خاص هيئة علماء فلسطين

         

19/10/2024

د. محمد همام سعيد عضو المكتب التنفيذي لهيئة علماء فلسطين

تعد الصورة الحية التي قدّرها الله عز وجل لاستشهاد القائد المجاهد البطل يحيى السنوار من الصور النادرة التي مرت في تاريخ القضية الفلسطينية لقائد ينال الشهادة مشتبكا مجاهدا حاملا سلاحه، فقد حصل ذلك مع رمز الجهاد في فلسطين الشيخ عز الدين القسام، ثم مع القائد عبد القادر الحسيني، لكن هذه الصورة الحية تتميز عن تلكم الصور بأنها نُقلت نقلا حيا بالصوت والصورة داحضة روايات الجيش الصهيوني ومن والاه من جهات وقنوات غربية وعربية، مع حشد من الدروس العظيمة والرسائل الناطقة التي شاء الله عز وجل أن يكرم بها هذا القائد الشهيد، ويظهر للأمة نيته وعمله وجهاده على أيدي عدوه، والناظر في هذه الدروس والرسائل يستشعر إلهام المولى عز وجل لهذا الرجل وتوفيقه له، فقد كان ملهما في خطة الطوفان العظيم، ملهما في قيادته، وملهما أيضا في خطة جهاده الخاص،

ومن تلكم الدروس والرسائل:

  • وجود القائد في الجبهة وفي مكان متقدم بالقرب من العدو ومباشرته للقتال بنفسه، فيه دلالة على عبقرية هذا القائد الذي يتحرك بعكس كل توقعات العدو، وفيه رد عملي قاطع على كل ما روجه العدو وأولياؤه عن اختباء القائد العظيم في أعمق نفق وتترِّسه بالأسرى الصهاينة واختبائه بين المدنيين وغيرها، أما الدرس الأعظم فقد كان صورة اقتداء لما كان من حال الصحابة رضي الله عنهم  مع النبي المجاهد الشهيد صلى الله عليه وسلم بالقرب من العدو واحتماء الصحابة به عند اشتداد الوطيس فقد قال علي رضي الله عنه: «كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أقرب إلى القوم منه» وهذا قائدنا العظيم يتمثل بسيرة المصطفى ويقتدي به، مع أنه كان يمكنه أن يجلس في مكان آمن محصن يدير المعركة وهو مطمئن مرتاح.
  • القتال والجهاد حتى الرمق الأخير بالرغم من قطع في يده اليمنى وتهشمها والإصابات البليغة في جسده، فلم يجلس ولم تثنه شدة الألم، بل استخدم كل ما يمكنه استخدامه في القتال، حيث بدأ برمي قنبلتين على الجنود الصهاينة وأصابهم إصابات بليغة، ثم ختم المشهد بإلقاء عصا بيده الأخرى المصابة على الطائرة المسيَّرة، وهذا الموقف يجدد في الأمة سيرة ذي الجناحين جعفر الطيار رضي الله عنه وسيرة سالم مولى أبي حذيفة، وفيه دلالة على رتبة الشهادة العالية (الشهيد الممتحن) التي نحسب أن القائد أبا إبراهيم وإخوانه الشهداء نالوها والله حسيبهم، فعن عتبة بن عبد السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” القتلى ثلاثة” وقال عن أولهم: ” رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة” فيا لها من مرتبة، ويا لها من خيمة.
  • قيامه بربط يده بسلك لإيقاف نزف الدم، فقد حصل أجر الكَلم والجرح في سبيل الله قبل أن يرتقي شهيدا، وأجر الكَلم في سبيل الله عظيم، فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده. «لا يُكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يُكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون دم والريح ريح المسك» فكيف بمن جرح وقطعت يده وهشمت في سبيل الله ثم ربط يده بسلك حتى يستمر في جهاده ثم جاهد حتى استشهد.
  • استشهد مرتديا جعبته العسكرية، يحمل الرصاص، ومعه القنابل اليدوية، مع أنه كان يسعه، وهو المسؤول السياسي، أن يجلس في مكتب محصن بلباس مريح، وفي هذا الاستعداد رسالة إلى شباب الأمة وشيبها أن يُعدّوا أنفسهم ويستعدوا ويلبسوا جعبهم لمواجهة هذا العدو الذي يريد أن يسيطر على بلاد الإسلام ويوسع كيانه من النيل إلى الفرات وما بعدهما.
  • طلب من مرافقيه أن يتفرقوا ولم يطلب من أحدهم أن يرافقه مع حاجته لمن يساعده بسبب إصابته، فلقي العدو وحده، حيث يظهر في هذا الموقف حرص هذا القائد المقدام على أتباعه ومرافقيه، لعل أحدهم ينجو ويكمل طريق الجهاد والإثخان في العدو، ثم نجده يقاتل العدو بنفسه وحده، وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” ثلاثة يحبهم الله عز وجل، يضحك إليهم ويستبشر بهم”، ثم ذكر الأول منهم، فقال: “الذي إذا انكشفت فئة، قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله عز وجل ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي كيف صبّر لي نفسَه”، وهذا القائد المقدام صبَّر نفسه لله عز وجل نحسبه كذلك، قاتل أمام المجاهدين بنفسه حتى استشهد فهنيئا له بإذن الله محبة الله وضحكه إليه واستبشاره به.
  • حمله لكتيب الأذكار والمسبحة تدل على أنه كان كثير الذكر عالما عاملا مطبقا لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الأنفال الآية: 45).
  • حمله لكتيب الأدعية النافعة، فيه دلالة على كثرة دعائه واعتصامه بربه وتوكله عليه ودعائه له سبحانه، وفيه اقتداء بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ قال الله سبحانه فيهم: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} (سورة الأنفال، الآية: 9) وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستغاثته يوم بدر أنه قال: (اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم)، وكأنني بأبي إبراهيم رحمه الله كان يقول في دعائه اللهم إن تهلك هذه العصابة المجاهدة لا يجاهد أحد هؤلاء الصهاينة بعد اليوم.
  • الغبار الذي كان عليه قبل استشهاده، وبعد استشهاده، له فيه كرامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ” فكيف بمن اغبر جسده كله ثم أصيب ثم قتل بقذيفة أسقطت عليه الركام.
  • حتى السكاكر التي كان يحملها إنما هي سكاكر لتطييب رائحة الفم وكأنه كان يريد أن تبقى رائحة فمه طيبة عطرة وهو يذكر الله عز وجل حتى لا تتأذى الملائكة الكرام برائحة فمه، يا الله ما أطيبك وأطيب ريحك وأرق فؤادك أيها القائد المقدام.
  • حمله لعبوة صغيرة من العطر رخيص الثمن، فيه اقتداء بسيرة الصحابة الأجلاء حيث كانوا يتحنطون ويتعطرون عند القتال، فقد أخرج البخاري في صحيحه قال: أتى أنس بن مالك في يوم اليمامة ثابتَ بن قيس، وقد حسر عن فخذيه وهو يتحنط، فقال: يا عم، ما يحبسك أن لا تجيء؟ قال: الآن يا ابن أخي، وجعل يتحنط.. ثم جاء، فجلس، فذكر في الحديث انكشافا من الناس، فقال : هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم ، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوَّدتُم أقرانَكم”. ثم خرج فقاتل حتى قتل.
  • كان المشهد الأخير من حياة هذا القائد الشجاع المقدام دروسا لا تنتهي، فكيف ببقية مشاهد حياته وجهاده وكيف بمشهد طوفانه العظيم.

رحمك الله أيها القائد المقدام ورضي عنك وأرضاك، وتقبل منك جهادك وصبرك وثباتك عند الأسر وقبله وبعده، وتقبل منك ومن إخوانك تجديد الجهاد في الأمة، وفتح الطريق لتحرير المسجد الأقصى، اللهم ارفع درجات أبي إبراهيم في عليين، وبارك فيه وعليه وصل عليه، اللهم وتقبله في الصديقين والشهداء والصالحين واجعله من رفقاء نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم.