مقابلة خاصة مع فضيلة الدكتور رأفت المصري

    

سيرة، رؤية، ومواقف من الطوفان والأقصى

🖊 إعداد: د. عمر الجيوسي

📌 مقدمة :

📍  السيرة الذاتية والمكانية

  1. إذا أراد علماء وشباب اليوم أن يتعرفوا على الدكتور رأفت المصري حيث مساقط الذكريات الأولى …فعلينا أن نذهب معك إلى الزمان والمكان والتنشئة وسيرتك ؟

ولدتُ في عمّان وعشتُ فيها، وصليتُ في مساجدها وسجدت لله تعالى في محاريبها، ودرست في مدارسها وجامعاتها.. ورأيتها قرينة القدس وأختَها ورئتها.

من أصول نابلسية، وأحببتُ أن أصلها بكتاب أترجم فيه سيرتها العلمية؛ فكتبتُ مجلداً بعنوان: “نابلس عش العلماء وموطن الأصفياء”.

درستُ البكالوريوس والماجستير في التفسير وعلوم القرآن في الجامعة الأردنية، واستكملت درجة العالِمية “الدكتوراه” في الأزهر في مصر في عام 2010.

درَّستُ في الجامعات السعودية حينا، وفي بعض الجامعات الأردنية حينا آخر، وأنا الآن محاضر غير متفرغ في جامعة 29 مايو في اسطنبول.

منَّ الله علي بالتوفيق لكتابة العديد من المؤلفات في خدمة القرآن والسنة، وفي خدمة قضية بيت المقدس من خلالهما.

ولي ما يزيد على 20 عملا علميا مطبوعا بفضل الله.

2. هل من حدث أثّر في مسار حياتكم وفتح عيونكم على قضية فلسطين ثم جعلها في صلب مشروعكم؟

كنت مهتماً بقضية فلسطين كأي مسلم أو كأي داعية من أبناء هذه البلاد وكأي طالب علم فيها، إلى أن جاءت معركة الفرقان المباركة التي تركت أثرا بالغاً في نفسي، وفهمت وقتها أن مرحلة جديدة من الجهاد ومقاومة الاحتلال انفتحت على مصراعيها.

رسخ هذا الأمر في نفسي بعد أن دعيت إلى ندوة حول إسلامية القدس بصحبة أحد أساتذتي، الأمر الذي استدعى تحضيرا ضافياً لفقرتي- وقد كنت حديث عهد بشهادة الدكتوراه- العالِمية-، فوقع في قلبي بعد ذلك الإبحار في “إسلامية القدس” أننا أمام بحر من النصوص الشرعية والعلوم المتنوعة تخص قضية القدس، فانعكس ذلك على قلبي تعظيماً للقضية وقناعة بأنها تستحق أن توقَف الأعمار لخدمتها، ورأيت أن الثغر شاغر يستلزم المرابطة عليه: الرباط الشرعي والديني على ثغر قضية القدس.

وبدأ لدي الاهتمام الخاص بالقدس في القرآن والسنة وفي كلام أهل العلم.

وجدير بالذكر أن هذه البدايات قد رافقها استضافتي في بيروت في قناة القدس، مع الإعلامي عمر الجيوسي، الأمر الذي فتح علي باب الاهتمام ببيت المقدس في السنة، إذ كان ذلك موضوع البرنامج، وصنفت كتاباً بعد ذلك حول هذا الموضوع لقي قبولاً وانتشارا بفضل الله، وقد كان بعنوان:

“ولنعم المصلى؛ قراءة تحليلية تنزيلية لبعض أحاديث بيت المقدس”، وتتالت المصنفات في الموضوع بعد ذلك.

واستضافني مرة أخرى في إسطنبول مع الشيخ رائد صلاح  في برنامج (على خطى صلاح الدين) الذي كانت تنتجه هيئة علماء فلسطين .

3. هل ترون أن الأمة مقصّرة في معرفة علمائها المجاهدين؟ من المسؤول؟

هناك إشكالية عميقة في هذا السياق، شكلتها عوامل متعددة، من أهمها: قلة المنصات الإعلامية التي تقدم هؤلاء العلماء وضعفها مقارنة بمنصات تقدِّم ما لا يستحق!

والمسؤولية لا يتحملها العلماء أنفسهم بالدرجة الأولى، وإنما تتحملها الأمة التي ينبغي أن تقدمهم لأبنائها، يتحملها رجال الأعمال ورجلل الإعلام.

ثم إن المشكلة اليوم لا تتعلق بالتقصير فحسب، بل ثمة قطاع ذو نفوذ يحارب هؤلاء العلماء ويحجب صوتهم عن البلوغ إلى حيث ينبغي، وهم اليوم مغيبون إما بالمنع عن المنابر والحيلولة دون حضورهم الجامعي أو مغيبون في غياهب السجون في بعض بلدان المسلمين!

ولا بد من أن نحمِّل العلماء أنفسهم شيئاً من المسؤولية؛ فإن الاستسلام للعوائق والتسليم بالقصور عجزٌ لا يليق بحملة العلم ومنارات الهدى!

4. هل زرتم فلسطين بعد مغادرتها؟ وما الذي بقي عالقًا في وجدانكم؟

لم أحظ بزيارة فلسطين، ولم أرها إلا من وراء الحدود، ولطالما جلستُ أتأمل جبالها من إطلالات السلط وعجلون، وماشيت غورها من الجهة الأردنية، وكم خاطبتُ أنوارها من بعيد مشتاقاً إلى تقبيل أرضها المباركة والسجودِ في محاريبها المقدسة.

5. القدس… صف علاقتك بها كعالم فلسطيني ، خاطبها كأنها ماثلة أمامك ، قدم لها عذرك وقهرك؟

أود الاعتذار للقدس عن أمة المليار، هو اعتذارٌ خجِل؛ لأن العذر فيه هو الذنب!

والضعف اليوم تهمة!

والخوف أعظم جريمة!

وفقدان البوصلة ضلال!

وانعدام خريطة الوصول دليل البطالة والغفلة والإهمال!

أعتذر لها عن قصورنا وقصور أمتنا، وهي التي من حقها أن ينفجر بركان غضب لأجلها ويثور فلا يهدأ، حتى تُحَطَّ رحال المشتاقين في مسجدها، وتضع الحرب أوزارها؛ وقد زال الاحتلال وطُهرت أرضها من دنسه!

📍 أسئلة التي تحت الرماد 🔥

6. طوفان الأقصى… هل كان قرارًا شرعيًا أم خطوة عسكرية متهورة كما يقول البعض؟

لا ينبغي أن نقول:

إنه كان قراراً شرعياً محضاً، بمعنى أنه لم يدل عليه دليل مباشر؛ اللهم إلا أنه عموم أدلة الشرع تحرِّم تضييع فلسطين ونسيان قضيتها وتهويد قدسها،

وتوجب اتخاذ كل تدبير من شأنه محاصرة الضياع.

أما الادعاء بأنه خطوة متهورة فمجازفةٌ سببتها الصدمة من تدفق الدماء الطاهرة واستغاثات الأطفال المؤلمة!

قد جاء الطوفان في لحظة فارقة، صارت فلسطين فيه بين خيارين:

الخيار الأول: ذوبان في بطن الاحتلال، وتغييرٌ لهوية المكان، وانتقالٌ من العربية والإسلام إلى العبرية واليهوية.. وإلى الأبد!

والخيار الثاني:

أن تُقلَب الطاولة على الاحتلال، وتُكسَر المعادلات الحاكمة للعالم، وتختلط موازين القوى؛ لتعود قضية فلسطين إلى الطاولة وتأخذَ فرصتها وتُحرِج الاحتلال!

فعاصفة التهويد كانت قد اشتدت واضطرمت نارها، فلما جاء الطوفان أعاد قضية فلسطين جذعة من جديد، موضوعة على أولوية قضايا العالم كله.

واليوم؛ وعلى الرغم من آلامنا التي لا تصفها كلمات البلغاء، ولا يُصوِّرها بيان الشعراء: نرى الكيان المحتل في أسوأ لحظاته التاريخية!

وتبع الطوفان موجات ارتدادية وتسونامي متتابعة؛ آخرها:

تسونامي الاعتراف العالمي بفلسطين- كما سماه الاحتلال نفسه!

الحكم على الطوفان ما زال مبكراً، ونتائجه الأولية دموية بالنسبة إلينا، لكنه مؤذنٌ بهزيمة إستراتيجية؛ تلاحق الاحتلال وتهدد وجوده أصلاً!

7. إذا كانت المقاومة عملت ما عليها وزيادة ، ـ بصراحة ـ هل نتيجة المعركة تتحمله الأمة بالتقصير والإثم والخذلان؟

نسلِّم أن المقاومة قد قامت بما يجب عليها من دك قلاع المحتل والصمود أمامه بشجاعة، وتكبيده ما لم يتصوره من الخسائر!

ولا يمكن أن تقف الأمة مكتوفة الأيدي وهي ترى قوى الشر في العالم تتحالف وتتناصر على هذه الثلة المؤمنة من البقعة المباركة في غزة، والله تعالى يقول:

{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}

ولا يمكن أن تعود الأمة- التي قصرت في واجبها- باللوم على الثلة المجاهدة- التي قامت بواجبها؛ لتحمِّلها مسؤولية ما حصل بسبب عدم قيامها- عند التحقيق- بواجبها!

وفي المنطق الشرعي: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وفي منطق الشرع والعقل:

إذا اشترك قوم في وجوب عمل ما فقام بعضهم بما عليه ولم يقم الآخرون بما عليهم أُجر القائمون وأثم الناكصون واحتملوا مسؤولية التقصير الحاصل ومآلاته!

وعلى كل حال، ووفقاً لكل وجه؛ كان الواجب على الأمة أن تدفع البأس عن الضعفاء من المسلمين الذين سُفكت دماؤهم ومُزّقت أجساد أطفال وجُوِّعوا حتى ذبلوا وماتوا شيئاً فشيئاً..

ولا أدري بأي شيء يمكن أن تعتذر الأمة عن هذا الخذلان أمام التاريخ وفي موقف الحساب العسير!

8. هناك من يقول إن طوفان الأقصى دمّر مشروع التطبيع لكنه أيضًا فجّر الأوضاع الإنسانية في غزة… كيف يوازن الفقيه بين النصر السياسي والكلفة البشرية؟

أعتقد أن هناك أمرين عليهما التعويل في النظر قبل انطلاق الطوفان،

الأول: ردة الفعل الصهيونية وما الذي كان يمكن أن يفعله.

والثاني: ردة فعل الأمة تجاه هذا الأمر الجلل.

وفي تصوري أن واقع الأمرين كليهما لم يكن ليُتصوَّر قبل الطوفان، فردة الفعل “الإسرائيلية” كانت أعنف بكثير مما يمكن أن يتخيله أي أحد، لا من قادة المقاومة فحسب، وإنما من سياسيي العالم كله!

فقد انسعر الاحتلال وشعر بتهديد وجودي استنفر معه كل مخزونه الإجرامي والدموي!

وكذلك ردة فعل الأمة، إذ كان مستوى الصمت الشعبي والخنوع الرسمي فوق المتوقَّع حقاً، بالنظر إلى مراحل سابقة.

وعلى كل حال؛

نحن في وضع لا يصلح معه البكاء على ما مضى، ولا يسعنا فيه إلا البحث عن مخرج النجاة، بل يمكن استثمار ما حصل في سياق إستراتيجي يُفقد الاحتلال شرعيته ويُنهي وجوده، وهذا أمر يستلزم البسط، وأحسب أن المقام لا يتسع.

📍 دور العلماء أمام الطوفان

9.  لماذا يصمت بعض العلماء حين تشتعل الساحات؟ أهو الخوف… أم اختلاف الرؤية؟

العلماء على مراتب، فمنهم من تاجر بالدين وتكسَّب من الدنيا به.. وهؤلاء لا تعويل عليهم، ولا التفات إلى رتبتهم الدنيَّة في مصافِّ أهل الإيمان.

ومنهم من آثر الصمت خوفا من التبعات، وآثر السلامة العاجلة، وغفل عن حق العلم في البيان.

ومنهم من تكلم بالحق، وجهر به، وبيَّن حكم الله في وجوب الجهاد على الحكام والمحكومين.. ولعله دفع ثمن ذلك..

لكن لا بد من تعليق إضافي في هذا المقام، ذلك أن كثيراً من الكسالى يبحثون عن علاقة يعلقون عليها عجزهم وقعودهم عن الانتصار لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فتراهم يصبُّون شلال شتائمهم على العلماء؛ في الحين الذي يجلسون فيه على الأرائك الفارهة لا يقدمون جهداً ولا مالاً!

لا بُدَّ من التنبه إلى أن على كل طرف من أبناء الأمة مسؤولية، ويُناط به واجب يُناسب ما آتاه الله تعالى، فواجب العلماء البيان، وواجب التجار الإنفاق، وواجب المجتمع الاستجابة.

أما الواقع المر الذي نعيش؛ فهو أن كل طرف يعلق عجزه على الأطراف الأخرى، فالعلماء ينتظرون الحماية من المجتمع، والمجتمع يجلس متربعاً في زاوية مقهى المشاهدين يطالب العلماء بالتحرك وإعلان الجهاد، فإذا أعلنت طائفة منهم وجوب الجهاد- ولا يحتاج ذلك فعلاً إلى بيان- استغشوا ثيابهم كأنهم لا يسمعون!

على كل؛ الذي ينبغي أن يعرفه كل أحد: أن الله سيسأله هو عما كان يمكنه أن يفعله فلم يفعله، فيلعدَّ جواباً للسؤال بمعزل عما إذا قام الآخرون بواجبهم أو لم يقوموا.

10. ما هي أهم المواقف أو الخطوات العملية التي أنجزها العلماء أو كنت ترجو تحققها في خدمة طوفان الأقصى؟

عقدت المجامع العلمائية الحية في الأمة العديد من المؤتمرات وأصدروا البيانات وأفتوا بما يجب عليهم بيانه للأمة.

وقام الكثير منهم بإطلاق النداءات للأمة عبر مختلف الوسائل للتحرك لنصرة غرة والقدس وفلسطين.

والحقيقة:

هذا الجهد مقدَّر منسجمٌ مع طبيعة الدور المناط بالعلماء، لكن هذا جزءٌ من الواجب لا كل الواجب:

– فإن تحريك الجمهور ومشاركته الفعاليات بل تصدرها حقيق بالعلماء.

– وتحريض الناس على الإنفاق والمشاركة في حملات الإغاثة والدعم من واجباتهم.

– وتحريضهم على ممارسة الضغط على السياسيين من الواجبات الأساسية التاريخية التي قام بها العلماء.

– فضلاً عن بث روح الجهاد وتربية الجيل على التعلق بالآخرة وطلب الشهادة والاستعداد للتضحية لأجل بيت المقدس.

– والاستمرار على ثغر التعليم الشرعي وزرع قيم القرآن الكريم.

قد يعجبك أيضاً