مقابلة د. نواف تكروري حول الإبعاد إلى مرج الزهور

    

بسم الله الرحمن الرحيم

كان الإبعاد إلى مرج الزهور في شتاء عام 1992م وتحديدا يوم 17/12/1992، وبدأ تنفيذ هذه الجريمة يوم 14/12/1992 حيث بدأت اعتقالات الناشطين، ومكث المعتقلون في الطريق إلى المحطة النهائية للإبعاد ما بين 36 إلى 48 ساعة بحسب اعتقال كل شخص، وكانت الأجواء باردة و صعبة جدا وجيء ببعض الإخوة من السجن، والأكثر جيئ بهم من بيوتهم.

س: ما الخلفية التي أدت إلى هذا الإبعاد ؟

في الحقيقة كان هذا الإبعاد تهيئة لضرب المقاومة أملا من الغاصبين في تهيئة أجواء فلسطين لعملية الاستسلام والتفاوض في أوسلو في كل صوره مع هذا الكيان، أما السبب المباشر فهو أن خلية مجاهدة من القدس أسرت (اختطفت) جنديا صهيونيا اسمه “نخشون فاكسمان” وطالبت في بيان لها  بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وعدد من الأسرى في مقابل الإفراج عنه، وأعطت مهلة محدودة للكيان 24 ساعة وتوعدت بقتله إن لم يفرج عن الشيخ أحمد ياسين، ولكن الكيان الصهيوني تعنت ورفض الانصياع لهذا الطلب العادل، فقتل المجاهدون الجندي الصهيوني وبناء على ذلك جن جنون الكيان حين وجدوا جثة الجندي الصهيوني وقاموا بعملية اعتقال واسعة في الضفة الغربية وغزة اعتقلوا فيها نحو 1500 شخص، أبعدوا منهم إلى مرج الزهور في جنوب لبنان  415 شخصا، وبقي 1100 في السجون، وكان تقدير الكيان أن هذه الضربة للمقاومة  ستكون  ضربة قاصمة وقوية جدا تؤدي إلى وقف الانتفاضة، أو على أقل تقدير إضعافها، بل ربما نقول أن المقاومة نفسها كانت ترى هذا الإبعاد خطرا كبيرا على الانتفاضة، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى غير ذلك، فكانت هذه العملية فتحا من الله سبحانه وتعالى، كصلح الحديبية وهو صلح رجع فيه المسلمون بدون أن يحققوا حتى عمرة سماه الله تعالى فتحا مبينا، فلعل الإبعاد إلى مرج الزهور لثلة من قيادات المقاومة وكوادرها من علماء وأساتذة وأطباء وطلاب إلى خارج بلادهم وبعيدا عن أهليهم وأبناء شعبهم إلى مناطق منقطعة على الحدود وفي العراء  أراد منه الصهاينة كسر شوكة المقاومة وأراده الله تعالى فتحا مبينا  للمقاومة وللقضية وسبيلا لانتشارها وتطورها.

س: ما موقف أسرتكم من الاعتقال؟

لقد تم أخذي من بيت أهلي في قريتنا طلوزة شمال نابلس، وكنت أدِّرس في تلك الفترة في أم الفحم (أم النور) في كلية الدعوة والعلوم الإسلامية، ويوم الإبعاد كنت عائدا مع أسرتي إلى القرية إلى بيت أهلي، ولما جاء الجيش إلى البيت وأخذوني كان أثر ذلك كبيرا على والديّ وزوجتي وأشقائي وعموم الأسرة، وكان إبني الأول ثابت صغيرا عمره خمسة أشهر وخمسة أيام فقط، ومما زاد الأمر سوءا عليهم كما هو حال كثير من أسر المبعدين أنهم مكثوا أياما لا يعلمون عن مصير أبنائهم شيئا، يسمعون في وسائل الإعلام عن إبعاد 415 واعتقال أكثر من ألف ولا يدري أحد هل ابنه مع المعتقلين أو مع المبعدين، فعاشوا في قلق وترقب بانتظار خبر ما، وبقي الأمر كذلك مدة وهم في حالة نفسية مضطربة. ومكثوا الأيام الأولى وهم يبحثون عن جواب لمصير ابنهم، ثم عرفوا حقيقة الأمر من خلال الصليب الأحمر الذي حضر إلينا في المنطقة التي وضعنا بها وطلب منا رسائل لأهلنا لطمأنتهم على أنفسنا، فعرف الأهل حالنا من خلال الصليب الأحمر، وأنني من المبعدين بعد نحو أسبوع، ولا شك أنها كانت صدمة كبيرة للأسرة، ولكن ولله الحمد تمترس أهلنا بالصبر وتحلوا به، واعتادوا هذه الممارسات العدوانية من المحتل وعرفوا أن طريقنا هو طريق ذات الشوكة، ولا بد من الصبر حتى يؤتي جهادنا أكله بإذن الله تعالى.

س: ما موقف الدولة اللبنانية من إبعاد الاحتلال لكم إلى الأراضي اللبنانية؟

عندما وصلنا في الحافلات إلى الحدود اللبنانية وقد كان يسيطر عليها يومها أنطون لحد العميل للكيان الصهيوني أنزلونا من الحافلات الصهيونية ووضعونا في شاحنات كبيرة تحت سيطرة جماعة لحد، وساروا بنا إلى الحدود التي يسيطر عليها الجيش اللبناني ووجدنا أن الجيش اللبناني قد اتخذ قرارا بعدم السماح للمبعدين بالدخول بغرض قطع الطريق على الكيان حتى لا تستمر سياسة الإبعاد، والحق أن هذا الموقف من الجيش اللبناني قد انسجم تماما مع موقف المبعدين الذين طالبوا الجيش اللبناني بعدم السماح لهم بالدخول وأن يردهم تجاه  فلسطين، فكان الموقفان منسجمان تماما وعادت بنا الشاحنات إلى حدود فلسطين مرة أخرى وهناك لما نزلنا من الشاحنات لنتوجه إلى داخل فلسطين من جديد واجهنا الجنود الصهاينة بإطلاق النار فعدنا على أقدامنا باتجاه لبنان حتى وصلنا إلى أراضي قرية اسمها “مرج الزهور”، وهناك لما توقف إطلاق النار تجاهنا من قوات العدو ، وقفنا ومكثنا هناك في آخر نقطة أمنا فيها من إطلاق الرصاص وهو المكان الذي صار مقرا للمخيم بعد ذلك، وكان يوم جمعة، وكانت الأرض موحلة فخطب بنا د.عبدالعزيز الرنتيسي رحمه الله وصلينا وقوفا بلا سجود بسبب الوحل؛ إذ لا يوجد مكان نسجد عليه،

وبالعودة إلى موقف الدولة فيمكن القول إن موقف الدولة اللبنانية من الإبعاد في الحقيقة كان جيدا ومنسجما مع موقف المبعدين وغرضهم، فالجيش اللبناني عندما وصلنا إلى الحدود التي تسيطر عليها القوات اللبنانية أوقفوا الشاحنات، وكانت قد شكلت قيادة للمبعدين ونحن ما زلنا في الشاحنات إذ بدأ الحديث عن تشكيل قيادة قبل أن ننزل إلى الأرض ولذلك لما وصلنا نزل د.عبدالعزيز الرنتيسي رحمه الله وعدد من الإخوة وخاطبوا الجيش اللبناني بأننا نطالبكم بعدم السماح لنا بالدخول وكانت الاستجابة من الجيش اللبناني، والذي قرر أيضا المنع من دخول الأراضي اللبنانية، وذلك لأن هدف الكيان الصهيوني هو أن يدخل المبعدون إلى لبنان ويذوبوا مع الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، وربما بعد ذلك يتفرقوا في  الأمصار، فكان منع المبعدين من الدخول إلى لبنان    لمصلحة المبعدين على الرغم مما فيه من الشدة والقسوة عليهم ولكن طريقنا محفوف بالصعاب والتضحيات  .

س: ما أثر الوفود العربية والإسلامية والدولية التي جاءت لزيارتكم؟

لا شك أن عموم الأمة  كانت قد تفاعلت مع هذا الحدث، وجاءت وفود عربية وإسلامية ودولية من كل البلاد لزيارتنا في مرج الزهور، وبالتأكيد أن هذا أعطى المبعدين روحا معنوية إضافية، والمؤمن بإخوانه فعندما يجد الإنسان أن قضيته محمولة ولها من يناصرها يزداد تصميما و إرادة بإذن الله تعالى، وقد كانت إرادة المبعدين صلبة، ولما رأى الشباب –مع قلة خبرتهم- أن وجودنا هنا بعد شهرين من الإبعاد قد حقق غرضه الإعلامي قدم البعض طلبا لقيادة المخيم  لدخول لبنان ولكن كان جواب القيادة وفي مقدمتهم الدكتور الرنتيسي رحمه الله الرفض القاطع، حيث قال: لو مكثنا هنا أربع سنوات وليس سنتين فلن نتراجع، وكنا في الإبعاد على قسمين قسم مبعد لمدة سنة، وقسم مبعد لمدة سنتين، وفق ما صرح به الصهاينة، ولكن المراد الحقيقي هو الإبعاد الكلي، فكان قرار قيادة المخيم لو مكثنا في هذا المكان وفي هذه الخيام أربع سنوات ما توجهنا إلا إلى فلسطين، وما كانت وجهتنا إلا إلى بلادنا من جديد، ولن يفكك هذا المخيم إلا باتجاه فلسطين، ولن يكون مخيما من مخيمات الشتات، وهذه  بالحقيقة كانت إرادة معظم المبعدين وهو الذي مضى علينا جميعا وتمسكنا به بحمدالله تعالى.

 ومما لا شك فيه أن مما ساعد على هذا الموقف وأعان على التمسك بهذا الخيار، هو الوفود والمتضامنون  من كل أبناء هذه الأمة حيث قدمت إلى مرج الزهور وفود من بلاد عديدة من بلاد المسلمين من مصر والسودان والأردن ومن الخليج لا سيما الكويت وغيرها، ومن لبنان قدمت الوفود من الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية والوطنية بل المسلمة والمسيحية وتلقونا بالترحاب ورحابة الصدر وحسن المعاملة وتقدير التضحيات والدعم والرعاية ، وكل ذلك كان له أثر في الثبات، و بدأت آثار الثبات تنعكس مباشرة على القضية  وأعطى ذلك قضيتنا بعدا عالميا، بل وأعطى شبابنا في فلسطين نفسا جديدا للحراك والمقاومة، ولا ننسى أنه جاءنا أيضا وفود من بلاد العالم من أوروبا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، صحفيون وسياسيون ومفكرون وعلماء وكان لهذه الوفود  

 مواقف مشرفة وداعمة فقدموا الدعم المادي والمعنوي للمبعدين، وكان لدورهم أثر في تثبيت المبعدين وفي صمودهم في مواجهة الجريمة الصهيونية، وأذكر مما قاله شيخنا الدكتور همام سعيد عن أثر الإبعاد ونعمة الله سبحانه وتعالى التي تحققت به، وقد جاء في وفد من أهلنا في الأردن قال: “لو اجتمعت القوى الإسلامية والوطنية ووضعت خطة لعشر سنوات للارتقاء بالمقاومة ما ارتقت  بها كما ارتقى بها (رابين) في عملية الإبعاد، فرب ضارة نافعة”، قال تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، وخلاصة القول أن الوفود العربية والإسلامية بل والعالمية كان لها أثر كبير في نفوس المبعدين وسهم كبير في تحقيق صمودهم وانتصار إرادتهم على إرادة المحتل وأذكر أنني كتبت رسالة للأهل قلت لهم فيها: إن كنا هنا قد وضعنا في العراء بعيدا عن العالم فقد ساح العالم كله إلينا فنحن في سياحة العالم إلينا ولسنا معزولين.

س: ما موقف الشعب اللبناني بشكل خاص؟

جزى الله خيرا أهلنا في لبنان وكل قواهم اللبنانية والفلسطينية أيضا، إذ كان لهم دور كبير في رعاية المبعدين والتردد عليهم، وكان للمبعدين أيضا أثر في القرى المجاورة وزيارتها والتعاون معها لا سيما في قرية مرج الزهور والتي عمل فيها المبعدون في قطاف الزيتون والحصاد وفي كل المناسبات وشاركوا الناس أفراحهم وأتراحهم لا سيما أن الحد الذي كان لا يسمح للمبعدين تجاوزه كان خلف هذه القرية، وبالتالي كان الوصول إلى القرية ممكنا، لذلك قدم العلماء الدروس والمحاضرات في هذه القرية خدمة لإخوانهم من أهل هذه البلدة وما حولها، وافتتح المبعدون عيادة طبية لهم ولكنها كانت في الحقيقة لخدمة المنطقة كلها؛ إذ  كان يتردد عليها من يحتاج إلى العلاج من القرى المجاورة حيث كان من بين المبعدين نحو 14 طبيبا، ومنهم أصحاب اختصاصات وأجرى بعضهم عمليات جراحية لمن احتاج إلى ذلك من المرضى وبأدوات بسيطة، وقام المبعدون بخدمات جيدة لإخواننا في المنطقة من أبناء الشعب اللبناني شكرا له على بلائه الحسن ودوره العظيم في خدمة المبعدين ورعايتهم، ونحن في هذا المقام نجدد التحية والشكر لهذا الشعب المعطاء رغم ظروفه القاسية، وربما نخص بالذكر هنا الأخ الفاضل رجل الأعمال اللبناني “نزيه البقاعي” حيث أحضر سيارة كبيرة (شاحنة) مليئة بالفواكه والبطاطا من اليوم الأول للإبعاد والتي كانت في الحقيقة زادا أوليا للمبعدين في معيشتهم لا سيما في ظل عدم وجود أي شيء في بادئ الأمر وكانت الظروف صعبة بل صعبة للغاية، وكان الطعام شحيحا وأحيانا لا يتوفر، فكان لهذه الأعمال فضلها، ولا شك أن جميع القوى اللبنانية الإسلامية وغير الإسلامية كان لها دور في دعم المبعدين ورعايتهم وفي المقدمة الإخوة في الجماعة الإسلامية في لبنان وكذلك الفصائل الفلسطينية كلها الموجودة في لبنان، إذ توافدت جميعها إلى مخيم مرج الزهور وكان لها دور كبير في تقديم العون والمساعدة  وتوفير حاجات المبعدين، وكذلك أبناء الشعب اللبناني والفلسطيني في لبنان آثروا المبعدين حتى في لقمة عيشهم.

 ومما أذكره  والمقام لا يتسع للتفصيل أن كثيرا من القيادات والشخصيات التي أتيح لها القدوم إلى مرج الزهور جاءت لتقضي العيد الأول مع المبعدين وهو عيد الفطر وكان بعد شهرين من الإبعاد في شهر شباط 1993 فإخواننا في لبنان تركوا أسرهم وجاءوا لكي يقضوا العيد مع المبعدين ليتضامنوا معهم في بعدهم عن أسرهم، وخطب العيد فضيلة الشيخ فؤاد أبوزيد رحمه الله تعالى والذي قدم خطبة بديعة عظيمة أشعر المبعدين بأن الواجب عليهم ما زال أكبر مما بذلوا، وأن التضحيات التي قدموها قدم أسلافهم أضعافها مما هون على المبعدين وأعطاهم المثل في التضحية والفداء وخفف عنهم ألم  البعد عن الأسرة وكان مما قاله رحمه الله “لا تظنوا أنفسكم ضحيتم! أين قضى صحابة رسول الله؟ ألم يقضوا في أمصار الدنيا إعلاء لكلمة الله تعالى”، وبالتأكيد كان لحضور إخواننا من لبنان والترتيب معهم وحضورهم إلى مخيم مرج الزهور أثر في نفوس  المبعدين وتخفيف آلام الفراق لا سيما في العيد وفي غير العيد، إذ كانوا يترددون دائما ولم ينقطع المخيم منهم يوما واحدا وكذلك  موضوع إدخال الطعام والشراب ومواد الدفء واللباس، كل هذا كان يتم بالترتيب مع الفصائل الفلسطينية في لبنان والجهات  اللبنانية والجهات اللبنانية وحتى الدولة اللبنانية كانت تغض الطرف عن كثير من الأمور التي تأتي للمبعدين لتمكينهم من أسباب الحياة والصمود.

س: ما هي العروض التي عرضت على المبعدين لثنيهم عن موقفهم؟

العروض والمغريات التي عرضت على مبعدي مرج الزهور لثنيهم عن الثبات في موقفهم كثيرة، فالقيادة الصهيونية كانت تقدر بأن المبعدين لن يمكثوا في هذا الموقع طويلا، وإنما هي أيام يثبتون فيها وجودهم ثم يتفرقون في الأمصار، وكان الغرض المعلن أن النصف الأول سيعودون بعد سنة، والنصف الآخر سوف يعود بعد سنتين، ولكن كان المقصد الحقيقي للكيان هو إبعاد أبدي لا مؤقت، والمراد أن يذوب المبعدون في المجتمعات التي يخرجون إليها وأنهم لن يبقوا في أرض لبنان، فضلا عن بقائهم على الحدود وإنما سيخرجون من لبنان، ولما ثبت المبعدون بدأت سلطات الاحتلال بتقديم العروض على المبعدين، فقد عرضوا عليهم أن يخرجوا إلى بلاد أخرى، وأن يتاح لهم الخروج إلى بلاد أوروبية وغيرها، الأمر الذي رفضه المبعدون بالكلية، ورفضوا مغادرة مخيمهم إلا إلى فلسطين، وقام المبعدون لتأكيد مطلبهم بمجموعة تحركات ومسيرات باتجاه فلسطين، فنظموا ما أطلقوا عليه “مسيرة العودة” و”مسيرة الأكفان” والتي لبس فيها المبعدون الأكفان وتوجهوا باتجاه فلسطين، وأطلق عليهم العدو الصهيوني النار حتى أصيب عدد منهم،  ورابطوا على الحدود أياما بالعراء،  وهم محاطون بالجيش الصهيوني عن قرب، والحمد لله كان ثبات المبعدين عظيما، ورفضوا كل عرض لا يصب باتجاه العودة إلى فلسطين، وكما ذكرت سابقا أن عدد من المبعدين منهم  د. الرنتيسي كان يقول: “لو مكثنا هنا أربع سنوات وليس سنة أو سنتين فلا عودة إلا إلى فلسطين، ولن يفك هذا المخيم إلا بأتجاه فلسطين وستغلب إرادتنا إرادة العدو بإذن الله تعالى”.

س: كيف أثر اجتماع هذا العدد الكبير والمتنوع في مكان واحد طوال فترة الإبعاد على تحويل النقمة إلى نعمة، وما حجم المعاناة المعيشية والنفسية التي واجهها المبعدون؟

أما أثر الإبعاد واجتماع هذا العدد من الإخوة والدعاة والقيادات والشخصيات وأساتذة الجامعات والأئمة، فلا شك أن أثره كان عظيما، وكانت مرج الزهور توصف بأنها دولة إسلامية مصغرة ولكن خالية من النساء والأطفال، إذ كان لقاء نخبة مميزة اجتمعت من كل مناطق الضفة وغزة في هذا المكان، ابتكروا خلالها أفكارا وأعمالا عظيمة مباركة، ومارس المبعدون  كل أنواع الأنشطة، حيث بنوا جامعة سميت بجامعة “ابن تيمية – مرج الزهور” وكان مدرجها في العراء، ودرس فيها نحو 90 طالبا مع المبعدين كانوا يدرسون في جامعات فلسطين الضفة وغزة، وكان بعضهم على وشك التخرج، وكان من بين المبعدين أكثر من خمسة عشر (20) أستاذا جامعيا يدرسون في جامعات فلسطين باختصاصات عدة،  فكان استثمار هذه الطاقات أساتذة وطلاب من خلال هذه الجامعة التي كانت توزع نتائجها على 6 جامعات وتعتمد النتائج للطلاب في جامعاتهم، وقام المبعدون بأنشطة كثيرة في أبواب كثيرة في مجال التربية والمهن وإعداد الشباب، فكان كل من أتقن فنا يدرب عليه ويقدمه لإخوانه، وهذا بفضل الله تعالى شيء من الأثر الذي تحقق بهذا الإبعاد.

أما مظاهر المعاناة التي كانت في مرج الزهور فلا شك أن  وضع هذا العدد من المبعدين في مكان جبلي قاحل مليء بالثلوج في الشتاء، ثم بعد ذلك مليء بالحيات والعقارب في الصيف، فالمنطقة المجاورة كانت تعرف بوادي العقارب، ولدغ عدد من المبعدين بالعقارب وأنا لدغني العقربة مرتين في هذا المكان، فالمعاناة كانت في البداية قاسية بل وقاسية جدا، برد شديد أذكر في الليلة الأولى أنه كان أحضر إلينا عشرين خيمة لا أذكر الآن الجهة التي أحضرتهم، ربما الجماعة الإسلامية في لبنان، أو الصليب الأحمر وهذه الخيم في وضعها الطبيعي تتسع بحدها الأعلى لثمانين شخصا ، وإذا ضيقوا على أنفسهم تتسع مائة ، فكان حصة كل خيمة عشرين شخصا أو اكثر وهي خيم صغيرة فكان بعضنا يضع رأسه داخل الخيمة ورجليه خارجها؛ إذ لا يمكن أن نكون جميعا داخلها، وكان الشباب يؤثرون المرضى وكبار السن في الأماكن الجيدة داخل الخيم، إذ كان عدد من الإخوة في الستينات من أعمارهم، وكذلك كان يستأثر الشباب في حمل الطعام وإحضاره حيث كنا نحتاج للسير في الليل المظلم دون إشعال إضاءة احترازا من أن يرانا الكيان الصهيوني، وقد كنا نخشى أن يقوم بأعمال اعتداء علينا لا سيما أن المنطقة كان فيها بعض المقاومين الذين قد يتذرع العدو بقصفهم، فكان الحراك في الظلام والثلج معا، وصعود الجبال مسافة إلى إحدى القرى المجاورة إسمها “لباية” يأتي إمداد الناس إليها، فيذهب المبعدون ويتحركون ليلا ليحضروا “غالونا” من الكاز أو الخشب ليوقدوا حطبا أو شيء من هذا أو بعض الأطعمة، فقد كان الطعام شحيحا جدا في البداية بسبب ظروف نقله، ولم يسمح للسيارات أن تحمل للمبعدين وتصل إليهم وكان الطقس شديد البرودة فهذه كانت معاناة حقيقية فضلا عن المعاناة المعنوية المتمثلة في البعد عن الأهل،  وعدم القدرة على التواصل معهم لا سيما في المرحلة الأولى من الإبعاد، فوسائل الاتصال أحضرت بعد ثلاثة أشهر من وجود المبعدين، وكان يسمح بخمس دقائق كل أسبوعين للأخ ليتواصل مع أهله كي يطمئن عليهم ويطمئنهم على نفسه.

س: لماذا تراجع الكيان الصهيوني عن الإبعاد وقرر إعادة المبعدين؟

السبب الأهم في تراجع الكيان وندمه على هذه الخطوة هو تصميم المبعدين وثباتهم وقوة إرادتهم، إذ شكل الإبعاد إساءة وجه للكيان الصهيوني، وكشف حقيقة همجية هذا الكيان ونقل المقاومة نقلة نوعية، فكان غرض العدو من هذا الإبعاد إيقاف الانتفاضة وتهيئة الأجواء لمفاوضات الاستسلام، ولكن الذي حصل هو عكس مراد العدو تماما، إذ ترتب على ذلك حراك جديد للمقاومة، فكانت -خلال فترة وجيزة من الإبعاد- أول عملية استشهادية في الغور لشاب من مدينة نابلس، وتصاعدت وسائل المقاومة من الطعن والعمليات الاستشهادية، وبدأت بعد ذلك عمليات قنص الجنود الصهاينة، فكان الإبعاد محركا ومحفزا لشعبنا في الداخل، وهذا مناقض لمراد العدو من الإبعاد، الذي ظن أنه سيكون مثبطا لهمة المقاومين في فلسطين. لقد شكل الإبعاد تجديدا ومضاعفة لأعمال المقاومة فهذا سبب أساسي لتراجع الكيان، والسبب الآخر أن المبعدين صمدوا وقرروا البقاء في هذا المكان وعدم العودة إلا إلى فلسطين، وهذا نقيض مراد الصهاينة الذين أرادوا من هذا الإبعاد تهجيرا لهذه الثلة من فلسطين، لا أن تكون محطة إعلامية للمقاومة والناطقين باسمها، حيث في عام 1993 كان أكثر شخص في العالم يعقد مؤتمرات صحفية هو الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي -رحمه الله تعالى- الذي كان الناطق الإعلامي باسم المبعدين، وعزيز دويك الناطق باللغة الإنجليزية باسم المبعدين، فكان هذا نقيض مراد الصهاينة من الإبعاد، وهو أن يخمدوا أصوات هؤلاء المجاهدين لا أن يبنوا لهم منبرا جديدا يعبرون فيه عن حقهم وعن قضيتهم وينقلونها للعالم، الأمر الذي جعل الكيان الصهيوني يندم على فعلته، فقرر أن يقصر أمد الإبعاد، إذ تحول المبعد سنة إلى 9 شهور والمبعد سنتين إلى سنة، حتى قال رابين لو كنت أعلم ذلك ما قمت بالإبعاد وأعلن ندمه على إقدامه على عملية الإبعاد لأنها جاءت بنقيض غرضهم.

س: لو رجع بكم الزمان إلى وقت الإبعاد ماذا كنت ستفعل غير ما فعلت؟

لو عادت “عقارب الساعة” ماذا كنت سأفعل، في الحقيقة لقد استثمر المبعدون عملية الإبعاد ووجودهم في هذا المكان استثمارا جيدا ومثمرا ، وقد ذكرت أنهم أقاموا جامعة، وكانت لهم نشاطات رياضية وعلمية وفنية، ولم يكن أخ يتقن بابا من الأبواب أو فنا من الفنون إلا وفتح له دورة يقدمها لإخوانه، ويتلقاها عدد من المبعدين عنه حتى في فن الجزارة، في النصف الثاني من العام بعد أن توسعت الحال شيئا ما وقد أقام المبعدون  دورات في التجويد واللغات والفنون والرياضة والكراتيه ونحو ذلك، إضافة إلى المواد الجامعية، هذا كله كان استثمارا لهذه الفترة، وبالتاكيد بقي أن أذكر أنني بدأت في تأليف كتاب عن أحكام السجناء والأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني ولم أكمله واليوم أندم على أنني لم أكمله، لا سيما أنه كان من المبعدين عدد كبير ممن لهم تجربة في السجن وقد أعددت لهم جلسة لإعطاء صورة عن حال الأسرى لأني لم أعتقل في سجون الاحتلال، وبالتالي معرفتي محدودة جدا، فعقدت لهؤلاء جلسة لإعطائي صورة عما يجري وإبداء آرائهم في مسائل كثيرة مثل الإضراب عن الطعام وظروف بعض التصرفات والعبادات وغير ذلك وقد نقلوا لي عددا من الأسئلة من الأسرى في سجونهم في مواقع أسرهم، وكنت فعلا بدأت فيه وتحدثت عن صلاة فاقد الطهورين وعبادات من لا يعرف الأوقات ونحو ذلك، وهذه طبعا مكتوبة في كتب الفقه وكانت متعلقة بالسجناء فلو عاد بي الوقت وهو أمر فرضي لكان لزاما علي أن أضاعف استثماري لوقتي وتعرفي على إخواني، إذ أحيانا أسمع عن استشهاد أحد هؤلاء الإخوة، فأجد نفسي لا أذكره جيدا فأعاتب نفسي على عدم عمق معرفتي بكل واحد من هؤلاء الإخوة وأرجع للكتاب الذي يحوي صور المبعدين لأتذكره وأعتقد في إطار التعارف ربما كان بالإمكان أفضل مما وصلنا إليه مع فضل ما توصلت إليه

س: هل من الممكن أن يفكر الكيان الصهيوني بجريمة الإبعاد مرة أخرى؟

لو أتيح للكيان الصهيوني أن يبعد الشعب الفلسطيني كله لما تردد، ولكن مثل هذه التجربة جعلت قادة الكيان يحسبون ألف حساب قبل أن يفكروا بمثلها؛ لما كان لها من أثر إيجابي على القضية الفلسطينية وأثر سلبي على الكيان الصهيوني أساء الله تعالى بها وجه الكيان ورفع بها شأن المقاومة، وأتاح لها بهذا البلاء نعمة كبيرة ومنصة إعلامية كبيرة ما كانت في حساب البشر متوقعة، حيث كانت المقاومة قبل الإبعاد تبحث عن جريدة ولو كان مطالعوها محدودين، تذكر المقاومة وتتحدث عنها، بينما في مرج الزهور كانت انطلاقة عظيمة للمقاومة في وسائل الإعلام  وفتح باب التعبير عنها وعن حق الشعب الفلسطيني بممارستها  وآلياتها و أدواتها و مشروعها، وتعرف العالم على الكيان الصهيوني وجرائمه إذ بدا من خلال هذه العملية الإجرامية وحشا لا يعرف إلا لغة القوة والعدوان، وإلا ما معنى حتى لو قامت خلية بخطف جندي أن يقوم بإبعاد 415 مواطنا ويقتلعهم من بين أسرهم، هذا أستاذ في جامعته وهذا إمام في مسجده وهذا موظف في مؤسسته وهذا طالب على مقاعد دراسته، ما الذي اقترفوه لماذا هذا العقاب الجماعي؟ ولم يكتف بذلك بل كان هناك اعتقال لألف ومائة فلسطيني للسبب نفسه، هذا من جرائم هذا الكيان التي وضحت بعد هذه العملية، والتي أعتقد أنه سيحسب ألف حساب قبل أن يفكر في القيام بمثلها من جديد، وأعتقد أن إبعاد مرج الزهور أغلق أو شبه أغلق باب الإبعاد في وجه هذا الكيان، ولو نجح الصهاينة في هذه العملية وتفرق المبعدون في الأمصار لأصبح الإبعاد ديدنهم في مواجهة كل عمل جهادي ممكن أن يتم أو تم بعد ذلك في فلسطين، وبذلك  مثل الإبعاد إلى مرج الزهور كسرا لشوكة هذا الكيان وإبطالا لمشاريعه في إفراغ الأرض من أهلها لإحلال قطعان من المستوطنين جاؤوا من بقاع الأرض “لفيفا”.

وأخيرا أقول إن هذه القضية مرعية برعاية الله سبحانه وتعالى، وهي تحتاج إلى جهود الأمة جمعاء، وإن الإبعاد لم تكن ثمرته وإنجازاته هذه بصمود المبعدين وحدهم وإنما كانت من خلال تضافر جهود أبناء الأمة بالقدوم إلى هذا المكان وبالتعبير في وسائل الإعلام وإبقاء قضية المبعدين حية طوال العام في كل بلاد المسلمين بل في كل بلاد العالم، في مرج الزهور تواصل المبعدون مع أناس لم يكن متاحا لهم التواصل معهم، وفتحت لهم آفاق لم تكن مفتوحة من قبل، واطلع العالم من خلال هذه الجريمة الصهيونية على حقيقة هذا الكيان وهمجيته وعدوانه، ورأوا بأعينهم العقاب الجماعي لمن ليس له ذنب، وأذكر أن محطة Cnn الأمريكية مكثت 72 ساعة وهي تبث من مرج الزهور أحوال المبعدين وتنقل أشواقهم لأطفالهم وما لحقهم من ضيق وعذاب بلا ذنب اقترفوه، وأذكر أنني أرسلت رسالة لأهلي قلت لهم فيها: “إن كنا محصورين في مكان، فقد ساق الله العالم كله إلينا، وأن نتواصل مع العالم كله من خلال هذا المكان المعزول المقطوع بفضل الله تعالى أننا قد وصلنا إلى الناس أجمعين”، وأذكر أن وفدا من إيطاليا جاء ودخل على خيامنا (رجل وامرأة) صحفيان فبكيا وأرسلا مساعدات نقدية للمبعدين وتعهدا بجمل القضية والحديث عنها في بلادهم .

وهذا من تحويل الله سبحانه وتعالى النقم إلى نعم، والألم إلى أمل، فلا نيأس ولا نظن أن العدو قادر على كل شيء، بل لتكن ثقتنا بالله أولا ثم بأنفسنا وبأمتنا كبيرة وأننا قادرون بالتصميم والإرادة والصمود أن نقهر عدونا وكل عدو يريد بنا شرا، فلا بد لنا من الثبات ولا بد أن ننطلق ونرمي عن قوس واحدة، فقضية المبعدين التقت عليها الأمة فنجحت في تحويلها من نقمة إلى نعمة، ومن بلاء إلى عطاء، وهذا درس لنا أننا قادرون على الإنجاز، قادرون على صد هجمات عدونا وإبطال جرائمه والحد من ظلمه عندما نكون يدا واحدة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه ردا جميلا وإلى أرضنا ومقدساتنا ردا عزيزا كريما إنه ولي ذلك والقادر عليه.

قد يعجبك أيضاً