مختارات من كتاب (سنة الله في الأخذ بالأسباب)

‏21/4/2025 ‏

د. علي محمد الصلابي

إنّ القصص القرآني في سيرة سليمان عليه السلام أشار إلى أساليبه في إدارة الدولة، والمحافظة على ‏التمكين، وهذا الفقه يظهر في النقاط الآتية:‏

‏1.‏     دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها، والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها ‏وجماعاتها، كان هذا هو حال سليمان عليه السلام، ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ [النمل: 20]، وذلك ‏بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والاهتمام بكل جزءٍ فيه، والرعاية بكلِّ واحدةٍ ‏فيها وخاصّةً الضعفاء.‏

ولا شك أنّ القيادةَ تحتاجُ إلى لجانٍ ومؤسساتٍ وأجهزةٍ حتى تستطيعَ أن تقومَ بهذه المهمة ‏العظيمة، وإنَّ سليمان عليه السلام كان مهتماً بمتابعة الجند وأصحابِ الأعمالِ، وخاصّةً إذا رابَه ‏شيءٌ في أحوالهم، فسليمانُ عليه السلام لمّا لم ير الهدهدَ بادر بالسؤال ﴿ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾، ‏كأنّه يسأل عن صحة ما لاح له،  ثم قال: ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾[النمل: 20]، سؤالٌ آخر ينمُّ عن حزمٍ ‏في السؤال بعد الترفق، فسليمان عليه السلام أراد أن يُفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقةٍ ‏فقط، ولكن عن جِدِّ وشدّةٍ، إذا لم يكن الغياب بعذر.‏

لا بد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسيء، ويحسن للمحسن، ولا بدّ من ‏مراعاة التدرج في تقرير العقوبة، وأن تكونَ على قدر الخطأ وحجم الجرم، وهذا عينُ العدالة، ولهذا ‏لم يقطع سليمان عليه السلام بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ، بل جعله متوقّفاً على ‏حجم الخطأ ﴿لأَعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: 21]، وقد استدلَّ أهلُ العلم بهذه الآية على ‏أنّ العقابَ على قدر الذنب، وعلى الترقّي من الشدة إلى الأشد قدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل ‏‏(سنة الله في الأسباب، الصلابي، ص32).‏

‏2.‏     الاهتمام بالأجهزة الأمنية: فلا بدّ للدولة المسلمة أن تهتمَّ بالأجهزة الأمنية، وتحرص أشدَّ ‏الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات، حتى توظَّفَ لخدمة الدين وعقيدة التوحيدِ، ‏ونشرِ المبادئ السامية والأهداف النبيلة، والمثل العليا، وأن تحرصَ على تحبيب الجهاد ‏لأبنائها، بواسطة الأجهزة الإعلامية والوسائل التربوية، وأن تعد النفوس للظروف المناسبة ‏لإقامةِ الدين وإعلاء كلمة الله، وهكذا كان شأن سليمان عليه السلام. كما قال القرطبي ‏رحمه الله: فإنّما صار صِدْقُ الهدهد عذراً له، لأنَّه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان ‏عليه السلام قد حُبِّبَ إليه الجهاد.‏

‏3.‏     الاهتمام بنصر دعوة التوحيد: فلا بدّ للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتمَّ بنصر دعوة ‏التوحيد، وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف، فإنَّ سليمان عليه السلام لمّا استمع إلى خبر ‏القوم المشركين، شمّر عن ساعد الجد لإيصال البلاغ إليهم، وبدأ معهم بالحجة والبيان، ‏قال تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 28].‏

قال القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليلٌ على إرسال الكتب إلى المشركين، وتبليغهم ‏الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام، وقد كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى ‏كل جبّار.‏

ولقد كان كتاب سليمان عليه السلام لملكة سبأ يبدأُ بالرحمة، وتتخلله الكرامة، وآخره ‏الدعوة إلى الاستجابة لله، والاستسلام له سبحانه: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ ‏الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 30 31] (تفسير القرطبي، م13، ‏ص189).‏ 

‏4.‏     الترفُّع على حطام الدنيا: فملكة سبأ عندما أعملت الحيلة لاختبار سليمان عليه السلام، ‏تفتّقَ ذهنُها عن بعث هديةٍ له تمتحِنُ بها حبه للدين، فأظهرَ عدم الاكتراث بهذا المال، ‏وأعلمَ من جاؤوا به أنّ الله تعالى آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى، وآتاه من الدنيا ما ‏لا مزيدَ عليه، فكيفَ يُستمال مثلُه بمثل هذه الهدية، وصارحهم بأنّهم هم الذين من ‏شأنهم الفرح بتلك الهدية، التي ظنّوا أنه سيفرحُ بها، أما هو فلن يقبل منهم إلا الإسلام أو ‏السيف، قال تعالى: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ ‏تَفْرَحُونَ﴾[النمل: 36].‏ 

‏5.‏     المقدرةُ على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب والمكان المناسب: وعدم التردد في ‏القرار الصعب للتغلب على الحال الأصعب، فعندما وجد سليمان عليه السلام أنَّ القوم ‏مازالوا على الشرك، بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلابته في الحق، قال للوفد الذي ‏جاء بالهدية: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ ‏صَاغِرُونَ﴾[النمل: 37] ولا مانع من ركوب الشدة مع المعاند، واستعمال القوة في إرهاب من ‏يصد عن الدعوة، فإنّ ذلك قد لا ينفعُ غيره في إنقاذِ الناس من الشرك، بل من المعادن ‏البشرية ما لا يلينُ إلا تحتَ وهج السيف وسنابك الخيل، وكان هذا الأسلوبُ سبباً في ‏إسلام ملكة سبأ، وانقيادها وجنودها لسليمان، ولا مانع من استعمال الذكاء والعقل ‏النير ودقة التدبير في استجلاب قلوب المدعوين إلى الدين، واستخدام نعم الله في دلالة ‏الخلق على الله، ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم، وتجلب احترام ‏خواصهم، فسليمان عليه السلام لمّا بلغه خبرُ مجيء ملكة سبأ في جمعٍ من حاشيتها ‏وجنودها، أراد أن يُعْلِمَها مدى ما أعطاه الله من قوة، حتى إنّ عرشهـا الذي تركتـه في حمايـة ‏عظيمـة وحرس كثيف سبقها إليه (الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز كامل، ‏‏(9/193).‏ 

‏6.‏     الاستفادة من المهارات والمواهب: على الدولة المسلمة أن تستفيدَ من المهاراتِ والمواهبِ ‏وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية، ووضع الفرد المناسب في مكانه الصحيح. إنّ مملكة ‏سليمان عليه السلام كان فيها من الإنس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدّي مهمة ‏الهدهد، ولكنّ سليمان عليه السلام اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة، ‏فـتخصيصه عليه السلام إيّاه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء ‏على التصرف والتعرف، لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة (سنة الله في الأسباب، ‏الصلابي، ص35).‏

*******

المراجع: ‏

•       سنة الله في الأسباب، علي الصلابي، دار ابن كثير.‏

•       الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة للنشر والتوزيع، ‏طبعة: الأولى، ١٤١٥ هـ – ١٩٩٥ م

•       تفسير القرطبي.‏