أ. د. عبد الجبار سعيد
يعد الشباب القاعدة الصلبة لأي عمل إصلاحي أو تغييري تسعى لتحقيقه أية حركة أو جماعة في أي مجتمع من المجتمعات. ووجود الشباب في أية حركة أو جماعة أو مجتمع هو عنوان حيوية ومستقبل، فكلما قلت نسبة الشباب لصالح الشيوخ وكبار السنّ والحكماء والخبراء، وكل المسميات التي يحاول البعض أن يطلقها على من تقدم بهم العمر، لتبرير بقائهم في السلطة ومواقع القرار-وأنا هنا لا أنفي أن لدى بعضهم حكمة وخبرة متميزة. ولكنني أصف الحال لا أكثر-كلما قلت نسبة الشباب لصالح تلك الفئات، كان هذا عنوان شيخوخة وهرم، ومستقبل ضبابي مجهول.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشباب عماد حركته في مكة، واستعان بهم في مراحل دعوته ودولته كافة، بل إنه نزل على رأي الشباب-وكان رأي الأكثرية-في غزوة أحد، وخرج لملاقاة عدوه، رغم أن رأيه كان خلاف ذلك، وحتى لا يظنّنّ ظانٌّ أن هذه المشورة، كانت سبب الهزيمة؛ نزلت الآيات التي عقّبت على غزوة أحد، بتأكيد أهمية الشورى، والأمر بالتزامها. والكل يعلم تولية النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-ومن بعده أبو بكر الذي أنفذ بعث أسامة لفتح الشام. والمهام الشبابيّة من هذا القبيل كثيرة في السيرة لا يتسع المقام لحصرها.
شهدت الحركات الإسلامية في السنوات الأخيرة انتكاسات، لا أراها إلا ثمرة لسنواتٍ من تراكم الخلل، وعدم المراجعة والتغيير والتطوير.
وأكثر القيادات الإسلامية تستشهد بهذه الروايات وغيرها، وهم يتغنّون باهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب، وما أكثر من يتغنّون بها لكن على مستوى الشعار أكثر من كونه تمكين في الواقع. ولعلنا إذا راجعنا مستوى التطبيق في واقع الحركات الإسلامية، فإننا سنجد التّمكين للشباب، وتوليتهم مواقع القيادة والمسؤولية والقرار، لا يكاد يُرى، وإن تمَّ فعلى أضيق نطاق، بكل أسف ومرارة.
فأكثر الحركات الإسلامية مادتها وكوادرها من الشباب، ولكن أكثر قياداتها من كبار السّنّ. وأكثرهم لا ينتهي دوره، ولا يتوقف عن تولي المسؤولية أو يعزف عنها، إلا بالموت أو بمرض الموت. ومع إقراري بأن ذلك يتم أحياناً بشكل ديمقراطيّ انتخابي، إلا أن ذلك لا يجعله مبرراً، ولا صحيحاً، خاصة أن البعض يحاول أن يبرر لذلك فيضيف إليه دواء الخبرة الذي يمثل حلاً-حسب رأيه-لكل الإشكالات، ولا يملكه غيره، أمّا الحكمة فهي مستقرة في جوانح هؤلاء الكبار، ومن الصعب أن تغادرها إلى صدور الشباب وعقولهم، فضلاّ عن سابقة العمل والفضل، وغير ذلك من الذرائع والمبررات التي تساق لتبرير البقاء في السلطة.
أما الشباب-وبعضهم بالمناسبة يعد شاباً من باب المقارنة بهؤلاء الكبار، وإلا فأكثرهم في الثلاثينيات أو الأربعينيات-هؤلاء في نظر بعض هؤلاء الشيوخ: طائشون، عديمو أو قليلو الخبرة، متهوّرون لو تسلّموا زمام القيادة، ستدمّر الحركة وتدخل في الحائط، وسيوضع المشروع الإسلاميّ في مهب الرٍّيح، إذا تسلموا زمام القيادة، ولذلك فهم لا يصلحون إلا للمهام التنفيذيّة، والتي هي وقودٌ لاستمرار القائد الحكيم في قيادته، والنجاح فيها عنوانٌ ودليلٌ على نجاح القائد الحكيم المُلهَم، وداعٍ لاستمرار انتخابه. ولا يُلتفت إلى نجاح الشّاب الذي قام بالعمل وأنجزه على أكمل وجه.
والأصعب ممّا سبق أن نجد بعض الشّباب يبرر لهؤلاء الشيوخ فعلهم، ومواقفهم، ويُنَظِّر لعدم صلاحيّة الشباب للقيادة، وقلة خبرتهم. بينما يرضون بأن يبقوا وقوداً للمعركة، وحقلاً للتجربة. وقد شهدت الحركات الإسلامية في السنوات الأخيرة انتكاسات، لا أراها إلا ثمرة لسنواتٍ من تراكم الخلل، وعدم المراجعة والتغيير والتطوير، ولا أنفي هنا دور المؤامرة الخارجية في انتكاسة الحركات الإسلامية، ومن ثم المشروع الإسلامي، وقد أبرزت انتكاسة المشروع في سنوات الربيع العربي، أحد أهم عوامل تراجع هذا المشروع: المتمثلة في عدم التمكين للشّباب في مواقع القيادة والقرار، حيث وجدنا غياباّ واضحا للشباب عن مواقع القيادة، وإن لم يغيبوا عن شوارع المواجهات، وميادين الحرّية، بل كانوا هم الأكثر عدداً في قوائم الشهداء والمعتقلين والمصابين والمشرّدين من أوطانهم. وهذا ظاهرٌ في جميع دول الربيع العربي، والحركات الإسلامية فيها. فهم أكثر من دفع ثمن تراجع الربيع العربي، ومعه المشروع الإسلامي.
صحيح أن هناك عوامل خارجية ومؤامرات تسهم في تراجع المشروع الإسلامي، وتسعى لإفشاله، لكن العوامل والتحديات الداخلية ومنها ما نحن بصدده أخطر وأكبر.
ولعل قائلاً يتهمني بالمبالغة فيزعم أن ثمة قياداتٍ إسلامية تخلت عن السلطة طواعيةً وتركت المجال لغيرها، ولست أحتاج كثير عناء في الإجابة والتوضيح، فلسان الحال في الحركات الإسلامية يغني عن لسان المقال، فلا أجد من الواقع والتاريخ ما يجعلني أدخل في حالة من التردد أو التراجع، فعلى صعيد الإخوان في مصر وفي معظم الأقطار: لاستثناء في حالتنا هذه هو الأستاذ محمد مهدي عاكف فرّج الله عنه وعن إخوانه، الذي آثر ترك القيادة رغبة منه، ولو أراد أن يستمرّ لاستمرّ بحكم اللائحة وبحكم الأهلية للقيادة.
ولدينا في حماس نموذج آخر هو الأستاذ خالد مشعل أبو الوليد، وهو وإن كان يغادر الموقع بناء على كون اللائحة تحصره في دورتين، إلا أنه كان مبادراً بمحاولة التخلي عن الموقع، قبل أربع سنوات، وكانت لا تزال أمامه دورة كاملة، ومن قبله رئيس اللجنة التنفيذية السابق-رحمه الله-حيث ترك الموقع طواعية لما بلغ الستين، إذن هي نماذج معدودة محدودة، لا تكاد تجاوز أصابع اليد الواحدة.
على أنني أود التأكيد على أن هذه الظاهرة (التمترس القيادي للقيادات المسنّة، وإقصاء الشباب) تنتاب المشروع الإسلامي بكل أطيافه-من وجهة نظري-سواء في مصر أو تونس أو المغرب أو الأردن أو اليمن وغيرها، وفي الإخوان والنهضة والعدالة والتنمية والسلفيين وغيرهم مما يصعب حصره في هذا المقام. كما أزعم أن أحد أهم الأسباب التي تقف وراء بعض الانشقاقات هنا وهناك، وخروج بعض الطاقات، هو عدم التمكين للشباب وعدم إعطائهم فرصة المشاركة في القرار وتحمل مسؤولية المرحلة.
صحيح أن هناك عوامل خارجية ومؤامرات تسهم في تراجع المشروع الإسلامي، وتسعى لإفشاله، لكن العوامل والتحديات الداخلية ومنها ما نحن بصدده أخطر وأكبر.
أدوات وآليات التمكين للشباب:
متابعة للمدونة السابقة حول تمكين الشباب، وفي ضوء ردود الأفعال والمراسلات فإننا نتوقف اليوم أمام بعض آليات تمكين الشباب، ولمزيد من إلقاء الضوء على هذه المراجعة، فإنه حري بالتوضيح أننا لا نتحدث عن تمكين الشباب لمجرد كونه شبابا من حيث العمر، وإنما نتحدث عن تمكين الشباب المؤهل، والذي يملك قدراً كافياً من المعرفة والخبرة، تؤهله للقيادة وتولي المسؤوليات. وفي حال عدم توافرها فإن الحل يتوجه نحو تدريب هؤلاء الشباب وتأهيلهم، لا إقصاؤهم وعزلهم بحجة عدم امتلاك الخبرة الكافية.
ومن الجدير ذكره والتنويه إليه في هذا المقام، أننا نتحدث عن تمكين الشباب بمنهجية راسخة قيادية راغبة في التغيير، وليس تمكيناً انتقائياً تجميلياً، وإنما جزء من خطة استراتيجية تجعل الشباب هم عماد العمل وقادته، وتعطيهم حق المشاركة في القرار، ومتابعته وتنفيذه، جنباً إلى جنب مع أصحاب الخبرة والحكمة والسابقة بالفضل. إذ ليس المطلوب عزل الحكماء وأصحاب الخبرة والسابقة وتجميد أدوارهم، وإنما عدم استئثارهم بالقيادة، بل تمكينهم للشباب، وتحول دورهم من القيادة المباشرة والتنفيذية، إلى الجوانب الاستشارية التي تحتاج إلى الحكمة والخبرة معاً.
أما عن آليات التمكين للشباب فمتعددة تحتاج على اعتماد لوائح وقوانين تنظم العمل وآليات اختيار القيادة، إضافة إلى التنظير الفكري ونشر الثقافة، ولعل من أهم الآليات والتشريعات وأكثرها فاعلية، تحديد فترة تولي المسؤولية-أياً كانت-بفترتين سواء كانت مدة الدورة أربع سنوات أو خمس، فالمسؤول مهما كان خارقاً، فلن يستطيع أن ينجز شيئاً هاماً لم يتمكن من إنجازه في ثماني أو عشر سنوات.
ولعل بعض الرافضين لهذه الفكرة يعترض علينا، بأن هذا لم يكن معروفاً في الدولة الإسلامية الراشدة ولا ورد فيه نص، وأن فكرة تحديد تولي المسؤولية هذه فكرة غربية وافدة، وببساطة نقول: لكنها لا تتعارض مع النظام الإسلامي، وفيها الكثير من المنفعة، والكلمة الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، وكل واحد من الخلفاء الراشدين تم اختياره بطريقة تختلف عن الآخرين، مما يؤكد وجود المرونة في آليات الاختيار والانتخاب للمسؤولية.
قد يكون ضرورياً أحيانا-أن نشرع الكوتات للشباب وغيرهم من الفئات التي نرى وجودها ضروريا في المجالس الشورية أو القيادة التنفيذية، والغاية من ذلك، أن نثبت للمترددين والمشككين في إمكانيات الشباب، أن لديهم من القدرة والكفاءة والفاعلية
أما الآلية الأخرى والتي لا تقل أهمية عن سابقتها: فهي تخفيض سن الناخبين والمرشحين لتولي مواقع المسؤولية، والتخفيض المطلوب هنا أن يصل عمر الناخب إلى ثمانية عشر عاماً أو أقل من ذلك، وحتى يؤتي هذا التعديل ثماره فلا بد من تخفيض عمر من يسمح له بتولي المسؤولية، ليدور حول الاثنين وعشرين عاماً وما حولها، إذ لا معنى لتخفيض عمر الناخبين ليصبح الشباب مجرد ناخبين، وعند سن الترشيح للمسؤولية نجعله فيمن يدور عمره حول الثلاثين زيادة قليلة أو نقصاً. وقد يقول قائل: ولم لا؟ أليس هذا سن مناسب للشباب؟ وأقول هذا حق قد يؤدي إلى باطل، فإذا أردنا أن نجعل الشاب ينتظر عشر سنوات، أو أكثر حتى يسمح له بالترشح للمسؤولية، فلكم أن تتصوروا حجم الإحباط الذي يتسرب إلى قلبه وعقله، وما قد يؤدي إليه هذا الإحباط من القضاء على قدرات الشباب وإبداعاتهم، بل ودفعهم إلى العزلة أو الخروج أو الانشقاق، بدلا من أن نستثمر هذا الربيع من العمر ونوظف قدراته وطاقاته على الوجه الأمثل.
ومن الغريب بهذه المناسبة، أن الذين يتغنون باهتمام النبي بالشباب يركزون دائما على كون عمر أسامة بن زيد ثمانية عشر عاما لما تولى قيادة جيش فتح الشام، وفي الجيش الكثير ممن هو أكبر منه سناً وقدراً وأكثر منه خبرة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن التنظير دائماً شيء، والممارسة شيء آخر بكل اسف خاصة إذا كان هذا التطبيق سيمسّ الكرسي أو الموقع الذي يتولاه صاحب الحكمة والخبرة.
أما مسألة الكوتات للشباب وتشريعها، سواء في المجالس الشورية أو التنفيذية، فأنا من حيث المبدأ لست معها ولا أحبها، وأحب أن يأتي الناس بخيار ديمقراطي شوري طبيعي، ولكنني لا أمانع في المراحل الانتقالية-بل قد يكون ضرورياً أحيانا-أن نشرع الكوتات للشباب وغيرهم من الفئات التي نرى وجودها ضروريا في المجالس الشورية أو القيادة التنفيذية، والغاية من ذلك، أن نثبت للمترددين والمشككين في إمكانيات الشباب، أن لديهم من القدرة والكفاءة والفاعلية ما يؤهلهم للمواقع القيادية المتقدمة، وأن وجودهم لن يشكل مأزقاً للحركة الإسلامية، ولن يوديَ بالجماعة إلى المجهول. ولا يخفى أن تغيير القناعات السائدة، وترسيخ قناعات أخرى يحتاج إلى وقت وتجربة ولا شك، مما يجعل فكرة الكوتات مقبولة كمرحلة انتقالية.
وما أود التأكيد عليه هنا أننا نتحدث عن تمكين الشباب من القيادة بكافة مستوياتها بدءً من الصف القيادي الأول إلى القيادات الوسطى وغيرها، سواء كانت قيادات شوريةً أو تنفيذيةً، سياسيةً أو دبلوماسية أو إعلاميةً أو تربويةً أو تنظيميةً أو إداريةً أو غير ذلك. طبعاً مع التأكيد على ضرورة التأهيل والتدريب اللازمين في هذه الأطر. على أنني أتحدث هنا عن التمكين للشباب من الرجال ومن النساء وفق ضوابط الشريعة ومقتضياتها. ولنا مراجعة لاحقة حول دور المرأة في المشروع الإسلامي.
نقلاً عن موقع الجزيرة: