27/3/2025

د. عبد الله معروف

خبرٌ كان ينبغي أن يُفرَدَ له مساحةُ مهمة من التحليل والدراسة لكنه مرّ بسرعة في خضم الأحداث المتسارعة التي تمر بمنطقتنا هذه الأيام، حيث نشرت بعض وسائل الإعلام التابعة لتيار الصهيونية الدينية صورة رسالة أرسلها عدد من الوزراء وأعضاء الكنيست «الإسرائيلي» المتطرفين الحاليين والسابقين، والناشطين فيما يسمى «جماعات المعبد» المتطرفة، إلى عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي وخاصة الجمهوريين، خصصوها هذه المرة للمطالبة بضرورة إقرار الكونغرس الأمريكي تشريعاً يعترف بما سموه «الحق الأبدي وغير القابل للجدال للشعب اليهودي في جبل المعبد»؛ أي المسجد الأقصى المبارك.

تحرك غير مسبوق

الرسالة وقعها 16 شخصية صهيونية متطرفة، منهم وزير الاتصالات شلومو قرعي، ووزير الثقافة والرياضة ميكي زوهار، وعدد من أعضاء الكنيست عن حزب الليكود منهم أرئيل كيلينر، وموشيه بسال، ونسيم فاتوري، وأعضاء كنيست عن حزبَي الصهيونية الدينية، والعظمة اليهودية، المتطرفَيْن؛ مثل سمحا روثمان، وألموغ كوهين، ويتسحاق كروزر، وعدد من الأعضاء السابقين بالكنيست، مثل زعيم حزب الهوية المتطرف موشيه فيجلين، والحاخام الأحمر يهودا غليك، إضافة إلى المتطرف يوسي داغان، رئيس مجلس منطقة السامرة لمستوطني الضفة الغربية، وأرييه يتسحاق، نائب رئيس بلدية القدس.

لم يسبق أن تداعت شخصيات اعتبارية لطلب تشريع رسمي من الكونغرس يتعلق بالمسجد الأقصى

لدى النظر في طبيعة الشخصيات التي وقعت على هذه الرسالة وتنوعها ما بين وزراء وأعضاء كنيست حاليين وسابقين ومسؤولين من تيار الصهيونية الدينية، وحزب الليكود، فإن هذا ينذر بأن هذه الرسالة ليست بالتي يمكن تجاهل خطورتها في هذه المرحلة، ذلك أنها وجهت إلى جميع أعضاء الكونغرس الأمريكي بغرفتيه؛ النواب والشيوخ، وذلك لأجل الاستفادة من موجة الجنون الجامحة التي تجتاح الولايات المتحدة الأمريكية في بداية عهد الإدارة الحالية بزعامة دونالد ترمب الذي يعيد الآن تعريف كل شيء في السياسة الأمريكية الخارجية، ويعيد التموضعات وترتيب القضايا الشائكة بأسلوب غير مسبوق من العنجهية والبلطجة السياسية التي ترقى للفوضى، وليس لديه في هذا الأمر غير ثابت واحد واضح في سياسات إدارته؛ وهو الانحياز المجنون لا لدولة الاحتلال نفسها، وإنما تحديداً لتيار الصهيونية الدينية اليميني المتطرف في «إسرائيل»! وهنا منبع الخطورة.

***

الشخصيات التي وقعت على هذه الرسالة من الشخصيات المعروفة بتبنيها السياسات العميقة لجماعات المعبد المتطرفة في دولة الاحتلال، بل إن بعضها من المنظرين لهذا التيار وممن يصنعون سياساته مثل الحاخام يهودا غليك الذي حاول الشاب الفلسطيني معتز حجازي اغتياله نهاية أكتوبر 2014م، فمن المعروف عن هذا الحاخام كونه العقل المدبر الرئيس لكثير من تحركات جماعات المعبد المتطرفة في المسجد الأقصى، ويعد بالتالي أحد صانعي سياسات تيار الصهيونية الدينية الكاهاني المتطرف فيما يتعلق تحديداً بالمسجد الأقصى.

وبالرغم من أن هذه الشخصيات الصهيونية طالما عُرِفَ عنها محاولات العمل لتنفيذ أجندة تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى والسيطرة عليه وتحويله إلى كنيسٍ يهودي، فإنه لم يسبق أن تداعت شخصيات بهذا العدد وبهذه الصفات الاعتبارية لطلب تشريع رسمي من الكونغرس الأمريكي يتعلق بالمسجد الأقصى تحديداً، وخاصةً أن «الأقصى» له خصوصية غاية في الحساسية كما هو معلوم.

ولذلك، فإن السياسيين الأمريكيين على مدار سنوات الصراع كانوا ينأون بأنفسهم بعيداً عن الإفتاء في قضيته خوفاً من تعريض مصالح الولايات المتحدة للخطر، وخاصة أن هذا الأمر يمس مباشرة الأردن الذي يعتبر حليفاً قوياً للولايات المتحدة في المنطقة كما هو معروف، يُستثنى من ذلك تصريح جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي الحالي ترمب، عام 2017م، عن وضع المسجد الأقصى، عندما اعترفت إدارة ترمب الأولى بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، في ذلك الوقت ونقلت سفارتها إليها من «تل أبيب»، حيث حاول كوشنر يومها أن يستمزج رأي العالم الإسلامي عندما صرح بأن وضع الأماكن المقدسة في القدس ينبغي أن يكون متفَقاً عليه لكن ضمن السيادة «الإسرائيلية» المعترَف بها على القدس، فصدرت تصريحات مختلفة يومها رفضت هذا الأمر باعتبار أنه يعني تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى بالكامل؛ ما أدى إلى إهمال هذا التصريح من كوشنر وعدم أخذه على محمل الجدية.

واليوم، ومع التطورات المتسارعة في العالم عقب عملية «طوفان الأقصى» وخلال الحرب على قطاع غزة، يجد أتباع تيار الصهيونية الدينية في هذه الأيام فرصتهم التاريخية لانتزاع اعتراف أمريكي رسمي بحقوقٍ دينيةٍ لليهود في المسجد الأقصى المبارك، وهو الأمر الذي يتجاوزون فيه تفاهمات كيري عام 2015م التي حصلوا فيها يومها على ما سماه جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية، يومها «حق الزيارة» للمسجد الأقصى دون حق العبادة والصلاة.

***

كيان مهزوز

قد يتساءل المرء هنا: لماذا يرى هؤلاء أنهم يحتاجون هذا الاعتراف الأمريكي بشدة؟ والواقع أن إجابة هذا السؤال تكمن في فهم الشخصية «الإسرائيلية» المهزوزة سياسياً التي لا ترى في نفسها القدرة على البقاء دون الولايات المتحدة.

وهذه النقطة ربما تغيب عن أذهان الكثير من المحللين عند محاولة فهم علاقة دولة الاحتلال بالولايات المتحدة، بالرغم من أن التعلق «الإسرائيلي» بدعم الولايات المتحدة يعتبر حجر الأساس في الثقة «الإسرائيلية» المفرطة بالنفس خلال أوقات الأزمات.

التعلق «الإسرائيلي» بدعم أمريكا حجر الأساس في الثقة «الإسرائيلية» المفرطة بالنفس

فعلى سبيل المثال، في بداية حرب 7 أكتوبر 2023م، عندما أراد وزير الدفاع «الإسرائيلي» السابق يوآف غالانت أن يرفع معنويات شعبه المهزوم نفسياً في أعقاب عملية السابع من أكتوبر قال في خطابه: «أطمئن الشعب أن الولايات المتحدة معنا»، وذلك لأنه يعلم ماذا يعني تعلق الصهاينة بالدعم الأمريكي باعتبارها القوة الأولى في العالم.

ولذلك، فإن هؤلاء في تيار الصهيونية الدينية يرون أن عدم تشجيع الولايات المتحدة الرسمي لفكرة بناء كنيس في المسجد الأقصى خصوصاً ولأفكار اليمين المتطرف في دولة الاحتلال عموماً، خلال فترات الإدارات السابقة، كان دائماً السبب الأكثر أهمية في فشل تيار الصهيونية الدينية في تحقيق آماله وتطلعاته في السيطرة على المسجد الأقصى أو بناء كنيس فيه.

***

وبالتالي، فإنهم يتأملون أن يساهم التغيير الجنوني الذي يجري حالياً على يد اليمين الأمريكي المتطرف ضمن إدارة ترمب الجديدة في تغيير هذه المعادلة، وتحويل الولايات المتحدة إلى شريك يقود عملية السيطرة الصهيونية على المسجد الأقصى ويواجه هو العالم الإسلامي في هذا التحدي بدلاً من دولة الاحتلال.

بعد كل ذلك، ينبغي أن نقول هنا: إن هذه النظرة لدى تيار الصهيونية الدينية فيما يتعلق بالمسجد الأقصى لا تخلو من سذاجة ممزوجة بالغرور، فهؤلاء ما زالوا يحاولون إقناع أنفسهم أن الولايات المتحدة قادرةٌ بأسلوب العصا والبلطجة على تحقيق ما تريد في العالم، وهم مخدوعون بانتفاخ ترمب الكاذب في الحقيقة، ولم يكلف أحدٌ منهم خاطره بأن ينظر قليلاً للوراء، ليرى أن الولايات المتحدة فشلت في تحويل مشروع الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال إلى مشروع عالمي؛ لأن العالم كله رفض تلك الخطوة الأمريكية عام 2017م بالرغم من التهديدات الجوفاء لسفيرة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، حين أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 129 صوتاً قراراً يرفض إجراءات ترمب ويؤكد أن القدس تحت الاحتلال غير الشرعي، ولم يلحق بالولايات المتحدة منذ ذلك الوقت غير بضع دول هامشية لا يعرِف بعضَها أحدٌ!

فلماذا يظن هؤلاء أن إصدار المتطرفين الإنجيليين من الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي تشريعاً يعترف بما يسمونه «الحق اليهودي» في المسجد الأقصى يمكن أن يكون له نتيجة مختلفة؟

مشكلة هؤلاء المتطرفين أنهم لا يرون مِن العالم إلا الولايات المتحدة، ويغفلون عن حقيقة مهمة، وهي أن العالم أكبر من ذلك، وعاجلاً أم آجلاً سيدرك العالَم هذه الحقيقة، وسيدرك الأمريكيون في إدارة ترمب هذه الحقيقة، ولكن ربما يكونون قد تأخروا كثيراً حين يدركون أن استعداء العالم كله –كما يفعل ترمب اليوم– لن يضر إلا الولايات المتحدة ومدللتها دولة الاحتلال فقط.

***

نقلاً عن:

https://mugtama.com/articles/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7_%D9%84%D9%88_%D8%B4%D8%B1_%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%86%D8%BA%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A_%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86%D8%A7_%D9%8A%D8%B9%D8%AA%D8%B1%D9%81_%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82_%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B5_