الإسراء والمعراج، والقبلة الأولى، والمسجد الثاني في التاريخ، ونعلم حجم المؤامرات عليها، وكمّ الاعتداء الذي يقع على أهلها وعلى مقدساتها صباحا مساء.
وكلما سمعت إماماً يقول: اللهم ارزقنا صلاة في المسجد الأقصى أقول آمين، وأتساءل هل يحق لي هذا وأنا لم أفعل شيئا للدفاع عن المسجد الأقصى، ولماذا نقول ويقول الإمام ارزقنا صلاة في الأقصى ولا يقول ارزقنا جهاداً من أجل الأقصى.. وأقول في نفسي هل هو تظاهر بحب الأقصى أم إرضاء للناس الذين يصلّون خلف الأئمة.
لا أدرى إن كان الله يكرمنا بصلاة أو بجهاد للأقصى ونحن مكتوفي الأيدي نقصر جهدنا على الدعاء والتحسر ومتابعة الأخبار، لكنني على يقين أن الطريق إن فتحت للجهاد ـ فبإذن الله ـ لن أكون ممن يتخلفون البتة، وبهذه النية أقول لنفسي لا بد من تجديد نية الرباط في سبيل الله حتى يأتي أمر الله تعالى.
*******
📍 أسئلة تحت الرماد 🔥
6. طوفان الأقصى… هل كان قرارًا شرعيًا أم خطوة عسكرية متهورة ـ كما يقول البعض ـ ؟
سؤال محير جداً لا استطيع الإجابة عليه، لأن أهل الجهاد أدرى به، ومن سكن في غزة تحت حصار طويل زاد عن 17 سنة أعلم بما حصل وما كان يجب أن يحصل.. لكن قناعتي أن ذلك النفير كان على خطورته الحل الوحيد وإن خلف دماراً ودماء ولا أحسب القائمين عليه إلا أنهم فكروا وقدروا أعواماً وأعواماً، ولم يجدوا إلا هذا الحل، سيما وأنهم كانوا يعلمون أن هذه الواقعة وقد تكون أشد منها ستحصل قطعاً، ولذلك سمعناهم يتلون كلام الله تعالى على لسان رجلين صالحين لموسى عليه السلام: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)[سورة المائدة]، سيما أن الحال هو الحال، والأرض هي الأرض والمؤمنون هم المؤمنون، فالوضع متشابه، والعدوان واحد، والإيمان واحد.
ربما مَن كان له رأي ضد الطوفان، أن العدو كان قد خطط لهذا الأمر وأنه كان سوف ينفذه حرفياً حتى لو لم يبدأ الغزيون به، ولكن الغلبة للبادئ دائماً، خصوصا وأن اخوتنا في غزة أعدوا، والله تعالى طلب من المؤمنين الإعداد بقدر ما يستطيعون ولم يطلب منهم النصر، لأن النصر من عنده سبحانه.
7. إذا كانت المقاومة عملت ما عليها وزيادة، ـ بصراحة ـ هل نتيجة المعركة تتحمله الأمة بالتقصير والإثم والخذلان؟
لا شك أن الأمة بكل أفرادها وجماعاتها وأنظمتها وحكوماتها تتحمل ما كان قبل الطوفان وتتحمل ما بعده وما كان أثناءه، أليست الأمة واحدة، وأليس الدين واحداً، وأليس الله الذي أمر بالجهاد واحداً سبحانه، فلماذا لا تتحمل الأمة المسؤولية وهي تعلم علم اليقين أن ما حصل لإخوانهم يمكن أن يحصل لهم، لقد تعلمنا في صغرنا أبلغ درس تتجاهله الأمة اليوم بكل علمائها وقادتها “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.. ورأينا ونرى ما يحصل لدولنا واحدة تلو الأخرى من الدمار والحروب ونشر العنصرية والفساد وسرقة المقدرات والتحكم بالشعوب والقادة..
من ظن أنه بعيد عن اعتداء المعتدين واهم، ويعيش في بحبوحة كاذبة، فهذا عدو لا يؤمن جانبه البتة، وقد قال الله عنهم أن يخونون الوعد وينقضون العهد، فها هم يضربون سوريا ولبنان واليمن والعراق ويهددون الأردن، فوق ما يفعلونه في فلسطين في الضفة وفي القطاع.
8. هناك من يقول إن طوفان الأقصى دمّر مشروع التطبيع لكنه أيضًا فجّر الأوضاع الإنسانية في غزة… كيف يوازن الفقيه بين النصر السياسي والكلفة البشرية؟
كمسلم أؤمن تماماً أن الأجل محدود، لا ينقص ولا يزيد بجهد أو تمني، من لم يمت بالسيف مات بغيره.. وهذا لا يعني الاستهانة بأرواح الناس ولا بمشاعر من فقدوا، ولكنها أقدار نؤمن بها ونسلم لها.. ثم ما يجب أن نعلم يقينا أن الحرية ليست رخيصة وإنما ثمنها غال جداً، ثمنها الدماء، ولولا أنهار الدماء التي سالت ما نهضت قضية فلسطين في قلوب الناس ومشاعرهم وعقولهم من جديد بعد أن خبت وكادت تختفي،.. لولا القتل الحادث يومياً ما رأينا امرأة غربية تبكي بحرقة وتقول يا إلهي أي إيمان يتمتع بها هؤلاء، فتبكي وتبحث عن مصدر التصبير والتثبيت فتراه في القرآن والإسلام، ولولا تلك الدماء ما رأينا رجلاً غربياً يقول لقد خدعنا قومنا وخدعتنا الصهيونية في سرديتها المزيفة التي تصور نفسها الضحية وتصور المسلمين بأنهم إرهابيين، لقد بدل كثيرون قناعاتهم عما يجري في فلسطين وأصبح المؤمنون بالحق الفلسطيني كثيرين يعبرون عن آرائهم وقناعاتهم الجديدة في كل مناسبة في مباريات الرياضة وفي الأغاني وفي الجامعات وفي مجالس البرلمانات وفي السوشيال ميديا.
على الصهيونية وأذنابها التحضر لجيل جديد عرف الحقيقة وقفز عن الخديعة التي رسموها لأعوام طويلة.. سينشأ سياسيون وعلماء وإعلاميون وبرلمانيون يعادون الصهيونية والاحتلال والاعتداء ويغيرون معادلة العلاقة بين الغرب والصهيونية.
9. بصراحة أكثر ما رأيك في أثر بيانات ومؤتمرات العلماء خصوصا المتعلقة بمعركة طوفان الأقصى؟
لا أقتنع بها، العالم في طور الفعل والتخطيط والتحالفات والتأثير، ونحن لم نغير طرقنا: مؤتمرات في الغالب كلامية لا تثمر إلا بالقليل..
لقد سمعت من يقول في تركيا: لا يمر يوم في إسطنبول إلا وفيه مؤتمر يعقد عن القضية الفلسطينية.. ثم ماذا؟
إن كان لا بد من المؤتمرات فمن أجل رسم خطة أو وضع منهجية قابلة للتطبيق، ويلزم من يوافق عليها أن يتفرغ لها وأن يعمل لها، أما التمثيل من أجل التمثيل والمشاركة من أجل المشاركة ثم الانصراف ثم العودة لمؤتمر آخر تحت مسمى آخر فليس إلا استنزاف للوقت من غير جدوى، لقد أجهدت تلك المؤتمرات المؤتمرين وأجهدت المتابعين.
10. ـ في دوركم الشرعي ـ ما هي أهم الفتاوي التي يحرص د. منذر زيتون أن تصل للعلماء وللأمة كي تؤدي دورا (عمليا) حقيقيا في هذه المرحلة؟
الفتاوى وحدها لا تكفي وإنما لا بد من إحياء الإيمان والدين في قلوب الناس حتى تجد الفتوى صدى عندهم وحتى يعلموا أن الفتوى إنما هي رأي الدين وأنهم ملزمون بها، ما يحدث اليوم أن كثيرين يأخذون الفتوى على مأخذ غير جدي، وعلى العكس تماماً يقولون إن الفتاوى متضاربة وأنها مسيسة وأنها تصدر من هنا وهناك وخصوصا أن عندنا من يفتي بما يراه السياسيون ويراه أصحاب المصالح ولذلك يتهرب الناس من الفتاوى على اعتبار ما تحدثه من فوضى برأيهم ولكن إن كان لا بد من إصدار فتاوى فإنها لا بد أن تكون بخطاب مقنع لا يعتمد فقط على الرأي الديني وإنما لا بد من إردافها بالمنطق والعقل والحج السياسية والواقع ومؤشراته، ومن أهم الفتاوى:
أولا. وجوب إحياء أهمية فلسطين وأهمية الأقصى بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للإسلام وأن هذا الإحياء أمانة وواجب على كل مسلم تجاه نفسه وتجاه من يلي من الأطفال والشباب والطلبة.
ثانيا، لا بد من التزام الجميع بمقاطعة كل ما يدعم الاحتلال سواء كان اقتصادياً أو إعلامياً أو سياسياً، لا يجوز لعربي أو مسلم أن يدعم منتجات الاحتلال ومن يدعم الاحتلال ومن يتفق مع الاحتلال، وهذا يوجب علينا أن نقوم بنهضة اقتصادية نعتمد فيها على الذات ونشجع فيها صناعات وإنتاجات أبناء العرب والمسلمين.
ثالثا، تحريم ومنع العنصرية والعصبية التي تفرق المسلمين عن بعضهم، لا يجوز أن يتذرع مسلم بجغرافيا أو بأرض أو بتاريخ أو بلغة أو بلون أو بأي شيء يفرق المسلمين عن بعضهم، نحن إخوة ونحن أمة واحدة، لا يجوز لنا أن ننشر العنصرية أو العصبية أو نشجعها.. إن مما ضر الأمة وضر القضية الفلسطينية على وجه الخصوص ما يثيره كثيرون من العصبيات والعنصريات حتى غدا كثيرون لا يعبأون بفلسطين ولا بالأقصى ولا بالدين على اعتبار أنها ليست أرضهم ولا تخصهم وليس لهم متعلق فيها.
رابعا، تحريم التعامل مع الأعداء بأي شكل لا باتفاقات ولا بحوارات ولا بتقارب أديان ولا بتنسيق معهم في أي شأن من الشؤون، وإنما يجب أن يبقوا في نظر الجميع أعداء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وأخص هنا أهل فلسطين، فإنه لا يجوز لأهل فلسطين التعامل مع العدو والمساهمة في بناء مستوطناتهم والعمل عندهم والمحادثات معهم والاطمئنان لهم.. لا يجوز هذا كله.
11. لماذا يصمت بعض العلماء حين تشتعل الساحات؟ أهو الخوف… أم اختلاف الرؤية؟
يصمت العلماء أو حتى يشارك بعضهم بآراء سلبية لأمرين:
أولاً: الأمر الأول هو مصالحهم، لا يغرك أن ترى من يسمي نفسه عالماً لكنه عندما تتعارض قيمه مع مصالحه فإنه يقدم مصالحه ولو كانت على حساب قيمه، هؤلاء أعتقد أنهم ليسوا علماء هؤلاء دخيلون على العلم والعلماء، هؤلاء فقط صعدوا إلى هذه المرتبة التي يصورونها للناس إنها علمية من أجل مصالحهم، أو أنهم قد يكونوا صادقين في علمهم وعلومهم ولكنهم باعوا تلك العلوم بمصالحهم.
السبب الثاني هو الخوف، الخوف لأن هؤلاء لم يربوا أنفسهم على المجاهدة وظنوا أن الدين ليس له ثمن وأن الجنة ليس لها ثمن وأنهم يجب أن يبقوا في ساحات الكلام والخطب وأنه لا يطلب منهم أن يقفوا موقفاً حازماً إذا لزم الأمر.
ودعني أقول هنا إن هناك فئة ثالثة لا يمكن أن نسميهم ولا علماء وإنهم هم أصلاً دفعوا لتعلم العلم دفعاً ليس الإفادة منه وإنما تعلموه ليطعنوا فيه.. هؤلاء قد يكونوا أصلاً غير مسلمين وقد يكونوا غير عرب، ولكنهم تزيوا بزي العروبة والإسلام ثم لما اشتهروا في الإعلام تلبسوا بلبوس العلم والإسلام، وهؤلاء نجد اليوم منهم كثيرين، بعضهم من يصنف نفسه داعشياً وبعضهم أو سلفياً أو صوفياً وبعضهم من يصنف نفسه أشعرياً أو إخوانياً، وهم كاذبون. يعملون على تشويه الدين وتشويه العلماء.
12. ماذا عن حاجة العلماء إلى مراجعة فقهية داخلية بعد كل مرحلة كبرى؟ وما هي أعمدة هذه المراجعة؟
قبل المراجعة الفقهية لا بد من الحديث عن رسم منهجية فقهية موحدة ومتسقة.. لا يقبل أن تبقى المنهجيات متضاربة، ما زلنا لحد اليوم نختلف على بعض الأحكام الفرعية ويتعصب بعضنا لمذهبه، ويعارض غيره لظنه أنه الصواب وغيره الخطأ.. هذه المنهجية الخلافية لا تبني وحدة ولا تنتج حلاً لقضايانا وإنما هي تبقينا في دائرة الخلاف.. انظر الآن إلى بعض العلماء، تسأله سؤالاً فيدخل بك إلى التاريخ ويتوه بك فيه، فيقول لك قال العالم الفلاني كذا، وعارضه العالم الفلاني بكذا، وجاء عن العالم الآخر كذا وكذا، وأنا أرجح كذا ولا أرجح كذا.. ويدور بك في دائرة مفرغة.. يعني في النهاية لا تفهم منه شيئاً.. يضيعك ويضيع فهمك ولا تخرج منه بأي فائدة واضحة، لأنه يرى العلم في تقليد غيره من السابقين مع أن الزمان اختلف والمكان اختلف والظروف اختلفت والقاعدة تفتي بأن الأحكام تختلف باختلاف الأزمان إلا ما ثبت في القرآن أو السنة.. هو فقط ينقل الخلافات ويجعلها جزء من حياتنا، ويجعلك جزءاً منها حتى تقول ليتني لم أسأل.. ولذلك هذا يفسر ابتعاد كثيرين عن الفقه وعن الدين لأنهم رأوا أن العلماء أنفسهم لم يعرفوا منهجية موحدة لليوم ولا يتبعون منهجية واضحة..
بعد كل مرحلة لا بد من المراجعة، مراجعة فقهية وسياسية وأخلاقية ومعرفية.. الأمر لا بد أن يوزن دائماً ولا بد أن نراجع خططنا وآراءنا وأفعالنا وأقوالنا دائما.. ولا بد أن تكون المراجعة بشفافية تعرض على الجميع ويحترم فيها رأي كل شخص حتى نعرف أين الصواب وأين الخطأ وأين الخلل لنصوب الخطأ ونقوي الصواب.. لكن ما يحصل في واقعنا إنه لا أحد يراجع شيئاً بل بعض الناس يعتبر المراجعة هزيمة وبعضهم يراها انتقاصاً من قدراته، وبعضهم يرى أنها فضيحة، وهذا قطعاً ليس صحيحاً..
لا بد من المراجعة لان القرآن الكريم علمنا المراجعة وعرض لنا ما حدث في غزوة تبوك وما حدث في غزوة أحد وما حدث مع الرسول صلى الله وسلم في بعض المواقف والأعمال وهذا ليس مخجلاً ؛ بل بالعكس هذا يعطينا العلم والمعرفة ويرشدنا إلى كيف نسد الخلل.. المراجعة مهمة جداً وعلى نطاق واسع.
13. فضيلة د. منذر بعد كل هذه التجارب ومعايشة العلماء والقضية، ما هي رسالتكم ووصيتكم للعلماء الشباب الذين يقفون على الحياد أو الذين يضّحون ويستعدون لمعركة الأمة القادمة؟
في مثل هذه القضايا الكبيرة وفي مثل هذه الأحداث الجسيمة لا ينبغي مطلقاً الحيادية، لا يجوز الحيادية.. الحيادية عبارة عن انهزام.. وهي تشجيع الظالم على الظلم والجاهل على الجهل، وهي إعطاء الآخرين مبرر للاستمرارية..
بالنسبة للشباب والعلماء والرجال والنساء المحايدين نقول لهم إن النار ستصل إليكم شئتم أم أبيتم.. كل ما يدور في هذا العالم من انحطاط وانحراف وإساءات واعتداءات مرجعه لما يحدث في فلسطين.. العدو هو العدو، فالعدو واحد.. هو الذي يعادي الدين والأخلاق ويعادي الأرض ويعادي الشباب ويعادي النساء.. يعني وجود دولة صهيونية في قلب العالم المسلم مدعومة من دول الصليب يعني السيطرة علينا وعلى عقولنا وعلى مواردنا وعلى اتجاهاتنا وعلى علمائنا وعلى أرضنا وعلى خيراتنا وعلى قرارنا.. لا يمكن أن نفصل هذه الأمور عن بعضها، نحن واقعون تحت كل ذلك.. وعليه فإن الحيادية قبول الظلم كله، ها نحن نرى أين تقف دولنا ، تقف.. في تخلف.. في مديونية.. لا يمكن أن يعيش المسلمون والعرب ولا حتى العالم بحرية وانضباطية وعدالة ومسؤولية إلا إذا زال الظلم عنهم، والظلم الآن عنوانه التحالف الصليبي الصهيوني ضدنا، ولذلك فكل ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي مرجعيته إلى هذا التحالف.. حتى نقنع هؤلاء المحايدين أنهم جزء من الواقع الضعيف لا بد أن نقول لهم إن تحرككم من الحياد إلى الفاعلية ينهي ما بكم من ظلم وإن سكتم على الظلم لكسب مصالح آنية فإنما تكسبون سحتاً لأن هذا على حساب مقدرات الناس الآخرين وعلى حساب خيراتهم.
أما الشباب الذين يشاركون ويتحمسون ويريدون أن يكونوا جزء من الواقع وحلوله، فأقول لهم لا بد من الحكمة وعدم التسرع، لا يجوز المغامرة إنما المطلوب الحكمة، فلا بد أن تعرف وأن تفهم وأن تكوِّن رأياً مبصراً وأن تخطط ثم تنفذ على بصيرة.. لا تلقي بنفسك إلى ما فيه تهلكتك.. لا يجوز تحت العاطفة أن تخسر نفسك وتخسر الآخرين معك وأن تؤثر على مقدراتك ومقدرات غيرك.. الأمر يحتاج إلى نباهة لا أقول أن هذا من باب دعوة هؤلاء إلى الخوف.. لا، أنا فقط أقول الحذر الحذر مع الفطنة وحسن التخطيط والحكمة في التنفيذ، هذا هو المطلوب من الشباب الواعي الذي يريد أن يكون جزءاً من التغيير الذي تنشده الأمة كلها.
14. كيف يمكن أن يتحول غضب الشباب اليوم إلى مشروع استراتيجي لفلسطين؟
إذا أردنا أن نحول غضب الشباب إلى مشروع استراتيجي لفلسطين، فعلينا أولاً أن نرسم للشباب منهجاً واضحاً بخطوات دقيقة مفصلية مضمونة التحقق حتى يسيروا على هدي وحتى لا يقعوا في فخ العدو أو فخ تقديم مصالح آنية رخيصة…
الأمر الثاني أن نقدم لهم قدوات حية موجودة بينهم وليس فقط قدوات قديمة حتى يتمثلوا بها.
ولا بد للشباب من قيادات مميزة.. نحن المسلمون نفتقر الآن إلى قيادات على مستوى الأمة.. قيادات سياسية تعطينا الأمل وتعطينا القوة.. يعني خذ على سبيل المثال من ناحية فقهية لا يوجد عندنا مجلس فقهي على مستوى العالم، لا يوجد عندنا علماء يلقون القبول الناس كلهم على مستوى العالم.. لا يوجد عندنا منهج فقهي على مستوى العالم يقبله الجميع، فلذلك لا بد لهذه الأمة المبعثرة في دول وكيانات وجماعات ومؤسسات ومجتمعات لا بد لها من قيادة تجمعها، وحتى نجمع الأمة كلها على قيادة واحدة لا بد أن تكون هذه القيادة متوسطة التوجهات مرنة إلى حد كبير بما يراعي جميع الاختلافات في الأمة.
15. هل ترى نصرًا من بعيد؟ وهل يشرق من بين مآذن الأقصى وركام غزة؟
أعمى من لا يرى النصر وإيمانه ناقص من يشك أن الله تعالى لن يعلي شأن تلك الأرواح والدماء، وليس مسلماً من يظن أن الله تعالى لن ينصر جنده.. هذا وعد من الله عز وجل: ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) ،وقال (وحقاً علينا نصر المؤمنين).. الإيمان بالنصر إيمان يقيني لا يمكن أن يتزعزع في قلب مؤمن أبداً أبداً.. نحن على يقين بأن النصر القادم لكن النصر كما نعلم جميعاً له شروط وله مقومات.. يجب أن نصل إلى المقومات وإلى شروط النصر ونعمل بها.. ألا إن سلعة الله غالية، لا يجوز أن نبقى نراوح حول أنفسنا، ننتظر ونذكر نصوص النصر.. لا يكفي هذا وإنما يجب العمل وفق قواعد وضوابط واضحة ولا أشك أن هناك عالما في الدين لا يعرف ما هي قواعد النصر.. من الإيمان الكامل الثابت الذي لا يتزعزع، والتنشئة الدينية على المنهج القويم، والإعداد الجاد لإنتاج جيل قوي ثم العمل الدؤوب بما يتضمن التخطيط ورسم البرامج التنفيذية الواضحة وأيضا وضع أهداف محددة لها فترات زمنية أيضاً محددة، ثم بعد ذلك الترفع عن أي مصالح شخصية أو معارك جانبية.. وهذا يدعونا إلى الحكمة في التعامل مع الناس جميعاً لأننا لا نريد أن نضيع هدفنا الأساسي بمعارك أو خلافات جانبية من هنا أو هناك.
🕯 أقول في خاتمة المقابلة: عندما أراد اليهود إقامة دولتهم المزعومة اجتمعوا على مستوى العالم وحددوا بروتوكولاتهم وأهدافهم وحددوا طرق تنفيذها ووضعوا خطة واضحة جداً بأزمنة واضحة أيضاً، ثم بدأوا يعملون عليها.. أنا الآن أتساءل لماذا لا نستطيع أن نقوم بمثل ذلك بل وأفضل.. عندنا أمة عظيمة كبيرة عندنا من العلماء ومن العارفين ومن المتخصصين في كل المجالات.. عندنا دين عظيم وعظماء.. ما الذي يمنع المسلمين اليوم من القفز عن الحدود وعن المثبطات وعن المشكلات الجزئية والفصيلية والحزبية التي تنازعهم في كياناتهم السياسية.. ما الذي يمنعهم أن يقفزوا فوق كل ذلك ويصنعوا قيادة على مستوى العالم وهذه القيادة تضع أهدافها وتضع خطتها وجمهور المسلمين الواعي اليوم الذي يقف مع غزة صار يفرق بين الغث والثمين.. الجمهور اليوم جمهور المسلمين اليوم بدون استثناء صاروا يعرفون الحقيقة وكشفوا من معهم ومن ضدهم، وكشفوا من يدعم الدين ومن يحارب الدين، كشفوا مع من فلسطين ومن ضد فلسطين.. هذه الجموع الكاثرة تحتاج إلى قيادة حتى يكونوا أمة واحدة تسير بسير واحد..
تخيل لو عندنا قيادة على مستوى العالم تقول هذا ممنوع وهذا مسموح ادعموا كذا وقفوا ضد كذا تقدموا إلى كذا ولا تتقدموا إلى كذا.. سيستجيب كل حر وكل مسلم وكل مؤمن يفهم دينه لهذه القيادة.. نحن ملزمون بإيجاد قيادة روحية على مستوى العالم تضم كل مسلم مؤمن بالله ورسوله وبالقرآن الكريم وبالسنة دون أن تلتفت إلى المفاصل الصغيرة والأمور الجزئية تفرقنا والتي أسسها الاستعمار ورعاها طيلة السنين الماضية.. نحن نريد أن نصنع قيادة للأمة تجتاز الحدود والسدود والكيانات السياسية التي فرقتها.
