عبد الحكيم يس سعداوي / تونس
19/8/2019
سقطت بغداد بين 20مارس آذار و9 أبريل نيسان 2003، قصة قصيرة في صفحاتها تضحيات ودماء ودمار وخيانات، ولم تكن نهايتها سعيدة كما تصنعها خيالات الأدباء الواسعة، لكنها لم تكن وحدها القصة الحزينة في العراق، فقبلها قصة حصار فاق عقداً من الزمن، وقبل قبلها قصة حرب الثماني سنوات مع إيران التي انتهت بحرب الخليج الأولى، وعاصر كل ذلك قبضة استبداد لم تختلف عن مثيلاتها عند الجيران حتى المحيط البعيد، كل هذه القصص قد لا تحب سماعها أو قد لا تحيط بخبرها ولا يحيط كاتب بفصولها،
رغم هذا الهم شديد الوطأة كانت قصة أخرى على وشك أن تكتب تختلف كلياً على سابقاتها، غير أنها ليست ممتعة، ولعل هذا هو القاسم الوحيد المشترك بين كل قصص العراق الحديث، ولولا ما تواتر من أخبار صنع حربَيْ العالم الأولى والثانية لقلنا بأن المآسي ركزت جهدها وطاقتها وفرغت نفسها لأمة لا إله إلا الله، ونال العراق منها حظه الوافر …
في ملتقى يلوا جذبتني طيبة أفراد الوفد العراقي الذين لم تنل كل تلك القصص من ثرائهم المعرفي وتنورهم الفكري ونخوتهم وإبائهم، ومن يملك معرفة بالعراق ولو في حدها الأدنى يفهم السر من وراء ذلك، وكما يقال: تكفيك فخامة الاسم.
كان لي أسئلة محددة طرحتها عن وعي على أبناء الموصل تحديداً:
1) كيف سارت العملية السياسية بعد سقوط بغداد وما دور السنة فيها؟
2) كيف دخلت داعش إلى الموصل؟
3) كيفية إدارتها للمدينة؟ وكيف عاش الناس في ظلّ حكمها؟
4) كيف هي حال الموصل بعد خروج داعش منها؟
إضافة إلى أسئلة تفصيلية بعضها يتداخل مع الأسئلة السالفة.
كان الجواب مكتوباً في إحدى عشر ورقة أحاول اختصاره في السطور التالية:
وهنا الجزء الخاص بجواب السؤال الأول:
بعد سقوط بغداد بالإضافة إلى التنوع المذهبي والعرقي في العراق كانت الألوان السياسية والرؤى المختلفة بشأن أولويات العمل الحيني ثم الفراغ الأمني الرهيب على مساحة بلد شاسع ثم الاحتلال الجاثم والتدخل الإيراني والتواطؤ الخليجي وثلاثتهم آخر ما يشغله مصلحة العراق،
ومع تركة نظام صدام تصدق حرفياً مقولة: الاستبداد هو حرب أهلية مؤجلة.
طبعاً ليس من رغبات العراقيين إزهاق أرواح بعضهم البعض، ولا زال شعار العراق سنةً وشيعةً (والوطن ما نبيعا) رناناً في آذاننا.
لكن الأماني لا أثر يذكر لها عندما نتحدث عن السنن والقوانين الاجتماعية، خاصة إذا تعلق الأمر بوعي الناس في بلد نفض للتو رداء الدكتاتورية وقد تسربل به لأربعة عقود، ولاختصار الحديث يكفي الاطلاع على ما كتبه الكواكبي في طبائع الاستبداد ومصارع الاستبداد، وقبله كلام ابن خلدون في المقدمة باب في أن الظلم مؤذن بخراب العمران.
نتحدث عن وعي الناس؛ لأن المخالب طويلة والصدمات كثيرة والخيوط متشابكة، وأمام الذهب السائل الوافر في العراق لا قيمة للدماء والأرواح، وإشعال الفتن الطائفية لعبة مسلية لبارونات النفط وأذناب الغزاة …
وقع تنظيم انتخابات بعد نقاش طويل حول شكل النظام ليتناغم مع التركيبة الطائفية وسط أخبار روتينية عن الذبح والتفجير وتهريب الآثار وحكايات طويلة يشيب منها الوليد.
شاركتْ كل الطوائف بكل ثقلها باستثناء السنة الذين ضاعت أولوياتهم بين مقاومة المحتل وفتاوى تحريم الانتخابات ووجوبها وشدة وطأة الفقر والبطالة
شارك جزء من السنة في الانتخابات، وحجتهم تحقيق بعض المصالح ودفع المفاسد وقطع الطريق على المتربصين، وامتنع جزء لا بأس به، فحرمها كل تفصيلها حجة بعضهم أولوية مقاومة الاحتلال وحجة البعض الآخر يكفر بالديمقراطية ويمتنع مبدئياً عن المشاركة، وغذى هذا الفريق فلول القاعدة التي تحب كثيراً مثل هذه الظروف وبعض فتاوى من دول الجوار، وكلاهما في الحقيقة أفلح كثيرا في تفويت الفرص كما في أماكن أخرى نعرفها جيداً، والعبرة بالنتائج على كل حال.
بالمحصلة القضية قضية نفوذ، وقد سقطت المناصب المهمة عند الطوائف غير السنية، وهؤلاء كانت تمثيلياتهم ضعيفة حتى في المحافظات التي لهم فيها غالبية سكانية.
مثل هذه الظروف مثالية لاختلال العدل وطغيان الشعور بالقهر والغبن والرغبة في الانتقام، وهي عادة حالة تسبق موجة التطرف، لا في حالة المسلمين وحدهم وإنما أي ظاهرة غلو إلا وسبقها مثل هذا الوضع أو أكثر وما حالة داعش إلا مثال.
وقديماً فعل البلاشفة أفاعيلهم بنظرية العنف الثوري، وقد خلف لهم ظلم القيصر في روسيا وقوداً من الحقد الأعمى على كل ما له علاقة بالنظام والمؤسسات.
وساهمت بنود ولسن الـ14 والشرط المجحفة للحلفاء على ألمانيا في تغذية خطاب هتلر النازي لمشاعر الرغبة في الثأر، حتى لم يمضي الوقت الكثير لتندلع أكبر الحروب فظاعة في التاريخ.
وما خرجت الحركة الصهيونية بأقذر وأوضع الممارسات إجراماً إلاّ بعد ظلم الكنيسة لليهود وتشريدهم في كل مكان.
وما اقترفه السود في أمريكا شاهد أيضاً على هذه النظرية …
الحقيقة أن بناء دولة المؤسسات والحديث عن جيش وطني يعد هراء في نظر شاب فقير مهمش يرى الظلم ولا يرى له من سبب غير الجشع والطمع الأعمى أو لمجرد أنه ولد لأب يدين بمذهب أو طائفة لحمها طري ودمها شهي …