22/9/2025

د. عمر الجيوسي / كاتب وإعلامي فلسطيني

كشفت تصريحات وزراء في حكومة الاحتلال نيةً صريحة لاقتلاع سكان غزة وفتح الباب أمام تهجيرهم الجماعي. ففي 21 كانون الثاني/يناير 2025 دعا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى «تشجيع الهجرة الجماعية من غزة»، مؤكّدًا أنّ من يرفض العيش تحت حكم (إسرائيل) «يمكنه أن يغادر إلى دول أخرى».

ثم في 6 أيار/مايو 2025 هدّد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأن «غزة ستُدمَّر تمامًا في غضون أشهر»، مشددًا أنّ «لا أمن مع بقاء أكثر من مليوني عربي هناك».

ولم يبتعد وزير الطاقة إيلي كوهين عن هذا الخط، إذ صرّح في 12 أيار/مايو 2025 بأن «خطة طرد الفلسطينيين من غزة ما زالت مطروحة على الطاولة» وأنّ مقترح «الهجرة الطوعية» الذي طرحه ترامب «يجري متابعته». هذه التصريحات ليست مجرد كلمات، بل تُترجم إلى قصف وتدمير يطرد الناس من بيوتهم مرة بعد أخرى؛ فها هي (إسرائيل) تُحوّل قطاع غزة إلى مسرح مفتوح لسياسة التهجير القسري.

يذكر تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA) الصادر بتاريخ 13 سبتمبر 2025 أن عدد النازحين داخل قطاع غزة خلال الفترة من 31 أغسطس إلى 13 سبتمبر 2025 قد بلغ 70,000 نازح من شمال غزة نحو الجنوب، بما في ذلك مدينة غزة نفسها.

يقول السيناريو الذي طرحه رئيس الوزراء المصري د. مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي في 16 سبتمبر الحالي:

“ماذا لو حصل ضغط على المواطنين الفلسطينيين ودُفعوا إلى الحدود، بالتأكيد الدولة المصرية لديها الخطط للتعامل مع هذا الأمر. أؤكد لكم أنه بالفعل هناك خطط واضحة عملت وتعمل عليها الدولة المصرية خلال هذه الفترة لمواجهة ومجابهة كل هذه الإجراءات، الشيء المهم جدا أن نستطيع تدبير أي احتياجات إنسانية لأشقائنا الفلسطينيين، وهناك خطط طوارئ موضوعة من كل الوزارات”.

لاستقصاء أكثر من رأي لهول الفاجعة التي تستوعب كل التخصصات البشرية  أجريت عدة اتصالات مع مجموعة من النواب والباحثين والخبراء القانونيين والمحللين السياسيين من الأردن ومصر وتركيا وغزة .

النائب السابق في البرلمان المصري د. عادل راشد التصريح المخيف لرئيس الوزراء المصري فقال : “تم التمهيد للتهجير بضغط نفسي وميداني شديد على غزة، ليصبح مقبولًا مقارنة بالإبادة، وقد أشار السيسي إلى صحراء النقب كمكان بديل ضمن صفقة القرن. ومع المناورات السياسية سيُقدَّم التهجير كأنه “رحمة”، وتخرج نفس الجماهير والأقلام ووسائل الإعلام التي رفضته من قبل لتمجّد قبوله. وهكذا يُراد إظهار التهجير على أنه خيار إنساني يُجنّب الناس الإبادة بينما هو جزء من مخطط مُعدّ مسبقًا”.

الخبير في القانون الدولي د. أنيس قاسم: “(إسرائيل) قال : ” منذ اليوم الأول اعتمدت مبدأ الإبادة الجماعية وقررت استخدام هذه الأداة بلا تردد أو تراجع، وهذا ينطبق عليه الفقرة الثالثة من المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية التي قالت (إن خلق ظروف تؤدي إلى تدمير المجموعة السكانية تدميراً كلياً أو جزئياً هو أيضاً إبادة). وبالتالي هذا نص ينطبق تماماً على ما يجري الآن في غزة الملاحقة القانونية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية”.

أما واقع النزوح والتهجير الحاصل داخل قطاع غزة، فيوثق تقرير هيومن رايتس ووتش (18 يناير/كانون الثاني 2024) أن ما يقارب 1.9 مليون فلسطيني – أكثر من 90% من سكان غزة – تعرّضوا للنزوح الداخلي مرة واحدة على الأقل بسبب أوامر الإخلاء والقصف العنيف. وتستخدم (إسرائيل) وسائل قذرة لصناعة النزوح: القصف العشوائي، تدمير شامل للمستشفيات والمدارس، قطع المياه والكهرباء، ومنع المساعدات والتجويع. كل ذلك لكسر إرادة المدنيين ودفعهم للرحيل.

وتعلن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووكالة الأونروا في بيان 7 مايو/أيار 2024 أن “مئات الآلاف من سكان رفح قد أُجبروا على مغادرة منازلهم”، مشيرة إلى أن نحو 450 ألف شخص نزحوا خلال أسبوع واحد فقط. ويؤكد البيان أن أوامر الإخلاء العسكرية والقصف العنيف هما السبب المباشر للنزوح. ويتسخدم الكيان الصهيوني الجانب الإغاثي بأبشع صورة للمساهمة في إنجاح التهجير.

قال الباحث الأكاديمي والناشط في العمل الإنساني د. عثمان الصمادي: “المشهد الإغاثي على قلته يظهر من خلال مؤسس غزة الإنسانية التي تنشط فقط جنوب الوادي، كذلك رحيل عدد كبير من المنظمات الدولية من الشمال باتجاه الجنوب. ومنع المساعدات الطبية الأردنية والخيام منذ سبعة أشهر من الدخول، كذلك المؤسسة الإماراتية فتحت مستشفاها الميداني في رفح الخالية من السكان ما يدفع الناس للهجرة خصوصًا لارتباطهم الشديد بالمستشفيات والمراكز الصحية. كذلك قام جيش الاحتلال بفتح شارع الرشيد وتدمير كل ما سواه لدفع الناس باتجاه الجنوب. وكذلك محاولة تنفيذ فكرة “مدينة غزة الإنسانية” في رفح التي طرحها ترامب. وكل ذلك لجلب الناس إلى الجنوب وإفراغ الشمال”.

وتعتمد (إسرائيل) وسائل إجرامية عديدة لصناعة النزوح والتهجير، تبدأ بالقصف الكثيف للمناطق المكتظة، مرورًا بقطع الكهرباء والمياه، وصولًا إلى استخدام المساعدات كأداة ضغط. وتصف منظمات إنسانية هذه السياسة بأنها “هندسة تجويع” تهدف إلى كسر إرادة السكان.

التهجير كأداة حرب: الأساليب الإسرائيلية في خلق النزوح

يقول المحلل السياسي أحمد الحيلة: “(إسرائيل) تستخدم القصف المكثّف وقطع الخدمات و”هندسة التجويع” كأدوات لفرض التهجير الجماعي على سكان غزة، بهدف دفعهم نحو مصر. لكن الفلسطينيين يواجهون ذلك بصمود استثنائي وتمسّك بالأرض، رغم القتل والدمار، متنقّلين بين الأحياء بدل النزوح جنوبًا. الموقف المصري والعربي والدولي الرافض للتهجير، مع تنامي عزلة (إسرائيل) السياسية والاقتصادية، يضعف فرص نجاح هذه المخططات. كما أن استمرار المقاومة بتحويل المعركة إلى حرب استنزاف يضاعف خسائر الاحتلال البشرية والاقتصادية، ويجعل مشروع التهجير أكثر فشلًا. ومع رفض مصر والأردن استقبال المهجرين، يبقى الرهان على صمود الناس ورفض الإقليم لإفشال مشروع التهجير. لكن شهادات النازحين أنفسهم تبقى الدليل الأبلغ على حجم الجريمة المستمرة”.

وصرّح المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة ـ حتى بتاريخ 17 سبتمبر 2025 ـ أن “أكثر من مليون فلسطيني يواصلون الصمود في غزة وشمالها رافضين النزوح القسري جنوبًا، مقابل نزوح نحو 190 ألفًا آخرين تحت وطأة مخططات إسرائيل للتهجير الدائم.”

ويعلق الكاتب المختص بشؤون غزة د. علي أبو رزق عن المطلوب لتغيير واقع التهجير: “مثل هذه حرب مجنونة لا يمكن وقفها إلا بضغط سياسي وشعبي حقيقي ومتزامن، ضغط واحتجاجات تؤثر على عمل السفارات الغربية الداعمة للإبادة وتشّل اقتصادات الدول. نحن أمام تصريح لنتنياهو أمس، وهو لأول مرة منذ عامين، أن بلاده بدأت تشعر بعزلة اقتصادية حقيقية. نعم، ستتوقف الإبادة إذا شعر نتنياهو وحليفه بعزلة سياسية واقتصادية حقيقية، يعني أن يفعل الساسة. غزة اليوم تُباد علنًا، والتهجير القسري يتدحرج جيلاً بعد جيل، فيما يكتفي العالم بالفرجة. الإنقاذ الحقيقي يبدأ بفرض وقف العدوان وفك الحصار وفتح المعابر فورًا، لا بمساعدات مشروطة تُستخدم أداة للتركيع. على الشعوب أن تُحوِّل غضبها إلى ضغطٍ سياسي وقانوني وميداني يجبر حكوماتها على الموقف. التاريخ لن يرحم، وأهل غزة لن يغفروا لمن صمت أو تواطأ”.

النائب في البرلمان الأردني ينال فريحات يرى أن الرفض الرسمي والشعبي غير كاف ووجّه رسالته للداخل الأردني قائلا :” في ظل رفض المملكة الأردنية الهاشمية وفي ظل رفض أهل غزة لتهجير الفلسطينيين فقال: “في ظل القصف العنيف ومساعي التهجير في غزة، لا بد من إجراءات أردنية حازمة لردع الاحتلال، تبدأ بتقوية الجبهة الداخلية وتوحيد الصفوف الشعبية استعداداً للتضحية والصمود. المطلوب كذلك تعزيز قدرات الجيش وتنويع مصادر السلاح، وبناء اقتصاد مستقل يتيح إلغاء اتفاقيات الطاقة والمياه مع الكيان. أما خارجياً، فيبرز الدور الأردني بكسر الحصار عن غزة، وتفعيل الوصاية على المقدسات، ودعم صمود الضفة، وحشد موقف عربي ودولي رافض لمخططات التهجير”.

توجهت بالسؤال للخبير في القانون الدولي الدكتور أنيس القاسم عن آليات العمل  المطلوبة من النخب القانونية والسياسية الدولية فقال : ” المطلوب من النخب القانونية والسياسية في مختلف دول العالم أن تحمل قياداتها السياسية والحكومات على أن تبدأ حملة لمقاطعة (إسرائيل) إلى أن تمتثل. نحن نريد إجراءات تلجم (إسرائيل) وتقطع يدها عن هذه الإبادة، وبإمكاننا أن نقول أيضا أن الدول العربية ملزمة باتخاذ إجراءات مناسبة لقطع العلاقات مع (إسرائيل) ومحاصرتها، إلا أننا ندرك أن الدول العربية وهذا ظاهر في الاجتماع الأخير للقمة العربية الإسلامية أن 57 دولة عربية وإسلامية عاجزة عن تقديم حفنة ماء لأهلنا في غزة مما يدل على أن هذه الدول أصبحت مرتهنة للاستعمار الأمريكي”.

خاتمة : كي لا تدفع غزة  الدفعة الأخيرة من حسابنا

غزة تصمد وسط قصف ممنهج وتهجير قسري، والفرصة الآن لكل الشعوب العربية والدولية لتحويل الغضب إلى ضغط سياسي وقانوني يفرض وقف العدوان ويفك الحصار فورًا.

المساعدات الإنسانية وحدها لم تنجح، بل تحوّلت أداة ضغط؛ المطلوب تنسيق فوري لتأمين الغذاء والماء والأدوية، وإعادة تشغيل المستشفيات، وحماية المدنيين من الإجلاء القسري.

التقصير السياسي والاقتصادي العربي والدولي ترك الأرض خاوية من الدعم الفعّال، وحان الوقت لتحمّل المسؤولية عبر مقاطعة الاحتلال وفرض عزلة حقيقية عليه.

صمود الفلسطينيين وحده لا يكفي، فالخطوة التالية تبدأ بتفعيل تحركات عملية وشاملة، تضغط على العالم لتأمين حقوقهم وحماية حياتهم وأرضهم، قبل أن يتحول التهجير إلى إبادة مكتملة.

******************************  

نقلاً عن موقع:

https://qudspress.com/218923