21/4/2025

د. عبد الله معروف

لم يكن بإمكان أي وسيلة إعلامية تجاهل الأعداد المهولة من المستوطنين التي اقتحمت المسجد الأقصى المبارك خلال أيام عيد الفصح العبري هذا العام، حيث كان أحد أبرز الأخبار تسجيل أعداد المستوطنين المقتحمين في يوم واحد رقماً قياسياً جديداً بلغ حسب ما أعلنته بعض المواقع الإخبارية 2258 مستوطناً، متجاوزين بذلك رقم 2200 مقتحم الذي سجلوه فيما يسمى «ذكرى خراب المعبد» عام 2022م.

تطور خطير في أداء جماعات المعبد داخل المسجد الأقصى يُنذر بتغيير الواقع الديني فيه:

تصاعُد أعداد المقتحمين للمسجد الأقصى لم يكن حدثاً عابراً عادياً؛ لأنه لم يكن مسألة تتعلق بالأعداد فقط، بل ترافق هذا الحدث مع تغيير كبير في نوعية الاقتحامات التي تقوم بها جماعات المعبد المتطرفة، حيث أطلق وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير العنان لمستوطنيه لإقامة كافة طقوسهم الدينية في «الأقصى» علانية دون رقيب، ومنعَ شرطته من مجرد إزعاج هؤلاء المستوطنين خلال تأديتهم هذه الطقوس الدينية مهما كانت.

تطور خطير: 

ولم يكتف بن غفير بذلك، بل أرسل أحد أتباعه في حزب «القوة اليهودية»، عضو الكنيست تسفي سوكوت، ليكون أول عضو كنيست رسمي عامل يؤدي طقوس ما يسمى «السجود الملحمي»؛ أي الانبطاح الكامل على الأرض في المسجد الأقصى المبارك، وهذا الأمر يعتبر تطوراً نوعياً في مسار الأحداث بالنظر إلى أن جميع المسؤولين الذين قاموا بهذا الفعل في «الأقصى» كانوا مسؤولين سابقين، ولعل أبرزهم كان عضو الكنيست الأسبق موشيه فيجلين الذي أدى هذا الطقس بالمسجد الأقصى في أغسطس الماضي، حيث لم يكن في تلك اللحظة عضو في الكنيست، بعكس حالة سوكوت.

ترافق مع هذه الحملة الشعواء على «الأقصى» نشر فيديو في غاية الخطورة مع نهاية عيد الفصح، يظهر ما يشبه تفجيراً كاملاً للمسجد الأقصى، ويظهر من خلاله مجسم لـ«الهيكل الثالث» المزعوم ليحل مكان «الأقصى»، وتظهر فيه عبارة تقول: «السنة القادمة في القدس، المسيح الآن»، وذلك على أنغام ترنيمة من آية في التوراة تقول: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا إلهٌ واحد»، وهي آية من سفر التثنية (6: 4)، وتستعمل عادة في الطقوس الدينية والصلوات.

من هبّة باب الأسباط إلى معركة الاعتكاف.. محطات نضالية أجبرت الاحتلال على التراجع: 

هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها هذه الجماعات المتطرفة بنشر مثل هذه الرسائل الخطيرة، لكن ما يميز هذه المرة ترافقها مع تقدم غير مسبوق في إجراءات الاحتلال داخل المسجد الأقصى، ومحاولات محمومة لحسم مصير المسجد قبل إنهاء الحرب الغاشمة على قطاع غزة، فهذه الجماعات ترى في كل ما يجري فرصة ذهبية نادرة لتحقيق أحلامها المسيحانية داخل «الأقصى»، وتحاول الاستفادة ما أمكنها من صدمة الترويع التي نفذتها دولة الاحتلال في قطاع غزة عبر المجازر الوحشية غير المسبوقة في تاريخ الصراع، بحيث تُحقق في لحظات الشلل التي أصابت العالم العربي والإسلامي والمجتمع الفلسطيني خطوات سريعة للتقدم عملياً داخل «الأقصى» وتنفيذ رؤيتها الكاملة فيه.

لأجل ذلك، فإن هذه الأمور تضعنا أمام جملة من الحقائق:

أولها: أن ارتباط ما يجري في «الأقصى» بما يجري في قطاع غزة أمرٌ لا جدال فيه أبداً؛ وبالتالي، فإن سقوط غزة في هذه الحرب -لا سمح الله- سيعني بالضرورة الإجهاز على المسجد الأقصى والقضاء على الوجود الإسلامي فيه، عبر اقتطاع أجزاء منه لصالح جماعات المستوطنين، التي ستسعى بالتأكيد للاستفادة من حالة اليأس العام في محيط المنطقة وشعوبها في هذه الحالة؛ وبالتالي، فإن دعم صمود غزة اليوم هو من صميم دعم صمود «الأقصى» في وجه المستوطنين.

ثانيها: أن هذه الجماعات لن تتوقف عن مساعيها مهما كان الأمر حتى تقف عند أحد أمرين؛ تنفيذ رؤيتها بالكامل بالسيطرة التامة على «الأقصى»، أو إيقافها بالقوة عبر فعل شعبي ضخم يجبر حكومة الاحتلال على التراجع في مشروعها في «الأقصى» رغم أنفها، وهو ما حصل سابقاً بالفعل 5 مرات في السنوات العشر الماضية، حيث سبق للشعب الفلسطيني أن أجبر الاحتلال على التراجع رغماً عنه في عدة محطات بدءاً من هبّة القدس عام 2015، مروراً بهبة باب الأسباط عام 2017، وهبة باب الرحمة عام 2019، ومعركة «سيف القدس» عام 2021، ومعركة الاعتكاف عام 2022م.

التهويد بلغ نقطة اللاعودة.. الجماعات الصهيونية ترى بهذه المرحلة لحظة تاريخية لتحقيق الحلم المسيحاني: 

في كافة هذه المحطات اضطرت سلطات الاحتلال إلى التراجع والانكفاء وتأخير المشروع بضعة شهور، والوقت في الحقيقة هو في صالح الشعب الفلسطيني، فكلما تأخر مشروع الاحتلال في المنطقة قلّت فرص إمكانية تحقيقه، وهو ما نراهن عليه اليوم في النداءات المتكررة لتأخير المشروع الاحتلالي الإحلالي في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والداخل.

إن الواجب على الشعب الفلسطيني وجميع القوى المؤيدة له في هذه المعركة أن يعلموا أن الاحتلال لا ينتظر المبررات ليضرب ضربته في المسجد الأقصى، فمن يحمل مشروعاً لا يتوانى لحظة واحدة عن تنفيذه إلا لو وجد مصاعب حقيقية تحول دون تحقيق مشروعه، والواجب اليوم هو إيجاد هذه المصاعب أمام الاحتلال لِلَجمه وإيقافه، دون انتظار أن يتقدم هو بأي خطوة إضافية.

وقد أثبتت التجارب الأخيرة فشل المنطق الذي تنادي به بعض المؤسسات الرسمية العربية سواء في القدس أو غيرها، التي كانت تدعو الشعب الفلسطيني إلى عدم استفزاز المستوطنين والاحتلال وعدم إعطائه المبررات ليهاجم «الأقصى» ويتقدم فيه خطوات إضافية، فالاحتلال في الحقيقة بات يرى في هذه الدعوات طوق نجاة لمشروعه، ودافعاً له للمزيد من التحرك.

الاحتلال يُعد العدة لاقتحامات ضخمة في مايو وأغسطس وسط صمت عربي ودولي مشين

نحن الآن أمام أيام فارقة، وأمامنا أيام أشد صعوبة تنتظر المسجد الأقصى، فيوم 26 مايو 2025م سيشهد ما يسمى «يوم القدس» في أجندة الاحتلال، وهو اليوم الذي يشهد تصعيداً كبيراً في الاقتحامات، إضافة إلى ما بات يُعرف بـ«مسيرة الأعلام» حول أسوار القدس، وأما 3 أغسطس القادم فسيشهد ما يسمى «ذكرى خراب المعبد» الذي شهد عام 2022م إدخال رقم قياسي من المستوطنين إلى المسجد الأقصى حتى تم كسره هذه الأيام كما ذكرنا مسبقاً.

ولا ينبغي أن ننسى هنا ما كانت جماعات المعبد المتطرفة تَعِدُ وتهدد به في هذا اليوم بالذات عشية هبة باب الأسباط عام 2017م؛ عندما توعدت بإدخال 5 آلاف مستوطن دفعة واحدة في يوم واحد إلى «الأقصى» في «ذكرى خراب المعبد»؛ فالاحتلال في المسجد الأقصى قد كشّر عن أنيابه وبدأ تنفيذ مشروعه على الأرض، ودخل مع «الأقصى» وأهله مرحلة كسر عظم، فإما أن نكسر الاحتلال أو أن ينكسر «الأقصى»، وعلى كل من رفع يوماً شعار «بالروح بالدم نفديك يا أقصى» أن يعلم أن اليوم هو يوم الصدق، وهو يوم ينكشف الصادق من الكاذب بين كل من حمل هذا الشعار ونادى به وصرخ به على الملأ، والميدان مفتوح.

*******

نقلاً عن موقع مجلة المجتمع:

https://mugtama.com/articles/%D9%87%D9%84_%D8%A8%D8%AF%D8%A3%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9_%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B7%D8%B1%D8%A9_%D8%B9%D9%84_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B5_