31/7/2024
د. محمد الطاهري
في المساء وبينما نحن في قاعة العروض توجهت إلى الكرسي المجاور لصديقي س.ن من غـ..ـژة لأستأنس به وأسمع منه أشياء أخرى تقرب لي صورة مايجري في بلاده، وقد كانت مفاجأتي قبل أن أبدأ الحديث معه كبيرة حين أعطيته ماء جلبته له فاعتذر مني، وكشف أنه صائم!
تذكرت في الحين أن اليوم خميس، وهو مما سن النبي صلى الله عليه وسلم صيامه مع الاثنين في الأسبوع، ويا للحسرة التي انتابتني حينها لو تعلمون، فها هو ذا النموذج أمامي واضحا وضوح الشمس، شاب في مقتبل عمره، أكبره سنوات، لكنه رغم ذلك لا يفرط في الطاعات والقربات، بينما نفسي الجهولة تركض وراء الشهوات كما يركض المجنون في الطرقات!
سألته: كيف تصوم اليوم وأنت لما ترتح من تعب السفر بعد، وقد قطعت المسافات لحضور الملتقى، أما كان حريا بك أن تترك الصيام إلى حين راحتك؟
نظر إلي مبتسما وقال: في الصوم يا أخي يبني الإنسان ذاته، ويقبل على مولاه رافعا بروحه رايات المحبة والسلام، يتشوف مرضاة ربه، فيكون ذلك مدعاة لنيل عونه، وتسديد أعماله، ونحن أحوج ما نكون لذلك!
عجبت منه يا سادتي وأنا أستمع لحديثه يرسم ملامح الانسان المسلم الذي نحتاجه اليوم، وخاطبت نفسي: هذا دليلك إلى ما تطلبينه، فتشبهي إن لم تكوني مثله، فإن التشبه بالكرام فلاح.
وعند اقتراب موعد أذان المغرب أردت أن أُحضر له بعض ما يؤكل للإفطار عسى أن أظفر بنصيب أجر معه، لكني تفاجأت هذه المرة أيضا حين وجدته يدعوني بإصرار كبير لأشاركه طعام إفطاره خارج مكان الملتقى في مطعم قريب، ولم يترك لي فرصة لأعتذر أو أرفض، فقد أقنعني أننا سنقضي وقتا جميلا أنا وهو وثلاثة من شباب غـ..ـژة وجه لهم الدعوة كما وجهها لي لنشاركه جميعا الإفطار!
يا الله، أي نوع هذا من الشباب؟! يصوم ليكسب أجر الصيام، ويدعو غير ليشاركوه الافطار، هذا والله يعرف كيف يزيد في صحيفة أعماله أجرا على أجر!
أردت للحقيقة أن أبكي بحرقة على تقصير نفسي، لكني تذكرت أن من يحترق ولا يتحرك لا ينفع نفسه ولا غيره في شيء، فقلت متسلحا بالأمل: هي إذن فرصة أخرى لأستزيد علما وإيمانا منه..
وفي الطريق نحو المطعم الذي سنفطر فيه تعرفت على شباب غـ..ژة الذين رافقونا، فعلمت أن هذا القطاع المحدود المساحة وراءه سر، وأدركت سبب كونه موردا روحيا متفجرا بالأنوار التي ترتوي منها ملايين القلوب العطشى في سائر بلاد عالمنا اليوم، لكني مع ذلك واع تمام الوعي أن الأشخاص لا حظ لهم إلا بالله، لذلك عاهدت نفسي منذ زمن ألا أربط عقيدتي ويقيني إلا به سبحانه.
وصلنا إلى المطعم المقصود بعد أن مررنا على الكثير منها في الشارع المؤدي إليه، وإن مما أعجب له هو هذا العدد الكبير من المطاعم التي تكاد تكون في كل مكان، بعد أن كانت قديما تقتصر على أماكن محدودة في طرق السفر، فكأن الانسان اليوم خلق ليأكل فقط! ولم تعد تكفيه كما في الماضي كسرة خبز وشربة ماء وكلمة طيبة ليعيش ملكا!
قضينا وقتا ممتعا تكشف لي معه قدرة أهل غـ..ژة على صناعة الفرح رغم الأحزان، وتبين لي أنه كلما عمق الحزن جرحا في ذواتهم كلما ازدادت قوتهم على احتوائه فرحا أكبر ، كما أدركت أيضا منهم أن الفرح لحظات وأن الرضا بقضاء الله حياة.
يتبع..
نقلاً عن:
https://www.facebook.com/mohamed.tahiri.0/posts/10229628781677707