خاص هيئة علماء فلسطين
28/4/2025
د. محمد همام سعيد عضو المكتب التنفيذي في هيئة علماء فلسطين

نعيش في هذا المقال مع إمام من أئمة الجود في هذه الأمة، مع السباق لكل خير وفضل، صاحب البصمة الخالدة والأثر البالغ الممتد في تجهيز المجاهدين في سبيل الله، وهو أحد السابقين الأولين، وأحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرة بالجنّة، وأشد الأمة حياء، ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد تكررت فيه على لسان النبي ﷺ نصوص الفضائل، وكان مما قال فيه: “ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضر ابن عفان ما عمل بعد هذا اليوم”[1]، وسنتوقف مع سيرة التجهيز الجهادي لهذا الصحابي المعطاء.
فقد تقصّى عثمان رضي الله عنه بفقهه العميق عن أولى مجالات الإنفاق في سبيل الله، المجال الذي تتضاعف فيه الأجور أضعافا كثيرة ، والذي لا يعدله شيء في ميدان العطاء في سبيل الله، فوجد ضالته بعد سماعه للنبي ﷺ وهو يحث المسلمين على تجهيز المجاهدين وإخلافهم في أهليهم فقال “من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومَنْ خلفه في أهله بخير فقد غزا”[2] وقال: “من جهّز غازياً في سبيل الله حتّى يستقِلّ، كان له مثل أجره، حتّى يموت أو يرجع”[3] وقال: ” من أظل رأس غاز، أظله الله يوم القيامة، ومن جهز غازيا، حتى يستقل بجهازه، فله مثل أجره”[4] فعلم رضي الله عنه بعد سماعه لهذه الأحاديث أن الإنفاق في تجهيز المجاهدين حتى يستقلوا هو أفضل الإنفاق وذروة سنامه؛ لأن المنفق فيه ينال أجر الغازي في سبيل الله، حتى يستشهد أو يرجع، وهذا الأجر لا يعدله أي أجر في البر والإنفاق، ثم لما كانت غزوة تبوك حضّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصّدقات فقال :”من جهّز جيش العسرة غفر الله له” فجاء الصحابة بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بنصف ماله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: نعم مثل ما جئت به، وتصدق بعض الصحابة بجزء من أموالهم[5]، وكانت تلك فرصة عثمان رضي الله عنه ليحظى بأجر التجهيز فاغتنمها أيما اغتنام، فجهّز عثمان بن عفان- رضي الله عنه- نصف ذلك الجيش وبلغ عدد الجيش ثلاثين ألفا، حتى إنه كان يقال: ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شُنُق[6] أسقيتهم[7]، وقد روى الأحنف بن قيس، قال: سمعت عثمان رضي الله عنه، يقول لسعد بن أبي وقاص، وعلي، والزبير، وطلحة رضي الله عنهم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز جيش العسرة غفر الله له»، فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا؟ قالوا: اللهم نعم[8]. فسمّي رضي الله عنه مجهّز جيش العسرة، وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو لعثمان بقوله: «اللهمّ ارض عن عثمان، فإنّي عنه راض»[9] وقد أنفق نفقة عظيمة، جمع فيها بين الذهب والبعير والخيل المجهز بكل ما يحتاج إليه المجاهد، فقد أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال فصبها في حِجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: “ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارا”[10]، وروى الزهري “أن عثمان بن عفان رضي الله عنه حمل في غزوة تبوك على تسعمائة بعير وأربعين بعيرا ثم جاء بستين فرسا فأتم بها الألف”[11]، فقد قدم ألف دينار من الذهب وألفا من البعير والخيل حين ضاقت الأرض على الصحابة، وقلّت الموارد، وأقبل الروم بجيوشهم.
وإذا تأملنا في فقه التجهيز عند عثمان رضي الله عنه وجدناه يحرص كل الحرص على التجهيز التام الذي يستقل به الغازي فلا يحتاج بعد ذلك إلى شيء، فقد كفى المجاهدين كل شيء حتى الخيوط التي تربط بها أسقيتهم، وهذا يدل على فهمه العميق وتطبيقه الدقيق لما ورد في الحديث في فضل تجهيز الغازي حتى يستقل، وذلك كي ينال أجر التجهيز؛ لأن الوعد المذكور مرتب على تمام التجهيز.
واليوم نعيش في هذه الأيام وكأنها أيام العسرة، فحريٌّ بنا بعد مضي ثمانية عشر شهرا على معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة والتجويع الشاملة ضد غزة الصامدة وضفة المقاومة أن نستذكرَ هذه العسرة، ونسأل: أين عثمانها المعطاء، وأين فقه تجهيز المجاهدين وتمكينهم يا أهل العطاء، ومع أن الدعم متواصل من أهل العطاء في الأمة، إلا أنّ العسرة أعظم والحرب على غزة حرب تصطف فيها الدول العظمى في عالم اليوم مع الكيان الصهيوني المجرم، تمده بكل أنواع المدد من سلاح وعتاد وتموين وغذاء ومال، فضلاً عن الجنود والخبراء وطائرات التجسس وغير ذلك الكثير، وهذا يستلزم من أهل العطاء في هذه الأمة أن يقتدوا بعثمان رضي الله عنه فيبذلوا نفائس أموالهم في سبيل الله لإمداد المجاهدين أولا، ولإغاثة المنكوبين ثانيا، وإعمار غزة ومخيمات الضفة ثالثاً.
يا أهل القدرة من أبناء الإسلام اعلموا أنه إذا نفذ سلاح المجاهدين في غزة وإذا سقطت قلعة غزة الصامدة التي تدفع الخطر عن أمة الإسلام بسبب ذلك فإن الإثم العظيم سيعم كل من كان لديه فضل مال ولم يقدمه في سبيل الله، إن إمداد المقاومة بالمال وإغاثة الحاضنة الشعبية في غزة بأي نوع من من أنواع الإغاثة يدخل في باب تجهيز المجاهدين وإخلافهم في أهليهم.
يا أهل الخير والعطاء في أمة الإسلام ألا تحبون أن تدخلوا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم “اللهمّ ارض عن عثمان، فإنّي عنه راض” ألا تحبون أن تكونوا ممن يقال لهم: “ما ضر فلان ما عمل بعد اليوم” ألا تحبون أن تحشروا مع الخليفة المعطاء عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[1] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة حديث رقم 1279
[2] أخرجه البخاري في صحيحه من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعا، حديث رقم 2843
[3] أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعا، حديث رقم 2758
[4] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعا، حديث رقم 2482
[5] سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، 5/ 435.
[6] الخيط أو السير الذي تعلق به القربة، والخيط الذي يشد به فمها
[7] سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، 5/ 435.
[8] أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده حديث رقم 82.
[9] السيرة النبوية لابن هشام، 5/ 197
[10] أخرجه أحمد في مسنده 5/ 63
[11] الشريعة للآجري، 4/ 1748
**************
نقلاً عن موقع مجلة المجتمع: