3/3/2025

د. محمد سعيد بكر

هذا سؤال من أمة مكلومة تحكي وتشكي تلك الحالة من التشرذم والفرقة والفشل الذي وصلت إليها أمتنا حين تفرق علماؤها ودعاتها ونخبها وأصحاب الرأي فيها؟!

 وهو سؤال يطرحه من يرى اجتماع أعداء الأمة ونخبها الفاسدة على كثرة المفرقات بينهم .. وقد ألقوا بتلك الخلافات كلها وراء ظهورهم واجتمعوا على تحقيق مصالحهم .. حتى خلتهم جميعاً “وقلوبهم شتى”.

 إننا نسأل أنفسنا عن أسباب الفرقة حتى نحاول التخفيف منها لنصل إلى تلك القواسم المشتركة بين الفرقاء من الأقران، لاسيما قادة المذاهب الفكرية والفقهية وأصحاب المدارس العقدية ورواد البرامج الدعوية .. فمن أسباب اختلاف العلماء والنخب ما يأتي:

1️⃣ شعور بعضهم أنه وصل إلى الحق المطلق .. وأن ما سواه لا شك باطل.

2️⃣ حجم المحاولات التي يبذلها أعداء الأمة في صناعة الشرخ الموهوم بين هؤلاء الكرام الكبار .. بما يبثونه من أراجيف وفتن توحي بأن المسافة كبيرة بين علماء الأمة ودعاتها ونخبها.

3️⃣ السماع عن بعضهم دون السماع من بعضهم .. فهم يتلقون ما يحمله لهم ركبان السوشال ميديا من مقاطع وكلمات دون سياقها العام، ثم يبنون عليها خصومة مع الآخرين.

4️⃣ أنهم بطبيعة الحال مختلفون في تناولهم للمسائل وزوايا نظرهم للأمور، قال تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (هود: 118).

5️⃣ أن ثمة تزاحم وتنافس أو تشاكس وتحاسد بين بعض الأقران من العلماء على بعض المواقع والوظائف والشواغر والألقاب والمسميات .. وهو تزاحم مذموم على أضيق الأبواب، في حين أن أبواباً كثيرة لمن أراد الدعوة لا تزاحم عليها .. فمثلاً نجد تزاحم بعض أهل العلم على مراكز وظيفية في الجامعات ودوائر الإفتاء والإمامة والخطابة، وهذه كلها وظائف خير وفيها نفع عظيم .. في حين نجد أن الشريحة الأعظم من الناس لا علاقة لهم بهذه المواقع؛ وبالتالي فهي بحاجة إلى من يصل إليهم ويرشدهم ويبلغهم العلم والدين، وكلنا مقصرون في سداد مثل هذه الثغرات والوصول إلى مختلف الشرائح.

6️⃣ وجود حالة من الفراغ (ترف فكري) عند بعض العلماء جعلت من وقته الزائد ينصرف في الاشتغال بأقرانه بدلاً من الاشتغال معهم في نشر الدعوة والخير.

 هذه الأسباب وغيرها أدت إلى حصول شرخ بين العلماء والنخب والدعاة .. ولو نظر هؤلاء الكرام إلى دواعي اجتماعهم ومبررات ائتلافهم الشرعية والعقلية لنبذوا تلك الأسباب .. ولذللوا تلك المفرقات .. فمن المبررات والدواعي الشرعية والعقلية لاجتماع العلماء والدعاة ما يأتي:

1️⃣ عموم النصوص الشرعية التي جاءت تأمر بالاجتماع ووحدة الصف وتحث عليها، وتنهي عن الفرقة وتحذر منها، ومنها قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” (الشورى: 13).

2️⃣ التحذير من وقوع علمائنا بما وقع به السابقون من نزاع بعدما جاءهم العلم .. فالعلم يجمع ويوحد أهله على الحق والخير .. لأن بين العلماء رحم موصولة .. ويمنع من تفرقهم ونزاعهم إن كانوا كلهم يقصدون الخير .. قال تعالى:” وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ” (الشورى: 14).

3️⃣ أن أعداء الأمة لا يفرقون في هجماتهم القذرة بين أصحاب المدارس الفكرية والفقهية والعقدية؛ طالما أنهم كلهم موحِّدون ينتسبون إلى السنة الشريفة ويحترمون الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

4️⃣ أن لغة العقل والمنطق تقول بأنه لن تتحقق أهدافنا وغاياتنا الكبرى ما لم نلتقي .. فنحن نلتقي لنرتقي، ونجتمع لنرتفع ونندفع إلى كل بر ومعروف وخير؛ وإلا فكيف يمكننا معالجة كبريات الأمور ونحن مختلفون “كل حزب بما لديهم فرحون” وكلٌّ قد أصيب بفتنة إعجاب كل ذي رأي برأيه .. كيف لنا أن نقف أمام موجة الشبهات والشهوات، والبدع، والإلحاد، والمادية، والشذوذ، والفساد، والعدوان على مقدساتنا وبلادنا وإخواننا ونحن لا زلنا في حرب ومعارك وهمية بيننا وبين بعضنا البعض؟!!

5️⃣ أننا باختلافنا وتشرذمنا نشكل نموذجاً قبيحاً يصد عموم الناس عنا .. فنحن نأمرهم ببر الاجتماع والائتلاف ولا نجتمع ولا نأتلف .. بل نتخاصم ونتنافر ولا نلتقي .. بل يحرص كل منا على تشكيل كيانه الخاص دون أدنى اهتمام بغيره.

6️⃣ أنه ثبت باستقراء تاريخ العلماء والدعاة الكبار أنه كان لديهم من الفكر الجامع والمستوعِب للرأي والرأي الآخر الشيء الكثير .. وهذا يعني أنه كلما زاد علم المرء اتسع صدره .. وكلما قلَّ علمه ضاق صدره لضيق أفقه وفقهه .. فهذا الإمام الشافعي يقول: “إذا جاءك الحديث عن مالك فَشُدَّ به يديك” .. وحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ من الموطأ، وتوزيعها على الأمصار، وحمل الناس على الفقه المالكي حسمًا للخلاف، قال له الإمام مالك:”يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا له من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وغيرهم، وإنّ ردهم عمّا اعتقدوه شديد، فدع الناس، وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم” .. وقال ابن تيمية: “إنَّ السَّلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعيَّة، مع بقاء الأُلْفَة والعصمة وصلاح ذات البين” .. وقال يونس الصَّدفي: “ما رأيت أعقل مِن الشَّافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثمَّ افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثمَّ قال: يا أبا موسى، ألَا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتَّفق في مسألة”.

7️⃣ أننا نجد من المبررات العقلية والشرعية للاجتماع والتعاون مع غير المسلمين أحياناً على ما فيه مصلحة للدعوة أو ما في ظاهره خير للناس، ونأتي بشاهد من حلف الفضول وغيره لتحقيق هذا المقصد .. أفلا يمكن أن نلتقي على مثل ذلك الذي نلتقي عليه مع الآخرين بكل سلاسة وهدوء؟!

 يظن البعض أن الوصول إلى حالة من التفاهم والتآخي والالتقاء بين العلماء والدعاة أمر مستحيل .. والصحيح أنه من السهل إعادة اللحمة بين أصحاب المدارس الفكرية والفقهية والعقدية، وذلك من خلال ما يأتي من وسائل وأسباب:

1️⃣ أن تتوفر لدى الجميع نوايا الاجتماع والتآلف والمحبة والتعاون ونبذ الشقاق.

2️⃣ أن يتم حصر الجوانب المتفق عليها وتعظيمها والعمل التشاركي عليها وجعلها من أولويات الحراك العلمائي .. وأن يتم حصر الجوانب المختلف فيها ومحاولة التجرد في سماع وجهات النظر الأخرى بكل حيادية وموضوعية بنية تقليل نقاط الاختلاف وإن لم تنتهي.

3️⃣ أن تعقد اللقاءات الأخوية .. وأن يلتقي الجميع في أنشطة وبرامج علمية أو دعوية أو اجتماعية متنوعة بمبادرة كريمة من بعض الطيبين.

4️⃣ أن يتهادى العلماء والدعاة بما ينتجون من دراسات وكتب وبرامج علمية .. وأن يقدم العلماء والدعاة بعضهم بعضاً؛ حتى يرى الناس تلك الحالة من الوئام بينهم .. فهذا يقدم ذلك في محاضرة أو ندوة .. وذاك يقدم لهذا في كتاب أو دراسة .. وكل يقدم للآخر النصيحة المليحة بهدوء ودون فضيحة.

5️⃣ أن يترحم العلماء الأحياء على موتى العلماء والدعاة من أصحاب المدارس المختلفة عند موتهم .. فهذا مما يقرب قلوب تلاميذهم، ويخفف من حدتهم وشدتهم .. قال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ” (الحشر: 10).

6️⃣ أن تُستثمر قنوات التواصل الحديثة في مشاركة البرامج والمشاريع والكلمات والدراسات النافعة وإظهار الإعجاب بها بصرف النظر عن مصدرها .. فالدال على الخير كفاعله .. وهذا مما يؤلف بين قلوب العلماء والعاملين.

7️⃣ أن يستشعر الجميع بأنهم إما أن يكونوا الداء أو الدواء للحالة التي وصلت إليها الأمة .. أما الداء فهو باختلافهم واختلاف أتباعهم وعموم الناس لأجل اختلافهم؛ وعندها يحل الفشل .. وأما الدواء فلان اجتماع العلماء يشكل نقطة تحول في الاتجاه الصحيح نحو وحدة الأمة واجتماع كلمتها .. وبالتالي فإننا نستجلب النصر والتمكين ببركة الوحدة والتوحيد.

وختاماً

 فإنه قبل الإجابة على هذا السؤال المهم لابد من تحرير مصطلح الالتقاء ونبذ الخلاف والوحدة المقصودة بين العلماء والدعاة .. فهل المقصود هنا؛ الأنصهار التام فيما بينهم على رأي واحد .. أم عدم إبداء وجهات النظر المخالفة .. أم اجتماع عقولهم وقلوبهم على كل مسألة؟ .. والصحيح أنه ليس المراد بذلك هذا كله؛ بقدر ما يُطلب من السادة العلماء ما يأتي:

1️⃣ محاولة الفصل بين اختلاف العقول وخلاف القلوب .. فلا داعي لأن يتحول كل اختلاف بين عقولنا ووجهات نظرنا إلى خلاف ونزاع بين قلوبنا.

2️⃣ محاولة تنسيق (بلا انصهار ولا ذوبان) الجهود لاسيما فيما هو من الأولويات المجمع والمتفق عليها بيننا.

3️⃣ الدخول من أبواب متفرقة للوصول إلى الهدف نفسه .. فنحن نتفق على الغايات وإن اختلفنا في الوسائل الموصلة لها .. وهذا مما يوصي به العقلاء أحياناً.

4️⃣ إبداء وجهات النظر بقوة مع الاستدلال بأدلة الشريعة والمنطق .. ولكن بأدب يحترم الآخرين .. ولا يقلل من قيمة اجتهاداتهم ولا يطعن في شخوصهم.

5️⃣ التكميل على جهود وآراء الآخرين وعدم البدء من نقطة الصفر في كل مرة مع نسبة شرف السبق لأهله.

 باختصار؛ نحن بحاجة إلى حالة من الوئام وسلامة الصدر بين العلماء والعاملين الربانيبن، والعودة إلى ما كان عليه سلفنا الصالح من قدرة عالية على الاستيعاب والاحترام والتناصح فيما بينهم .. مع ترميمٍ سريعٍ لأي موقفِ نزغٍ من نزغات شياطين الإنس والجن بينهم.