26/12/2023
د. عمر الجيوسي
يقابل المسيحيون إساءات اليهود الكثيرة لهم بدعم غير متناهٍ معنويٍ وماديٍ، خصوصاً المسيحية (البروتستانتية) التي تقيم مذهبها على النبوءة التوراتية في كثير من المعتقدات، والتي لربما أوصلت العلاقة بينهما لمرحلة التزاوج الحضاري.
بمنهج اعتذاري حصلت مصالحة تاريخية بزيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى القدس، ودخوله بيت المقدس بغير قلادته المعهودة -الصليب- نزولاً عند رغبة حاخام صهيوني، بحجة أن الصليب يرمز إلى التهمة التاريخية بالتورط اليهودي في قتل المسيح عليه السلام حسبما يعتقد النصارى.
قديماً مثّلت رؤيا يوحنا ركناً أساسياً في الاعتقاد البروتستانتي لما يسمى (المسيحية الصهيونية) التي تؤمن بمجيء المسيح والبعث اليهودي، وهي عقيدة متهودة ذات تأثير كبير على الأميركيين، وقد أطلق عليها اسم (شهود يهوه) واشتق الاسم من العبارة ” أنتم شهودي يقول يهوه ” الواردة في سفر أشعيا.
وبرغم أن كنيسة شهود يهوه تعتبر مسيحية، إلا أن الشهود ينكرون لاهوت المسيح وعقيدة التثليث وقيامة المسيح بالجسد، بل يعتقدون أن يسوع هو ابن يهوه، ويعتقد الشهود أن العالم مازال في انتظار مجيء المسيح الذي ليس هو المسيح ابن مريم، وإنما مسيحهم المنتظر ليقيم حكمه في “أورشليم”. (نافذة النصوص التوراتية المصهينة)
أما حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في عموم أوروبا بقيادة مارتن لوثر وكالفن وزونجلي، وإن مثلت ثورة من جهة إلغائها وصاية الكنيسة الكاثوليكية ورفضها لكافة صور الابتزاز الكنسي، إلا أنها جعلت من العهد القديم المرجع الأعلى للاعتقاد المسيحي البروتستانتي، مما يعني الإيمان بداهة بنبوءات التوراة عن عودة اليهود إلى فلسطين، والمجيء الثاني للمسيح، فكثير من الأصوليين المسيحيين في الغرب والولايات المتحدة لا يزالون يعتقدون بقوة أن عودة اليهود إلى فلسطين تمثل شرطا مسبقا لظهور المسيح.. ومن ثم فاليهود ممثلون في دولة الكيان الصهيوني الغاصب بفلسطين السليبة، وبقيتهم داخل الأنساق الحضارية الأخرى.. إنما هم بمثابة طلائع بعث جديد على طريق تحقيق حلم الرؤية القيامية في فلسطين. (: الصهيونية غير اليهودية – جذورها في التاريخ الغربي)
انتشر المذهب البروتستانتي (الصهيونية غير اليهودية) في الدول الأوروبية المتقدمة مثل بريطانيا ونصف ألمانيا وهولندا، وحمل المهاجرون الأوائل من البروتستانت إلى أميركا ذلك المفهوم اللاهوتي البروتستانتي، الذي يعلي من شأن العهد القديم بصورة مبالغ فيها، حتى أن أول كتاب نشر في أميركا كان ترجمة سفر المزامير، كما أن جامعة “هارفارد” جعلت أحد شروط القبول بها، القدرة على ترجمة النص العبري الأصلي للتوراة.
كان المهاجرون البروتستانت الأوائل إلى أميركا يلهجون باللغة العبرية في صلواتهم، ويطلقون على أبنائهم أسماء يهودية مأخوذة من قصص التوراة وفلوكلور اليهود، مثل سارة، والعازر، وابرامهم، وداود، كما أطلقوا على ما شيد من مدن كثيرة ومستوطنات أسماء عبرية مثل سالم وحبرون، وغيرها. كما شبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء واعتبروا أميركا هي كنعان الجديدة، واعتبروا مطاردة وإبادة الهنود الحمر مثل مطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين، وربما ذهب البعض إلى تفسير ظاهرة الصهيونية المسيحية في سياقها النفعي المادي، لكن هذا لا يمنع من أن ندفع بها إلى ما هو أعمق من ذلك، فبمقتضى العهد القديم كعنصر أساسي في تكوين الثقافة النصرانية، يمكننا أن نتكهن باحتمال حدوث هذا التزاوج الحضاري بينهما، فضلا عن ظاهرة الصهيونية المسيحية الأرثوذكسية “شهود يهوه” وغيرها من صور ومواقف المحاباة السياسية والاستراتيجية الغربية الراهنة لليهود، نستذكر ما جرى بين أروقة المؤتمر السابع للحوار بين ما يسمى بالأديان السماوية، والذي انعقد بمدينة ميلانو الإيطالية، أواسط شهر أيلول عام 1993، حيث لقيَ الوفد اليهودي حفاوة بالغة في التصنع أثارت حساسية الوفود المشاركة من المسلمين وغيرهم، لاسيما بعد استقبال بابا الفاتيكان، “الراب إسرائيل مائير” كبير حاخامات اليهود، بعد قطيعة طويلة امتدت ألفي عام تقريبا، ما ترجم على أنه مصالحة تاريخية.
بعدها بشهور اعترف الفاتيكان بالدولة اليهودية بعد أن أعلن عن تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، ومنذ ذلك الحين وحتى الأسبوع الثالث من شهر آذار مارس 1998م والفاتيكان بصدد إعداد مذكرة تاريخية توضيحية تفسر موقف الكاثوليك مما يسمى بمحرقة اليهود في أفران النازي “الهولوكوست”، حيث أعلن الفاتيكان رسميا عن اعتذار الكنيسة الكاثوليكية عن عدم القيام بما يكفي لحماية اليهود من الاضطهاد النازي، وأضافت تلك المذكرة أن الكنيسة الكاثوليكية تطلب الغفران للأخطاء التي ارتكبها أعضاؤها، فيما وصف رئيس اللجنة الخيرية المكلفة بالعلاقات الدينية مع اليهود والتي أعدت المذكرة، بأنها “توبة أكثر من اعتذار”.
لذلك فإن السؤال يُطرح، ما مغزى تلك المصالحة التاريخية التي تنازل بمقتضاها البابا وأشياعه في الأرض عن دم المسيح عليه السلام؟! والتي بموجبها تم اعتبار أن المسيحيين يتحملون واجباً أخلاقياً لضمان عدم تكراره أبداً.
نقلاً عن موقع الجزيرة نت: