20/8/2025
علي أبو هميلة
نقلاً عن موقع الجزيرة مباشر https://ajm.news/r5zigx

أن تجد بين يديك منتجًا ثقافيًّا، فكريًّا، علميًّا يخرج من أسوار السجن، فهذا يبدو طبيعيًّا مع كثرة دخول المبدعين إلى السجون عبر تاريخ طويل من القمع والاستبداد العربي، فكم من مؤلفات الأدباء والشعراء خرجت روايات ودواوين شعر، وكانت السجون الشهيرة في الوطن العربي تسمح بوجود أقلام وأوراق يكتب بها المفكر والمبدع، وتخرج هذه الأوراق إلى الخارج ليصدر إبداع من السجون، وكان هناك أيضًا من السجناء من يحصل على إجازات جامعية، ورسائل للماجستير والدكتوراه من داخل السجون، بل بين يديّ الآن أكثر من خمس روايات، ودواوين شعر، وكتب بحثية خرجت من سجون الاحتلال الصهيوني مع خروج الأسرى الفلسطينيين من المعتقلات وسجون الصهاينة في صفقات بعد طوفان الأقصى، وقد خرج ما يقارب 17 ألفًا منهم.
لم يكن سهلًا في ظل الاحتلال الصهيوني وتعامله مع الأسرى من أهل فلسطين خروج منتج إبداعي، ولكن للشعراء والمبدعين وسائل حفظ سواء عن طريق الترديد للقصائد، أو البقاء على الرواية ذهنيًّا وتهريبها فصولًا تلو فصول من داخل الاعتقال، أما أن يخرج بحث علمي وفكري وديني يعتمد على التدقيق فهذا كان الشيء الأصعب، خاصة إذا كان هذا الكتاب والبحث هو إضافة كبيرة بل أظنها معجزة للكتاب الأقدس للإنسانية (القرآن الكريم). ولكم أن تتخيلوا كم يعادي الصهاينة هذا الكتاب، وأن يكون أساس هذا البحث هو التدقيق في كل كتب تفاسير القرآن، ومقارنتها بعضها ببعض، والتدقيق في الحروف والكلمات والمعاني، وتكرارها، وإخراج المتشابهات ووضعها في سياقات متعددة، لتخرج في النهاية في مصحف جامع شامل استغرق الوصول إلى شكله النهائي عشر سنوات هي سنوات اعتقال باحثِه ومنتِجه المهندس رمضان عيد مشاهرة الأسير المحرر بإحدى صفقات تبادل الأسرى الناتجة عن طوفان الأقصى، فهذا عمل في تصوري إعجازي، سواء في جهده، أو مكان إنتاجه، أو طرق خروج هذا المنتج.
خرج مصحف الحفاظ من سجون الاحتلال الصهيوني، عبر وريقات وكتيبات مهربة، وكم من المرات كان من الممكن أن يتم الإمساك به، ولكن معجزة حفظ المصحف الشريف والقرآن الربانية كانت حافظة، فبينما تخرج صناديق كتب ليتم تبادلها بكتب أخرى يفتش السجان الصندوق الممتلئ بكتب عادية ثم يغفل عن الصندوق الموجود فيه بحث مصحف الحفاظ كما يحكي الأسير بنفسه في حفل تدشين مصحف الحفاظ في معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي في دورته العاشرة، وهو الحفل الذي شهد توزيع المصحف مجانًا على كل الحضور، وكما أعلن باحثه ومدققه مشاهرة فقد آلى على نفسه ألّا يربح من منتجه قرشًا واحدًا، فقد وهبه للمولى جلّ وعلا.
كان لا بد لي من الحصول على نسخة من هذا الإعجاز الفكري والبحثي بعدما استمعت لشرح مؤلفه، وهو بالمناسبة مهندس من أبناء القدس ومن المرابطين فيها. والملاحظة الأولى كم استفاد من دراسته الهندسة في هندسة المنتج الذي لا أستطيع وصفه، ولا وصف مشاعري اتجاه منتجه الأسير الفلسطيني، وتساءلت طوال وجودي في الحفل عن كُنه هؤلاء الأسرى وهذا الشعب الفلسطيني: كيف يستطيعون العمل والإنتاج في ظل ما يعانون؟ والواقع أن رجال فلسطين وخاصة في غزة ليسوا أبناء العصر، ولا نتاجه، بل هم جماعة تسللت إلينا من القرن السادس الميلادي والأول الهجري ليقدموا لنا نماذج الصحابة والأولياء. هؤلاء الأطفال، والشباب، والرجال والنساء لا ينتمون لنا قولًا واحدًا، وفي هذا لا نتوقف عند مشهد أو موقف واحد فقط، بل كل الحياة على أرض غزة الصابرة الصامدة المنتصرة بإذن الله.
عنوان المصحف «مصحف الحفاظ في ضبط وتوجيه فواصل الآي ومتشابه الألفاظ» برواية حفص عن عاصم بالرسم العثماني، وقد استطاع المهندس رمضان مشاهرة تقديمه بلوحات فنية مبهرة استخدم فيها خبراته الهندسية ليسهل على الحافظ أيًّا كان مستوى حفظه التعامل مع حجم المعلومات والبحث المعجز حرفيًّا، لدرجة أنني تمنيت أن أحصل على الآلاف من النسخ وأدور في شوارع الأمة أهديها لكل من أقابله، ساعات غير قليلة وأنا أتأمل هذا المنتج ألوانه ودرجاتها واستخدامها في التعبير عن ضبط ما، المرادفات، المجاز، الفواصل ولماذا هنا، التتالي، الاسترسال في المعنى، هو كتاب ومنتج يحتاج إلى أيام وشهور للاطلاع والاستفادة، وبالطبع عندما بدأت تصفح المصحف كان واجبًا أن يكون بجواري المصحف الشريف بكتابته المعتادة لدينا، ونسخة من تفسير القرآن، وكان نصيبي من المعرض نسخة من كتاب «المفيد في تفسير القرآن»، وبهذه الثلاثية بدأت التعامل مع مصحف الحفاظ لمشاهرة.
هذا الجهد المعجز يحتاج إلى صبر وصمود غير تقليدي لإنجازه، فما بالك أنه كان يتم داخل سجون محتل مغتصب للأرض، وما بالك إذا لم تكن تتوفر له إمكانات: أوراق، أقلام، طعام أو شراب؟ لا بد أن تتساءل عن مدى قوة وعزيمة هؤلاء الأسرى، وهؤلاء الرجال. إن باحثًا عاديًّا يحتاج إلى الكثير ليقدم لأمته مثل منتج رمضان عيد مشاهرة، وقد حكى أسير آخر في ندوة عن فلسطين الصمود والهوية، إحدى ندوات المعرض، ما يعانيه الأسرى في الحياة داخل السجون، فما بالك بمن يقوم بهذا العمل المعجز (بلا أدنى مجاملة أو مبالغة).
هذه السيدة زوجته التي تحملت غيابه طوال السنوات في تعليم وتربية بناته، كيف كانت تتعامل مع قصاصات الورق وتجميعها من زيارات السجن، كيف كانت تستقبل الكتيبات والأوراق التي ظهر عليها بقايا أطعمة ومشروبات وتخرج في رحلة شبيهة برحلات الهروب السينمائية، ثم هاتان البنتان اللتان تعلمتا الصبر والصمود من الأب والأم ولم تدخرا جهدًا في المساعدة لتقوما مع أمهما بعمل كبير ووالدهما في الاعتقال لينشرن منتج الأسير ويؤسسن ثلاثتهن دارًا تُسمى «دار الحفاظ»، عشر سنوات من الإلهام والصمود والصبر.
نواف التكروري رئيس هيئة علماء فلسطين يقدم المصحف قائلًا: «مصحف الحفاظ إضافة نوعية في الإعانة على التعامل مع كتاب الله تعالى فهمًا وتدبرًا وحفظًا وتثبيتًا، فهو يقدم آليات علمية تسهِّل ونهجية تُيسِّر». وهناك عشرات العلماء الكبار من أهل فلسطين من القدس وغزة قدموا لهذا المصحف المسبوك بإتقان والمكسو بالبهاء والجمال، ويقول مؤلفه الأسير المحرر رمضان مشاهرة: «لقد عملت في هذا المصحف المبارك أكثر من ثماني سنوات، مستعينًا بالله سبحانه وتعالى، والعشرات من أمهات الكتب والمجلدات والأبحاث، متحديًا كل الصعوبات. تعرض الآلاف من أوراقه للضياع والمصادرة، واستبداد السجان وتعصبه». هذا المصحف هو معجزة خرجت من سجون الاحتلال الصهيوني، وهو التعبير الأكمل عن هذا الشعب المعجز المنتصر بإذن الله، الشعب الفلسطيني.