20/11/2023
د. أسامة جمعة الأشقر
يبعث لي بعض الفضلاء كلاماً مكتوباً أو مصوراً لشخصيات منسوبة إلى العلم أو الثقافة أو الدعوة تعترض بشدّة على ما آلت إليه الأوضاع في طوفان الأقصى، وأنها مغامرة مجنونة أدّت إلى قتل منتشر وتدمير واسع، وأنّ هذه المقاومة أضرّت بفلسطين من حيث أرادت الخير لها، وأنها باتت عدوّاً للفلسطينيين بهذا السلوك الذي لا يوافق عليه الشرع، وما إلى ذلك.
ومن شأني قبل أن أناقش أحداً أن أبحث في سيرته، وأن أتفرّس في عقله ومنهجه بتكرار الاستماع له وقراءة ما يكتبه، فكان أكثر ما لحظتُه فيهم أنهم امتداد لتيارات معروفة تُتّهم بأنها موجّهة من أجهزة ما، ولا شك أن سلوكها المشهور المتصل يدفع إلى الظنّ بذلك، ووجدت كثيراً منها لا يعرف من التخصصات الأمنية والعسكرية والسياسية والاستراتيجية إلا المعطيات التي قرؤوها في كتب السياسة الشرعية القديمة التي نظّرت لزمانها وظروفها، ولم يطوّروا معارفهم في المسألة التي تحتاج إلى اختصاص ومداولة، فتقاصر فكرُهم ونظرُهم إلى حدّ قرّبهم من عتبة الجهالة، وصار كلامهم أشبه بالدعاية أو رفع الصوت لإثبات اتجاه المذهب عنده، ولا شكّ أن بعضهم يكون من أهل الفضل لكنّه ليس دارياً بدقائق المسألة ولا أصولها ولا فروعها التخصصية ولا معلوماتها المأخوذة من مصادرها وأهلها القائمين عليها إلا بمقدار ما يسمعه من وسائل الإعلام أو بلاغات بعض المقرّبين منه من غير أهل الاختصاص أو المعرفة الموثّقة.
وقد رأيت أن أناقشهم ببعض الاستفاضة، وغرضي من ذلك ليس أن أردعهم عن تجاوزاتهم وانحرافاتهم فأكثرهم ممن يلتصق بمذهبه بل أن أحصّن أهل الرشاد والنصرة من أباطيلهم ودعاواهم وتنظيراتهم السطحيّة ونرجسيتهم الفكريّة وتطرّفهم التي لا تهادن إلا أهل السلطة والنفوذ الذين يدعمونهم، ويوجّهونهم، ويموّلون حملتهم، ويوقّتونها.
وثمة منطلقات ينبغي أن نؤسس عليها مقالتنا هذه قبل أن نفنّد مقالتهم:
1. لا شكّ أولاً أن ما يقوم به المقاتلون في فلسطين هو جهاد شرعيّ، وأنهم يؤدون بذلك فرض الكفاية نيابة عن الأمة، أو فرض العين باعتبار تخاذل هذه الأمة وعدم وجود من يقوم بهذا الأمر سوى هذه الفئة المجاهدة.
2. وأظن أننا نتفق أن هذا العدو يقوم بالكبائر من المنكرات في حق الشعب الفلسطيني، وأكبرها القتل الحرام، فضلاً عن اغتصاب الحقوق ونهب الدور وخطف الناس وسلب حرياتهم والفساد في الأرض، وأنّ منكَرَهم هذا موجود ظاهرٌ، ولا حاجة للتجسس فيه، كما أنه معلوم بغير اجتهاد.
3. ومتفقون أيضاً أن هذا العدوّ كافرٌ، وأنّ الله لعن أمّتهم كما لعنتهم أنبياؤهم، وأخبرَنا ربُّنا بأوضح العبارات أنهم حرّفوا دينهم، وغيّروه، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
4. ودعونا نتفق أن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها، وأن العلم بالحكم واجب على المتصدرين للرأي والفتوى، وأن فهم السياسة والاستراتيجيات وقراءة الواقع واستشراف المستقبل بات علماً واختصاصاً له أهله وخبراؤه المحترفون، وأنّ أيّ دارس أو مثقف لا يسعه إبداء رأيه المعتبَر شرعاً وعقلاً إلا بعد مداولة هؤلاء الخبراء والمختصين ولاسيما القريبين من مصادر المعلومة فيه، وإلا كان رأيه هذا مجرد تحليل انطباعيٍّ، أو فلسفة شخصية، أو استحسانٍّ باردٍّ، أو أثرٍّ من آثار التوجيه الإعلامي الذي تضخّه بعض الدكاكين الرسمية ذات الغرض.
5. ودعونا نتفق أن الأمور الاجتهادية لا مانع في الاختلاف فيها، ولا إنكار في موارد الاجتهاد، ولا ينبغي تشديد النكير على المخالف، فكيف إذا كان القائم بالفعل عارفاً به ملمّا بأبعاده، دارساً لنتائجه وحاسباً لأفعاله المرتدّة ومستويات الارتداد في هذه الأفعال وخطط التعامل معها إجمالاً.
•
ثم نأتي على شبهات التنظير:
التنظير الأول: إن معركة طوفان الأقصى أرادت إزالة مفسدة فوقعت في مفسدة أكبر من المراد إزالتها.
والرد عليها سهل ظاهر، فهذه القاعدة إنما نستعملها بها من أجل إسقاط وجوب إنكار هذا المنكر في هذا الظرف، ولا تعني هذه القاعدة أن نقبل بهذا المنكر أو نحجم عن إنكاره أو نتوقف عن إبداع السبل لردعه، وهذا يعني أنها مسألة تقديرية اجتهادية يقدّرها المتخصصون في هذا المجال؛ وكنا نحتجّ لهذا النظر بعزيمة سيدنا أبي بكر الصديق لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، واجتمع إليه أصحاب النبيّ ، فقالوا: ردّ هؤلاء! تُوجِّه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة! فقال أبو بكر: والذي لا إله إلا هو لو جرَت الكلابُ بأرجلِ أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ما رددتُ جيشاً وجّهه رسول الله، ولا حللتُ لواءً عَقَده؛ فقد خالف أبو بكر كبار أصحاب رسول الله في هذه المسألة ولم يتوان عن إنفاذ بعْثِ رسول الله، ولم يستسلم لتقديراتهم المحذِّرة رغم وجاهتها.
كما أن هذه القواعد هي مناهج نظر عقلية لاستخراج الأحكام من النصوص، ووضعِها في سياقها العمليّ لضمان تطبيقها على أشْرَعِ صورة، وهي لا تَحْكم النصوصَ الظاهرة، ولا توجّهها، بل تعطيك إشارات مضيئة، تحاول إرشادك إلى النظر المستقيم المتوافق مع ظلالها.
ولعل المفسدةَ التي يجهرون بها هي إعمالُ اليهودِ القتلَ في أهل قطاع غزة وهذا الاستعلاءَ الفاحشَ بالتدمير؛ ولم يدرِ هؤلاء المعترضين أن طوفان الأقصى عملية استراتيجية بالمفهوم السياسي والعسكري، وهي ليست عملية تكتيكية ولا استعراضية، بل عملية محسوبة ومخطط لها بإحكام واحتراف ودراسة شاملة استغرقت سنوات من الإعداد والتجهيز والتقدير، كما أنّ لها مبرراتها ودوافعها الشرعية الكاملة، ولها أهدافها أيضا،ً ومبرراتها باختصار تتعلق بحماية المسجد الأقصى من الهدم والتهويد الكامل ولاسيما بعد تشكيل حكومة اليمين المتطرفة هذه وتسمية أعند المتطرفين في قيادتها، وتتعلق المبررات بتعطيل إجراءات تهويد القدس وطرد مئات الآلاف من أهلها عبر السياسات المنظّمة، ووقف مشاريع تهويد الأقصى والقدس وتحويل المسجد إلى هيكل يهودي للتعبّد وطردنا من مسجدنا، ووقف الاعتداءات الصهيونية على المدنيين والآمنين والتضييق عليهم وضمان حرياتهم ومعاشهم ورفع الظلم الشديد الواقع عليهم، ووقف برنامج التمكين الإسرائيلي الذي وصل إلى ذروته في ظل الانحطاط السياسي الذي تعاني منه أمتنا وإقليمنا؛ ومن أكبر أهداف هذه العملية الاستراتيجية إطلاق سراح جميع الأسرى والأسيرات في سجون العدوّ، وهم نحو ستة آلاف أسير، أكثرهم محكومون بالمؤبد المتعدّد؛ ومن مبرراتها الكبيرة أيضا فكّ الحصار الطويل الذي اقترب من عشرين عاما وهو يخنق قطاع غزة ويتحكم في سيادتها وفي طعامها وشرابها ووقودها وكهربائها ودوائها وحركة أهلها وحريتهم.
وثمة هدف عظيم آخر لعله يكون الأخطر في السياق الاستراتيجي، ويتعلق بهدم سمعة الجيش الإسرائيلي وإثبات إمكانية الانتصار عليه واختراق أشد حصونه الأمنية التي أنفق عليها المليارات، وإضعاف حاضنته الشعبية وتفكيكه من الداخل وإشاعة الانقسامات فيه، ووقف مشروعات التطبيع التي تسارع إليها بعض الأنظمة المؤثرة وتحوّلها إلى دول معادية للإسلام وقضاياه بسبب عبئ هذا الارتباط الحرام مع هذا الكيان، وأهداف أخرى كبيرة يمكن سردها في محل الحاجة والاختصاص.
وهناك ظرف عام ما زال قائما منذ بدء النكبة في دوافع هذه العملية الاستراتيجية يتعلق بطول سيطرة هذا الاحتلال على فلسطين، وعجزِ الأمة عن أداء دورها في تحرير هذه الأرض وإعادة أهلها إليها وطرد هؤلاء المحتلين، والانحطاط السياسي الذي وصلته الأمة في تعاملها مع هذا الاحتلال ودعمها للمشروعات الغربية المعادية المنحازة للكيان الإسرائيلي، وقد فشلت الثورات الكبيرة التي خاضها الشعب الفلسطيني من الخارج، وفشلت المواجهات المدنية ذات الأشكال شبه العسكرية، وفشلت جميع مشروعات التسوية السياسية، وفشلت جميع الخطط والأفكار التي تؤدي إلى تسوية شرعية يقبلها الشعب الفلسطيني؛ كما خاضت المقاومة الفلسطينية المعاصرة حروبا شرسة انتصرت في أكثرها، لكن الظرف السياسي المحبط لأمتنا حرم المقاومة من استثمارها سياسيّا،ً وبالتالي فقد احتاجت المقاومة إلى إبداع نمط
جديد يقلب الطاولة، ويفجّر أساليب عمل جديدة، ويخترق حالة الجمود الطويلة، ويحرّك محطة التحر ير للأمام، ويقدّمها أمام الجميع ليأخذ كل فريق ما يمكنه لإسنادها والمشاركة فيها؛ ولا يختلف اثنان أن عملية طوفان الأقصى هي فاصلة تاريخية عظيمة غيّرت البيئة الاستراتيجية للقضية الفلسطينية، ونقلتها إلى مستوى جديد يحتاج إلى معاملة جديدة مختلفة.
وهنا يجب التأكيد أن هذا العدوّ في عقيدته الاستراتيجية الدينية والعسكرية لا يريد فلسطينياً واحداً أو شخصا غير يهوديّ على الأرض التي اغتصبها، وبالتالي فإنه يعمل على المدى الاستراتيجي على تهجير الفلسطينيين بكل السبل المتاحة، وقد بدأ منذ نشأته بتكتيكات المجازر لتهجير ثلث شعبنا إلى خارج فلسطين، وما تزال سياساته قائمة لم تتغيّر، وبصعود اليمين المتطرف إلى سدّة السلطة في هذا الكيان فإن المجازر بحق شعبنا ستكون جاهزة للتنفيذ تحت أيّ سياق وأيّ مبرّر، وسيجدون تغطية دولية أمريكيّة وأوروبيّة تحميهم وتغطّي جرائمهم، وهذا يعني أن وجود الشعب الفلسطيني
يتناقض تماماً مع وجود هذا المجتمع اليهودي، وليس هناك سبيل بوجود أحدهما إلا بإلغاء الآخر؛ وعلى هذا فإن عملية طوفان الأقصى يجب أخذها في هذا السياق الاستراتيجي البعيد المدى، وأنّها عملية ملهمة لجهاد شعب فلسطين والشعوب التي تؤمن بحقه في حر يته واستقلاله.
وفي جميع الأحوال فإن حسابات المقاومة ذات طبيعة استراتيجية، وأهداف استراتيجية، وبما أنها كذلك فإن الأفعال المرتدة المتوقعة من الجانب العسكري الصهيوني ستكون كبيرة، ولا يمكن تفاديها، لكن يمكن التأثير فيها وإضعافها تدريجيا من خلال أنماط من الاستعدادات المقدور عليها، مثل أسر أعداد كبيرة من جنود العدو والمساومة بهم، وفتح الجبهات على العدو من ساحات مختلفة، وتكثيف الضربات الصاروخية وزيادة تأثيرها وتوسيع مداها وتعديد قطاعات المتضررين منها، وإطلاق أضخم حملة في الحرب النفسية والإعلامية لإظهار هذا الكيان على حقيقته الإجرامية الدمويّة… .
وجميعنا يعلم أن قرارات هذه المقاومة لا تصدر عن أشخاص، بل عن مؤسسات جماعية متخصصة بَلَغت حد الاحتراف، وأثبتت كفاءتها العالية وتطورها الإيجابي في كل معركة تخوضها، وبالتالي فإن التقديرات لا تخضع لأمزجة أشخاص أو انفعالاتهم، كما أن وراءها من يتابعها ويراقبها ويصحح مسارها ويُجري التعديلات وفق تقييمات دائمة لتحقيق أفضل نتيجة ممكنة.
وبحسب التقديرات فإن هذه الاستعدادات تضمن واحداً من أربعة مستويات من الاستجابة المضادة والمآلات المتوقّعة:
1. تحقيق كامل الأهداف الموضوعة وإزالة العدوان وإعلان الانتصار في هذه المعركة واعتبارها محطة في حروب التحرير، وهو ما يُعرَف بمآل زوال المنكر وإخلاف ضده مكانه.
2. تحقيق بعض الأهداف وإزالة بعض صور العدوان، وإعلان الانتصار الجزئيّ، والانتقال إلى المرحلة التالية، وهو ما يعرف بمآل تقليل المنكر وتحجيمه مع عدم القدرة على إزالته بالجملة.
3. الوصول إلى حالة من توازن الردع بما يؤدي إلى التقليل من أعمال الاحتلال التي اعتادها، واستمرارِ الإعداد لمعارك أخرى، وهو ما يعرف بمآل التساوي بزوال منكر وحلول منكر آخر مكانه.
4. وأما الصورة الرابعة المتعلقة بعدم زوال المنكر وحلول منكر أشد منه فهذا غير قائم نتيجةَ المبادأة الاستراتيجية الهائلة التي حققتها أعمال يوم 7 أكتوبر على الصعيد الاستراتيجي مع الاعتراف بجسامة الخسائر التي تسبب بها هذا العدوّ ولزِم منا العمل على تخفيف آثارها بجهد جماعيّ يجب أن تكون الأمة معنا فيه.
التنظير الثاني: عدم استطاعة المقاومة أن تزيل هذا المنكر
ويتجه هذا التنظير للادّعاء بأن هذه المقاومة ما دامت غير مستطيعة، وإمكاناتها أقلّ بكثير من إمكانات عدوّها وقدراته فقد كان الأولَى بها أن تجتنب التغيير باليد، وأن تعدل عنه إلى لسان الإعلام، وإنكار القلب فهذا كافٍّ في أداء واجب الإنكار في هذا الظرف.
ويفوت هؤلاء أن المقاومة التزمت بالأمر الإلهي في هذا الباب {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، وقد التزمت به من جهتين: توفير الحد الأدنى الممكن من القوة المستطاعة، وقد برعت به، وأثبتت
فاعليته، وجرّبته؛ وأما الزاوية الثانية فهي توفير فائق القوة المستطاعة، فإن المقاومة بظروفها المعروفة وخذلان الأمة لها إلا من بعض الدعم الشعبيّ قد قدّمت أرفع نموذج في الإعداد والتصنيع والتدريب والخبرة، وأثبتت فاعليتها الهائلة في المبادآت
الاستراتيجية وفي حروب العصابات، وفي حروب السايبر، وأثبتت تفوقها الاستخباري حين عجز العدو وأجهزة الاستخبارات الكبيرة في توقع الهجوم الكبير أو مواجهته رغم الكفاءة التقنية العالية التي تتمتع بها سمعة الاحتلال في هذا الجانب. وقد كشفت تجارب الحروب ولاسيما الحرب الأخيرة أن هذا الاحتلال ليست لديه كفاءة قتالية ميدانية، وإنما يعتمد على أسلحته الثقيلة ذات الطبيعة التدميرية وسمعة الردع الاستراتيجيّ لديه؛ وأنّ النمط الذي اختارته المقاومة في إدارة الصراع العسكري مع العدو هو النمط الأقل كلفة والأكثر كفاءة والأقرب اختصارا للحرب، وهو أحد أنماط حرب العصابات الذي يأخذ أشكالاً من الحرب الهجينة لاستنزاف العدوّ وإرباكه وتفكيك قوته.
وتعلم المقاومة أن أسلوب الصدمة في الأفعال المرتدّة للعدو هو أحد ثوابت التكتيك العسكري الإسرائيلي بغرض رفع كلفة الحرب عليه وإدخال المدنيين في حسابات المعركة بكثرة القتل والتدمير، والضغط على المقاومة بالدم المدنيّ ليتوقفوا عن تصعيد عملياتهم؛ وبات واضحا أن العدو كلما اقترب هزيمته زادت شراسته، ولا يمكنك أن تفعل الكثير أمام عدوّ شديد الإجرام متعطّش للدماء سوى أن توجعه أكثر، وتواصل الضغط عليه بكل قوة، وتحاصره بخسائره، وإلا فإن قتله سيتواصل.
ولا يفوتنا أن هذا الكيان أصبح دولة لها مصالحها المدنية الكثيرة ولها اقتصادها الذي يعتمد على الأمن والاستقرار وأن هذه العمليات التي تقوم بها المقاومة تبعد الاستثمارات الاستراتيجية عنه وتخيف رؤوس الأموال المحلية والخارجية وتجعله
أضعف وتصرف عنه السياحة والتجارة البينية.
ولو سردنا الأضرار الكبيرة التي تنشأ عن مثل هذه العمليات النوعية للمقاومة لاحتجنا إلى تدوين مجالات كثيرة متفرعة. وكان واضحا لدى المقاومة أنه لا يجوز لهذا الاحتلال أن يتمتع بأي ساعة راحة، وأن يجعل الإقامة في هذا الكيان مكلفة جداً، وأن تكون البيئة طاردة لانعدام الأمن فيها.
ولدينا في تشريعاتنا وتعاليم ديننا الكثير من أدلة الصبر والمصابرة والثبات التي نتصبّر بها ونتقرّب أكثر من ربنا، ونعلم حقّا أنّ الصبر لا يعني انتظارَ أمرٍّ حَسنٍّ يغيّر حالَك إلى حال أفضل بعد مدة من الزمن؛ فالصبرُ باختصار هو الثبات، ويكون بحبسِ النفس عن الجَزع، وامتصاصِ الصدمة بأقل مظاهر التأثر كالدموع، ورفعِ قدرة التحمّل لديك إلى مستوى يفوق قدرتك المعتادة، وإصرارِك على مواصلة حياتك ودورك وجهادك دون تغيير وجهتك رغم ما يحيط بك من ظروف صعبة.
وتفهم المقاومة جيداً أن المزاج الشعبي الفلسطيني كله معها، وأن مستوى الكرامة لدى هذا الشعب تتعالى على خلافاته السياسية وتنحاز إلى المقاومة بإجماع، ولا يخالف أحد في وجود حاضنة شعبية شديدة التأييد للمقاومة في أشد مناطق الحرب.
ختاما:ً
ينبغي لهذا الذي يتصدّر للإنكار على طوفان الأقصى وجهاد شعب فلسطين أن يفهم أن اعتراضه في هذا الزمان يشبه فعل المنافقين، وأنه من المرجفين الخاذلين، وأخشى أن يكون على شعبة من النفاق، وتكون مقالته مثل مقالة المنافق عبد الله بن أبيّ ابن سلول لمّا غزا رسول الله تبوك مع جيش العسرة لملاقاة الروم: يغزو محمدٌ بني الأصفر مع جَهدِ الحال والحرّ والبلدِ البعيد إلى ما لا قِبَلَ له به، يحسَب محمدٌ أن قتال بني الأصفر اللعب، ولكأنّي أنظر إلى أصحابه غداً مُقرّنين في الحبال !
فهذه العملية الاستراتيجية ليست لعبة، ولم يدخل بها هؤلاء إلا لكي يكسروا القيد، ويتقدموا بقفزة كبيرة على خط التحرير الكامل إن شاء الله.
وإذا كان ثمة حلول يستطيع هؤلاء أن يدفعوا بها إلينا غير ما قدّمته هذه المقاومة فليفعلوا، ولكن لا تطلبوا منا أن ننتظر وقتا أفضل، يمكن أن يأتي أو لا يأتي، يصنعه آخرون فنتسلل من خلاله وننتظر سبعين سنة أخرى.
ثم نذكّر هؤلاء أن الواجب على الجميع أن يدعم هذا الجهاد بكل ما يستطيع، وأنه إن تأخّر في ذلك فأحسب أن الله تعالى لا يكون راضيا عن خذلانه لإخوانه وعدم نفرته معهم؛ والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا به
