خاص هيئة علماء فلسطين
27/11/2025
إعداد: د. محمد سعيد بكر
المحاور
منذ زمن بعيد وأهل الباطل على اختلاف أفكارهم ومواطنهم وأيدلوجياتهم يُبطنون ويُعلنون الحرب على (جماعة) من المسلمين ويتهمونهم، ويطعنون وينكلون بهم، ويحاولون تجريمهم ومسحهم ومسخهم، ويحرصون على اختراقهم واستهدافهم واستنزافهم .. فمن هي هذه (الجماعة)؟ وما جنايتها وجريمتها التي جعلت حتى رأس الكفر والعهر والإرهاب العالمي يحاربها ويحظرها؟!.
هل يمكن أن تكون هذه (الجماعة) هي المافيا التي تتاجر بالمخدرات والممنوعات وتستبيح بيع لحوم وأعضاء البشر .. أم هل يمكن أن يكونوا من الذين أهدروا مقدرات بلادهم واستغلوا مواقعهم السياسية والوظيفية لمصالحهم الشخصية .. أم هل يمكن أن يكونوا عملاء وجواسيس للماسونية العالمية .. أم هل يمكن أن يكونوا من فئة الخوارج التي تكفر الناس ولا تحترم الدماء .. أم هل هم عصابات باطنية تخفي الشرور وتُظهر التسامح واللين؟!.
الذي يشهد به القاصي والداني ممن عاش مع هؤلاء أو تعامل معهم؛ أنهم ليسوا من هذه الأصناف كلها .. حتى خصومهم الذين يعلنون اليوم حظرهم ومنعهم والتضييق عليهم يعرفون ذلك جيداً .. فقد سمح هؤلاء الخصوم لهذه (الجماعة) بالعمل في المجال السياسي والدعوي والاغاثي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في جميع البلاد فترة من الزمن .. فما الذي تغيَّر !! .. ولماذا هذا التحول والانقلاب .. وكيف يُصدق الناس أن هؤلاء الكرام أصبحوا محل تجريم وإدانة؟!.
إن من الإنصاف أن نبين مَن هي هذه (الجماعة) التي تتعرض للظلم اليوم من القاصي والداني .. فنصرة المظلوم واجبة .. لا سيما إذا كان هذا المظلوم في الأصل نصيراً للمظلومين في الأرض .. ولعلنا نحكي عن هذه (الجماعة) ونبين صورتها الحقيقية من خلال هذه النقاط:
هم (جماعة) من المسلمين، تعاهدوا فيما بينهم على إعادة استئناف الحياة الإسلامية للأمة، بعد سقوط الوعاء السياسي الجامع لها (الخلافة الإسلامية).
وهم يستهدفون في برامجهم التوعوية الدعوية الصغار والكبار والرجال والنساء والساسة والتجار وعموم الناس بلا استثناء.
وهم قوم عمليون ينزلون إلى واقع الناس ويقدرون احتياجاتهم؛ فيشاركون في المؤسسات والنقابات والبرلمانات والوزارات.
وهم يرون في الجهاد فريضة الوقت لمقاومة المحتل، وإيقاف المستبد عند حده.
وهم تتسع صدورهم للخلافات الناشئة عن تعدد الآراء الفقهية والفكرية والعقدية، طالما أنها في حدود الشريعة الإسلامية.
وهم يُقدِّرون الأولويات، ويحسبون الموازنات، ويصبرون على أذى وتنكيل الحكومات، ولا يفتحون الجبهات ويقللون الخصومات.
وهم يحسنون إقامة العلاقات وإطلاق المبادرات وإيجاد الحلول للمشكلات.
وهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء ولا حتى صحابة .. ولكن أياديهم في الجملة نظيفة وقلوبهم على أمتهم وأوطانهم سليمة .. فهم يدفعون من جيوبهم، وهم أمناء على أموال مَن يثقون بهم، يضعونها في مكانها.
وهم أصحاب مبادرة في نصرة المستضعفين وإغاثة الملهوفين ومقاومة المحتلين.
وأعظم جرائمهم؛ أن الاسلام بالنسبة لهم ليس مجرد طقوس تعبدية ولا حلقات علمية ولا حوارات فلسفية .. بل هو مصحف وسيف، ودين ودولة، وجامع وجمعية ومجمع وجامعة ومجتمع، وأنهم يُعلنون بوضوح؛ بأن الله غايتهم، والرسول زعيمهم، والقرآن دستورهم، والجهاد سبيلهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم.
هذه (الجماعة) من المسلمين كُتبهم مبثوثة وأدبياتهم منشورة، وهم بين الناس يظهرون ولا يستخفون .. وإنجازاتهم المباشرة وغير المباشرة لا ينكرها إلا جاحد .. ومع هذا وذاك يحاول الفاسدون المفسدون شيطنتهم وطردهم وحصارهم .. فأين تكمن المشكلة تحديداً ؟ وما سبب هذه الحرب المعلنة والمبطنة عليهم؟!.
السبب بوضوح أن منظومة الفساد المحلية والعالمية لا تقبل من يقف في وجهها ويعارض نهجها .. لاسيما في المستوى السياسي والاقتصادي والفكري .. فهذه (الجماعة) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .. وهذا مما يراه (المنتفعون) من الفساد والظلم والاستبداد والاغتصاب، إعلان حرب صريحة عليهم.
أما عن سبب الهجوم الكبير على هذه (الجماعة) مؤخراً؛ فهو حصول أمرين اثنين ظهر لأهل الباطل من خلالهما قوة هذه الفئة وحجم تأثيرها في الناس .. وهذان الأمران هما:
ثورات الربيع العربي؛ والتي تسببت بها أو استثمرتها هذه (الجماعة) بالدعوة الصريحة إلى إسقاط أو إصلاح الأنظمة الفاسدة فساداً عميقاً.
طوفان الأقصى؛ والذي قامت به هذه (الجماعة) لإحياء قضية فلسطين، وبغية تحرير الأسرى، وإيقاف اليهوود وأعوانهم عند حدهم.
وهذين الأمرين المشروعين عقلاً وشرعاً، مِن واجب الأمة أن تشكر هذه (الجماعة) على القيام بهما أو دعمهما أو استثمارهما لمصلحة الأمة لا لمصلحتها الشخصية .. فهذه (الجماعة) في الواقع هي أكبر الخاسرين من هذين الأمرين .. وهي ترى في تلك الخسائر؛ تضحيات لأجل الله تعالى، لا تريد عليها من الناس جزاءً ولا شكوراً.
لقد قدمت هذه (الجماعة) الكثير من قادتها وأبناء قادتها وجنودها وأنصارها شهداء في، سبيل الله .. ونصرة للأمة وقضاياها العظيمة .. وعانت ما عانته في سجون الظالمين ولا تزال تعاني .. ووقع عليها الظلم الشديد .. وتم اتهامها اتهامات كثيرة منها؛ بأن لديها أجندات خارجية، وأنها تريد إفساد البلاد والعباد، وغيرها من الدعايات الباطلة التي تشبه ما قاله فرعون عن موسى عليه السلام، قال تعالى: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ” (غافر: 26).
لقد شاركت هذه (الجماعة) مشاركة فاعلة في بعث الصحوة الإسلامية، وإحياء الدين، وتجديد التدين، وحافظت على أجيال من المسلمين في شتى البلاد من موجات الشذوذ والتعهير والتكفير، ومكنت لقيمة الوسطية والاعتدال في عقول أبنائها ومَن حولهم .. ومنعت كثيراً من الفتن كالعصبية والعنصرية وغيرها.
لقد حمل فكر هذه (الجماعة) نخبة من العلماء والمفكرين والأطباء والمهندسين والأساتذة والمعلمين والحرفيين والتجار .. وما كان لهؤلاء أن يسيئوا الاختيار .. فقد اختاروا فكراً نقياً صافياً أقرب إلى روح الإسلام مِن كثير مِن الأفكار الشائعة .. والكمال لله وحده .. “فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” (الأحزاب: 23) .. ومن أجمل ما قاله الشيخ القرضاوي في مؤسس هذه (الجماعة) رحمهما الله:
لكَ يا إِمامِي يا أعزَّ معلــــمِ
يا حاملَ المصباحِ في الزمنِ العَمِي
يـــا مرشدَ الدنيا لنَهجِ محمـدِ
يا نفحةً من جيلِ دارِ الأرقــمِِ
حَسَبوك مِتَّ وأنتَ حيٌّ خــالد
ما ماتَ غيرُ المستبدِّ المُجـــرِم
شيَّدتَ للإسلامِ صَرحًـا لم تكُنْ
لَبِناتُه غيرَ الشبابِ المُسلـــمِ
وكتبتَ للدنيــا وثيقةَ صحوة
وأبَيْتَ إلا أن تُوقِّعَ بالــــدمِ
ولم يشفع لهذه (الجماعة) تاريخها النظيف أمام أنظمة غادرة؛ تعشق (الكرسي) ولا ترقب في مؤمن عهداً ولا قرابة، ولا تراعي مصالح البلاد والعباد .. فأطلقت أبواقها من سحرة الإعلام وقنوات التواصل لتخوين هذه (الجماعة) الصابرة المحتسبة.
إن من أسوأ النماذج التي واجهتها هذه (الجماعة) أؤلئك الناكرين لفضلها ودَورها ممن كانوا مِن جنودها أو قادتها .. فقد حملتهم الخصومة على الفجور وارتموا في أحضان الباطل، وصاروا يفترون على مَن كان لهم عليهم فضل .. هذا لأنهم ليسوا أحراراً بل عبيد .. فالحر مَن راعى وِداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة.
لقد ابتليت هذه (الجماعة) بمن يطعنها من داخلها وخارجها .. وقد مضى عليها زمان طويل، ويبدو أنها أصبحت بحاجة إلى صيانة كبيرة أو تطوير وتجديد، لأن الذي لا يتجدد سوف يتبدد .. وهذا التجديد يتطلب شجاعة عالية، وقدرة على المحافظة على الثوابت والمرونة في المتغيرات .. وما فكر هذه الفئة وعملها إلا اجتهاد بشري؛ فيه الخطأ والصواب .. ولكن حسبها المحاولة والجد والتخطيط والمناورة والكر والفر.
والأصل لزوم الموضوعية والعدل عند إرادة تقييم هذه (الجماعة) .. فالأفكار والمبادرات يتم تقييمها بالنظر إلى الإنجازات في مقابل الإخفاقات على ضوء الفرص والتحديات .. والناظر إلى هذه (الجماعة) المباركة يجد أن الفرص التي أتيحت لها أقل بكثير جداً من التحديات التي تعرضت له .. فلا يجوز محاكمتها وتقييم أدائها بحسبة سنوات وجودها فحسب، كأن يقال ماذا قدم هؤلاء خلال مائة عام خلت؟!.
ولنا أن ننظر إلى جناحهم في فلسطين مثلاً .. وكيف أنه أبلى بلاء حسناً، فاق التصور في الجانب الأمني والعسكري والسياسي والاجتماعي والدعوي والإعلامي .. في ظروف غاية في التعقيد .. وهذا من فضل الله عليهم، ثم ببركة تضحيتهم وبذلهم وثقة الناس بهم.
وختاماً
وسام شرف .. وشهادة حسن سلوك .. أن يتهمك المجرمون بما هو فيهم وليس فيك .. فهم المتطرفون الإرهابيون المستبدون .. وأنت الساعي في الخير .. والمحرض على البر .. والمحفز على المعروف .. وأخطاؤك البشرية في مقابل جرائمهم الوحشية لا تُذكر.
إننا (وللإنصاف)إذا أردنا أن نعيب على هذه (الجماعة) من الناس فإن ثمة عدد من المؤاخذات عليهم، لعل منها ما يأتي:
دخول الدنيا إلى قلوب بعضهم.
تنازع بعضهم والصراعات فيما بينهم.
غفلة بعضهم وسذاجتهم وإحسانهم الظن في خصومهم.
إهمالهم نقاط قوتهم وضعفهم .. وعدم استثمارهم للفرص في مقابل التحديات.
إهمالهم منهج الإعداد التراكمي التكاملي.
ضعف استثمارهم للموارد البشرية والمادية.
عدم استفادتهم من تجاربهم وتجارب غيرهم.
تساهل بعضهم في بعض الثوابت .. وجمودهم عند بعض المتغيرات.
خوفهم من التضحية بصورها المختلفة، وتلبسهم بالجبن في صورة الحكمة.
تقديمهم من يستحق التأخير .. وتأخيرهم من يستحق التقديم (أحياناً).
وفي المقابل فإنه لا بد من تعداد بعض صور الظلم الواقع عليهم، ومن ذلك ما يأتي:
قذفهم واتهامهم بما لم يفعلوه .. ولم ينووا مجرد نية فعله.
استباحة مؤسساتهم ومشاريعهم وجمعياتهم التي بنوها طويلاً.
نكران جميلهم واعتبارهم دخلاء، وأصحاب أجندات خارجية، وطارئين على أوطانهم.
التجسس عليهم ومراقبتهم، والعبث بخصوصياتهم.
اختراقهم وتمزيقهم والعبث في نسيجهم.
محاولات ابتزاز قياداتهم، ترغيباً وترهيباً، ومنعهم من الوظائف والمجالس المستحقة لهم.
تعطيل أعمالهم وأسفارهم، ومحاولات عزلهم عن المنابر ومواقع التأثير.
معاقبة أهلهم والمقربين منهم.
التزوير في مختلف الانتخابات ضدهم.
تجييش جميع الأبواق المأجورة ضدهم.
ومن هذا المنطلق .. فإنه لا يجوز توبيخهم بسبب أخطائهم التي هي في معظمها أخطاء بشرية متوقعة، وفي حق أنفسهم .. كما لا يصح حظرهم واتهامهم بالإرهاب وغيرها من الأوصاف التي تنطبق على الجهات التي اتهمتهم أكثر مما تنطبق عليهم .. والغفلة في الوقت ذاته عن الظلم الواقع عليهم ..
كما لا يجوز تغافلهم عن أخطائهم وظلمهم لأنفسهم .. فقد ظلم بعض الصحابة أنفسهم يوم غزوة أحد .. فتسبب ذلك الظلم بوقوع المصيبة والفشل (بحسب التعبير القرآني حول نتيجة تلك الغزوة) على الفريق كله .. ثم كشف القرآن الكريم عن أخطائهم بلا محاباة حتى يتعلموا .. دون أن يسكت عن كفر الكافرين وعهرهم وعربدتهم وإجرامهم.
اللهم إن إخواننا مظلومون؛ فانتصر لهم وانصرهم على من ظلمهم وطغى وبغى عليهم .. اللهم افتح لهم وبهم وعليهم .. وخلصهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم